العالم يرصد سلبيات التاتشرية والريغانية في انجلترا وأميركا

واقع العولمة ينسف مقومات التفاؤل

  • الصورة :
  • الصورة :
  • الصورة :
صورة
ت + ت - الحجم الطبيعي

منذ 85 عاماً انتفضت مياه المحيط الأطلسي بأنباء مروعة عن انهيار بورصة الأوراق المالية الأميركية في وول ستريت، كان ذلك بالطبع في عام 1929، لم يكد يمضي عام واحد إلا وتوالت أنباء أشد وأنكى عن وقوع أزمة رهيبة أصابت كل جوانب الاقتصاد الأميركي، وحملت من يومها العنوان الدال: «الكساد الكبير»، بمعنى الفادح الرهيب.

ولاتزال حوليات التاريخ الأميركي في القرن العشرين تضم صفحات المعاناة التي كابدتها القطاعات الشعبية هناك، وكان في مقدمتها مثلاً إصابة 16 مليون نسمة بداء البطالة، بمعنى أن أكثر من ثلث العاملين هناك أصبحوا بغير عمل وبغير أجور وبغير ما يسد الرمق، في التحليل الأخير.

أخطر ما في تلك الأزمة، أنها لم تكن لتقتصر على أميركا، بل عبرت عقابيلها مياه المحيط، كي تصيب شظاياها أكثر من دولة في غرب أوروبا على وجه التحديد، ومنها بالذات ألمانيا التي ما إن ضاقت أحوالها الاقتصادية حتى أتاحت صعود القوى السياسية الخطيرة التي حملت عنوان النازية بزعامة أدولف هتلر (1889- 1945).

هذه الكوابيس الاقتصادية- السياسية هي التي أوحت أفكار الكتاب الذي نعرض له في هذه السطور، وقد اختار له مؤلفه – الكاتب الإنجليزي مارتن وولف العنوان التالي: التحولات والصدمات: ماذا تعلمناه وماذا ينبغي أيضاً أن نتعلمه من الأزمة المالية.

3 أبواب أساسية

يقسم مؤلفنا مارتن وولف كتابه إلى ثلاثة أبواب:

• الأول: ويعرض لتاريخ الأزمة المالية- الاقتصادية ويحمل عنوان الصدمات.

• الثاني: ويحلل الظروف العالمية، بالأدق العولمية، التي شكلت أسباب اندلاع تلك الأزمة وقد اختار له المؤلف عنوان التحولات.

• الثالث: ويحمل عنوان الحلول، وقد جاء هذا الباب الأخير على شكل سلسلة أفكار تجمع بين دقة التشخيص وبين استشراف سبل المواجهة وأساليب العلاج.

وفي لمحة مفعمة بروح التقييم الصريح، فضلاً عن النقد الذاتي، ينتقد المؤلف صفوة الأكاديميين وصانعي القرار الاقتصادي في أميركا وأوروبا بالذات، وكان في مقدمتهم – كما يوضح الكتاب – محافظو البنوك المركزية – على أساس أنهم كانوا مصابين في رأيه، بداء الجهل والغرور، وهو ما أدى إلى تفاقم الأزمة المالية – الاقتصادية التي صوّر لهم خيلاؤهم أنها بعيدة – إن لم تكن مستحيلة – الحدوث.

ها هو البروفيسور روبرت لوكاس، الذي يصفه مؤلفنا بأنه أهم أستاذ متخصص في علم الاقتصاد الكلي (ماكرو إيكونومكس) يلقي خطاباً بجامعة شيكاغو في عام 2003 (خلال حقبة المحافظين الجدد وحكم الحزب الجمهوري في رئاسة جورج بوش- الابن) وفيه يؤكد الأستاذ الكبير على أننا توصلنا إلى حل المشكلات التي تكفل تجنب أزمات الركود الاقتصادي.

وهذه الحلول من شأنها أن تستمر فاعلة على مدار العقود الزمنية المقبلة (طبعاً لم يكد تمر سوى 5 سنوات حتى انهارت تلك الحلول، واندلعت الأزمة التي جاءت لتعيد إلى الأذهان كارثة الثلاثينات).

في السياق نفسه يوجه المؤلف انتقاداته إلى ما ذهب إليه المفكر الأميركي ميلتون فريدمان (توفي عام 2006) ويعدّونه أكبر دعاة ورأس مفكري الليبرالية الاقتصادية التي ترتبط بما يعرف في الأدبيات الاقتصادية المعاصرة باسم مدرسة شيكاغو:

البروفيسور فريدمان كان يقول – أو كان يتصور– أن كارثة الكساد في العقد الثلاثيني إنما وقعت لأن الاحتياطي الفيدرالي في أميركا (البنك المركزي) فشل في المبادرة إلى إنقاذ – تعويم البنوك المتعثرة في تلك الأيام، ولو كان قد فعل لأمكن تحاشي وقوع الكارثة المذكورة أعلاه.

تزداد المسألة تفاقماً حيث يعرض كتابنا، بروح من المفارقة المتهكمة على طريقة الإنجليز لمشهد بن برنانكي الذي يعّد في طليعة مسؤولي الاقتصاد في الولايات المتحدة، وقد تولي أيضاً منصب رئيس الاحتياطي الفيدرالى الأميركي، كما أسلفنا: وقف برنانكي خطيباً يوم الاحتفال بعيد الميلاد التسعيني للبروفيسور ميلتون فريدمان مخاطباً عميد الاقتصاديين.

وقال: سيدي، لقد كنت على حق، وقد فعلنا ما طالبتَ به ونحن نشكرك ولن نقصّر في هذا الأمر من جديد.

عندما وقعت الأزمة

لكن الذي حدث - يؤكد مؤلفنا - هو أن وقعت الأزمة في عام 2008، وكان برنانكي هو المسؤول الاقتصادي رقم واحد في أميركا، وبادر مع أقرانه من مسؤولي الاقتصاد في أوروبا إلى مد أطواق الإنقاذ إلى البنوك المتعثرة تحت شعارات التحفيز، ولكن لم يحل ذلك دون وقوع الأزمة التي يتقصى هذا الكتاب أسبابها الجذرية.

حيث يعزوها المؤلف إلى ما شهدته مرحلة النيو- ليبرالية التي ألمحنا إليها من اعتماد مغرِق في المبالغة على أموال القروض وعلى توزيع السلفيات والرهن العقاري على نطاق أكثر من واسع، وخاصة في مجال العقارات .

فيما بين عشرات الآلاف من المقترضين الذين عجزت جموع منهم عن الوفاء بمواعيد ومبالغ السداد، وهو ما أوصل العديد من بيوتات الأموال – في وول ستريت بالذات – إلى حال من الانهيار، بل والاندثار في بعض الأحيان.

من ناحية أخرى تعترف فصول هذا الكتاب بأن المخططين والمسؤولين الاقتصاديين هم بَشَر في كل حال: فلقد مضى حين قريب من الدهر قوامه ربع قرن أو نحوه، ويمتد من عقد الثمانينات وإلى موعد وقوع الأزمة إياها في عام 2008.

فيما كان العقد الزمني المذكور: بين حقبة ريغان إلى رئاسة جورج بوش يتسم بقدر معقول ومشهود من الاستقرار المالي (بلغ ذروته في حقبة بيل كلينتون على مدار التسعينات)، لكن هذا الاستقرار النسبي أدى إلى إصابة مسؤولي الاقتصاد بآفة الإفراط في الثقة إلى حدود الغرور، وهنا نحمد للمؤلف من جديد اعترافه بالإمعان في هذه الحالة من التفاؤل غير المحسوب.

العدالة واللامساواة

في معرض العلاج، وبالأدق في سبيل ألا تعاود الأزمة فرض وطأتها القاسية، وخاصة على اقتصادات دول وشعوب شتى في طول العالم وعرضه، يحفل كتابنا بإشارات وتحليلات، تعكس الدعوة إلى إقرار ما يمكن وصفه بأنه مراعاة العدالة الاجتماعية ضمن سياق النشاط الاقتصادي.

 وفي تصورنا أن مؤلف هذا الكتاب لم يكن ليملك ترف التجاهل إزاء ظاهرة تفاقم آفة الفقر التي لم تفلح المنظومة الدولية حتى الآن في مواجهتها والتماس مخرج معقول للتخلص من براثنها، بكل ما تعززه مثل هذه الأوضاع السلبية من انحرافات في الفكر والسلوك والتطلعات والتصورات، التي قد تجسدها غائلة الإرهاب المسلح المتفشية في طوال عالمنا وعرضه على السواء.

هنا يتوقف كتابنا ملّياً ليؤكد على مكافحة مشكلة اللامساواة في جانبيها الاقتصادي والاجتماعي. ويرى في هذه المكافحة واحداً من السبل الكفيلة بتجنّب وقوع، أو فلنقل، استفحال الأزمة المالية- الاقتصادية، التي مازالت مواضع شتى على خارطة عالمنا تعاني منها حتى الآن.

وقبل أن يسوق المؤلف في الكتاب أمثلة من أوضاع أفريقيا أو آسيا أو أميركا اللاتينية، وحتى لا يتهمه الناقدون بأنه يتعامل مع أمثلة تقليدية، أو يطرح نماذج نمطية، كما قد نسميها، من حالات اللامساواة أو الفقر أو العوز أو الحرمان، فإن مؤلفنا يبادر ليسوق نموذج الأزمة الراهنة التي تعانيها منطقة اليورو وهي التابعة بداهة لمنظومة الاتحاد الأوروبي.

أوجاع منطقة اليورو

صحيح أنها تشكل نموذجاً نسبياً لا سبيل إلى مقارنته مع نماذج أقل الدول نمواً ومن ثم أشدها فقراً في عالمنا، لكن الصحيح أيضاً أن اليورو زون إياها باتت تضم أطرافاً أو أعضاء تعاني اقتصاداتها، ومن ثم يكابد مواطنوها أحوالاً من الضيق والشظف الاقتصادي بكل المعاني (ثمة نماذج باتت مطروحة ومنها اليونان أو أيسلندا على سبيل المثال).

ومن الطريف أن يقارن المؤلف حالة العضوية في منطقة اليورو السابقة الذكر، وربما الانتماء الراهن في الاتحاد الأوروبي ذاته، بأنها أقرب إلى زواج يجانبه التوفيق من كل ناحية: الطلاق حلّ باهظ الكلفة، أما الاستمرار في الرابطة الزوجية فهو أيضاً محفوف بدوره بكل المغارم والتكاليف.

لكن الكتاب في مجمل طروحاته – وكما يقول البروفيسور جوزيف ستغلتز أستاذ الاقتصاد الأمـــيركي الحاصل على جائزة نوبل – يأتي بمثابة صيحة تحذير بالغة القوة والرصانة ضد الاستسلام إلى شعور التفاؤل على غير أساس.

وهو الشعور الذي طالما راود الكثير من أقطار شمالي الأطلسي (جماعة الناتو- أميركا وحلفاؤها)، وعلينا أن نعترف برأي ستغلتز «أننا غارقون في حمأة الوهن الاقتصادي، ومن المستبعد أن نخرج مــن هذه الحالة في وقت قريب».

سببان وراء اهتمام الاختصاصيين بأفكار المؤلف

 

صدر هذا الكتاب في سبتمبر الماضي، ومازال موضع اهتمام المحللين الاقتصاديين والسياسيين والأكاديميين المعنيين بالقضايا الاقتصادية، حيث يرجع هذا الاهتمام المتعمق والمتواصل إلى أمرين أساسيين:

• الأول: أن مؤلفنا مارتن وولف مازال يصنَّف على نحو ما يقول كاتب متخصص آخر هو فيلكس سالمون ضمن فئة الصحافيين الكبار بل العظام في مجال الكتابة الاقتصادية، ومن ثم فهو يتصدر هذه الفئة خلال عمله في صحيفة «الفاينانشيال تايمز» البريطانية (نيويورك تايمز، عدد 25/9/2014).

• الثاني: إن أحوال عالمنا باتت مختلفة تماماً عن أحوال عقد الثلاثينات من القرن الماضي، وخاصة في ضوء ظاهرة التشابك والتفاعل والتداخل التي أصبحت سمة هذا العالم الراهن، بعد أن حلّت عليه الألفية الثالثة وقد أصبح قرية إلكترونية معولمة.

وهو ما جعل نيران الأزمة المالية- الاقتصادية التي أصابت أميركا، ونشبت مرة أخرى في وول ستريت، ينتقل لهيبها وتطير شرارتها لا عبر مياه الأطلسي وحسب، بل أصابت كل أرجاء المعمورة، على اختلاف الأيديولوجيات والنظم الاقتصادية.

ويكتسب هذا الكتاب أهميته أيضاً من واقع الدعاوي الجريئة التي يتبناها عبر السطور والفصول، حيث تنعى الصفحات الاستهلالية تعثر الخطوات التي سبق اتخاذها على مدار فترة السنوات الست (2008- 2014) لمواجهة الأزمة المالية – الاقتصادية وقد وصفها كتابنا بالتردد والوجل والقصور والافتقار إلى شجاعة القرار.

وفي تصورنا أن أهم ما في الكتاب إنما يتمثل في أكرم أو أشرف ما فيه: لماذا؟

لأن المؤلف لا يتردد في الاعتراف في كتابنا بأنه كان على خطأ على مدار السنوات السابقة على وقوع الأزمة الاقتصادية.

وعلى سبيل التوضيح، يستعرض مؤلفنا وقائع حقبة الثمانينات من القرن الماضي التي صاحبت تنفيذ النهج الذي اعتمدته مارغريت تاتشر في إنجلترا ثم واكبتها سياسات الرئيس الأميركي الأسبق رونالد ريغان.

رفعت تلك الحقبة شعارات التاتشرية بالإضافة إلى شعارات الريغانومكس، وأكدت على تكريس إجراءات حملت شعارات النيوليبرالية الاقتصادية والتحرير الاقتصادي.

هكذا تكلم كروغمان

أبدى عدد كبير من المحللين الاقتصاديين العالميين اهتماما كبيرا بكتاب «التحولات والصدمات»، وفي مقدمتهم جوزيف ستغلتز وبول كروجمان وأندرو روس سوركين وبن برانكي وجورج سوروس ولورنس سومرز.

وقد تناول كروجمان الكتاب بالتحليل المفصل في مقال مطول نشرته مطبوعة «نيويورك ريفيو أوف بوكس» الاختصاصية. وصفه فيه بأنه تناول مطول يستند إلى معرفة عميقة بموضوعه، وأن المؤلف قدم خدمة مفيدة للغاية للقراء بوضع كل العناصر المتعلقة بموضوعه بين يدي القراء في مجلد واحد.

وكان محقا في التأكيد أن الصورة الأكثر اكتمالاً للأزمة الاقتصادية تقتضي الاهتمام بالعالم على نطاق شامل. وأشار كروجمان إلى أن الكتاب يقدم دراسة معمقة للكيفية التي وصل بها العالم إلى الأزمة وحلولاً بارعة مقترحة للخروج منها.

المؤلف في سطور

مارتن وولف كاتب صحافي بريطاني متخصص في مجالات الرصد والتحليل الاقتصادي، وهو ما أهّله لشغل منصب نائب رئيس التحرير وكبير المحررين الاقتصاديين في صحيفة «الفاينانشيال تايمز» اللندنية الشهيرة، وهو مولود في لندن عام 1946 وتلقى تعليمه العالي متخصصاً في العلوم الاقتصادية بجامعة اكسفورد.

وقد منحته ملكة إنجلترا وسام الفارس الرفيع في عام 2000، فيما أعطته مدرسة لندن الشهيرة للاقتصاد درجة الدكتوراه الفخرية، اعترافاً بالخدمات الجليلة التي أسداها لمجال الدراسات والتحليلات الاقتصادية.

لعل أهم ميزة يتسم بها هذا الكتاب، وهو من تأليف كاتب اقتصادي مخضرم ومقتدر، هي فضيلة الاعتراف بأن المؤلف، ورفاقه من مفكرين ومسؤولين ومحللين، كانوا على خطأ، أو أنهم ركنوا إلى حالة من وهْم التفاؤل.

وخاصة على أساس طروحات مدرسة النيو- ليبرالية في مجال الاقتصاد، وهو النهج الذي يقضي بالتصدي لإلغاء كل اللوائح والقواعد التي من شأنها تنظيم بل وترشيد الأداء الاقتصادي، وهي تحول دون ممارسة الاحتكار لصالح القلة المحظوظة، وعلى حساب الغالبية المحرومة.

وقد أدى هذا إلى حالة من اللامساواة على نحو ما يندد به مؤلف هذا الكتاب الذي عمد إلى تقسيمه إلى ثلاثة أبواب ما بين الصدمة التي تمثلت أخيراً في الأزمة المالية – الاقتصادية، التي ألّمت بأميركا ومن ثم بأوروبا والعالم منذ عام 2008، وبعدها كانت التحولات التي استجدت على أوضاع دول وشعوب كثيرة ناجمة عن عواقب تلك الأزمة، وأخيراً يأتي الباب أو القسم الثالث من طروحات الكتاب.

في محاولة لطرح ما ارتآه المؤلف من حلول هي أقرب إلى مخارج على الدول أن تلتمسها وتطرق أبوابها، وفي مقدمتها تجنب حالة التفاؤل غير القائم على أساس، ثم التصدي لأوضاع اللامساواة الناجمة عن أحوال الفقر من أجل استعادة وتفعيل دور الدولة في تنظيم المسيرة الاقتصادية، بدلاً من استبعادها أو نفيها بعيداً عن هذا المجال.

 

عدد الصفحات: 464 صفحة

الناشر: مؤسسة بنغوين، نيويورك، 2014

Email