فكرة الكمبيوتر بدأت مع ابنة لورد بايرون في القرن التاسع عشر

العبقرية والقدرة عنصران أساسيان للابتكار والاختراع

صورة
ت + ت - الحجم الطبيعي

من هنا يحفل هذا الكتاب بأحاديث وتحليلات حول سير وإنجازات نحو 60 شخصية من المفكرين والعلماء والمديرين والمبتكرين ممن أضافوا إلى صرح الإبداع البشري تلك التيسيرات، المذهلة أحياناً، وخاصة ما يتعلق منها بوظائف الحاسوب الإلكتروني .

كان ذلك منذ 30 سنة إلا قليلاً: في عام 1985 أصدر الكاتب الأميركي جورﭺ سيلدز كتابه الموسوعي بعنوان الأفكار العظيمة وقتها كان عمره 94 سنة وكان قد أمضى نحواً من 24 سنة في تجميع مادة كتابه المذكور .

لكي يقدم للعالم خلاصة تلك الأفكار والنظريات والتصورات، التي حولت العالم، على مر التاريخ، من مجرد ساحة يعيش على سطحها المخلوق البشري إلى حيث أصبحت صرحاً باذخاً ينتفض بالحيوية ويزخر بكل ما أضافته إلى الحياة إبداعات البشر وابتكارات التطور وتجديدات الحضارات. وفيما احتوى كتاب سيلدز على رحيق الأفكار العظيمة في مجالات الفكر والفلسفة والتعليم ..

وما إليها، فقد عمد كاتب أميركي آخر – معاصر لنا هذه المرة - إلى انتهاج نفس الأسلوب الذي يتابع إبداعات زماننا الراهن، وخاصة ما أصبحت تجود به هذه الألفية الثالثة من إضافات رائعة، خطيرة وغير مسبوقة، والمهم أن كلّا من الكتابين، السابق الذي ألمحنا إلىه..

والراهن الذي نقلب صفحاته، يصدر عن مقولة بسيطة وحكيمة أيضاً سّجلها الشاعر الأميركي إيمرسون حين قال: «العظماء هم الذين يرون في الجانب الروحي قوة أعظم وأبقى من الجانب المادي، هم الذين يؤمنون بأن الأفكار هي التي تحكم العالم.»

كتابنا يحمل العنوان الرئيسي التالي: «المبتكـــــــــــــــرون»، وتنصرف هذه الكلمة إلى معانٍ شتى لكن يجمع بينها الفكرة التالية: المجددون، المبدعون.

وقبل أن ينصرف الذهن إلى مبدعي أعمال الشعر أو القصّ وما في حكمها، فها هو مؤلف كتابنا يبادر إلى تنبيه، بل وتحضير القارئ إزاء مادة الكتاب، حين يضيف عبارات دالة على صفحات الغلاف ويمكن أن ينصرف معناها – مع التصرف في الترجمة – إلى ما يلي: كيف استطاعت مجموعة (هل نقول عُصبة) من هواة وقراصنة الحاسوب (الهاكرز) ومَنْ على شاكلتهم من الهواة الموهوبين، أن يبدعوا الثورة الرقمية التي نعيشها في الوقت الحالي.

مؤلف هذا العمل المتميز هو الباحث الكاتب الأميركي والتر إيزاكسون الذي سبق في عام 2011 إلى إصدار مؤلَّفه الشهير عن ساحر الحاسوب الأميركي – السوري الأصل ستيف جوبز. وقد صدر الكتاب المذكور بدوره بعد أسابيع قليلة ليس إلا من رحيل جوبز، الذي مازال إسمه مرتبطاً بمؤسسة آبل الشهيرة، وكان جوبز عند رحيله الأبدي في أوج الشباب.

البداية من شاعر الرومانسية

وبحكم الثقافة الواسعة لمؤلفنا، فهو يدلف بنا إلى موضوع الكتاب على مهاد من بيت جميل لويليام وردزورث شاعر الرومانسية الشهير في أدب الإنجليز يقول: مبارك ذلك الذي شاءت حظوظه أن يعيش تباشير الفجر الجديد.

كان الشاعر الإنجليزي يتحدث عمن عاشوا إرهاصات وتباشير ثورة الحرية والمساواة في فرنسا (1789)، والمعنى أن مؤلف كتابنا يغبط حظوظ الأجيال الحالية، حيث شاءت لها أقدارها أن تعيش إرهاصات وتباشير عصر الحاسوب، وزمن الإنترنت وسبل التواصل الإجتماعي، التي حطمت بشكل موضوعي ومشهود حقاً حاجز الزمان وإطار المكان، ولاتزال توافي سكان المعمورة بكل ما حظي به العقل البشري من مَلَكات الإبتكار ومواهب الإبداع إلى غير ما حدود.

وربما لا يعرف الكثيرون، وهو ما حرص كتابنا على تسجيله وإثباته، أن الحاسوب الإلكتروني (الكمبيوتر) بكل إمكانياته المذهلة لم تكن فكرته وليدة القرن العشرين، بل ترجع الفكرة – هل نقول الحلم – كما يذكر مؤلف كتابنا- إلى العقود الأولي من القرن التاسع عشر..

وهنا يتردد بالذات على صفحات هذا الفصل من الكتاب إسم الشاعر الإنجليزي لورد بايرون (1788 – 1824) الذي كانت ابنته أوغسطا أدا أول من كتب عن حلم يراود البشرية بالتوصل إلى ماكينة يتم اختراعها كي تنهض بعمليات التفكير والترتيب وإجراء الحسابات، لا عجب أن تعمد وزارة الدفاع الأميركية إلى أن تطلق على أول كمبيوتر بدأت في استخدامه الإسم التالي: «أدا».

حكاية بيل غيتس

يحتفل الكتاب والقارئ أيضاً بأسماء من دفتر التاريخ مثل ﺴﺘﻳفﻨسون، مخترع قطار السكة الحديد في مستهل القرن 19، وصولاً إلى بيل غيتس الذي يطلق عليه الأوصاف التالية: ذلك الموهوب المتعصب الذي أودعت الطبيعة فيه «نطفة (جينات) تحدي المخاطر». فضلاً عن «عدم اكتراث إزاء السلطة»، وهو أيضاً– غيتس الصبي- الذي بدأ حياته العامة بأن أبرم مع شقيقته عقداً يقضي بأن تكون له حقوق يُطالب بها لاستخدام قفاز الأخت المستخدم في لعبة البيسبول.

وإذ يمضي كتابنا في متابعة السيرة الذاتية لرائد البرمجيات (السوفت وير) فإنما ليكشف – هل نقول يفضح بخفة روح؟ سلوكيات الفتى غيتس إذ كان طالباً في مدرسة ليك سايد المرموقة، حيث بدأ مع لفيف من رفاق الدرس إنشاء مجموعة أو شركة تحولت إلى عنوان «مايكروسوفت».

وكان أول قصيدة هذا البيزنس كفراً، كما يقول المثل الشائع، إذ لم يتورع تلاميذ المدرسة المحترمة عن سرقة المفاتيح الرمزية التي تستخدمها إدارة المدرسة في التعامل مع ما كانت تملكه من أجهزة الحاسوب، التي كان وقتها تجتاز مراحل مبدئية من التطور والتعقيد.

المهم أن القارئ يجتاز عبر فصول هذا الكتاب معالم رحلة طويلة خاضها العقل البشري، لكي يمتد سلطانه ويبسط سلطاته على جوانب شتي من حياتنا. والمؤلف يتابع هذه الرحلة الشيقة والصعبة أيضاً من خلال متابعة معالم الأحداث وأسماء المفكرين والعلماء والمبدعين والمنظِّمين ومن ثم يستطيع القارئ المتنبه أن يصل إلى استقاء الدروس المستفادة التالية:

• أولاً: إن تطوير جهاز الحاسوب الإلكتروني ما كان يمكن أن يتحقق – على نحو ما نشهده ونجني ثماره في عصرنا الراهن- إلا بفضل جهود شهدتها الفترة الفاصلة ما بين انتـــهاء الحرب العالمية الثانية في منتصف الأربعينات وحتى فترة انتهاء الحرب الباردة عـــند مطلع التسعينات من القرن العشرين.

وهذه الجهود تمثلت – كما يوضح المؤلف- في استمرار تمويل المجمع العسكري- الصناعي- الأكاديمي في أميركا لعمليات التطوير والتحسين التي أفضت في نهاية المطاف للتوصل إلى جهاز الحاسوب وشبكة الإنترنت.

• ثانياً: إن العناصر التي تفرّغت لمثل هذه الإنجازات، سواء في معاهد البحث أو مختبرات التجريب العملي- لم تكن لتستبعد حافز المكسب المادي، ولا كانت تخشاه أو تخجل من السعي إلىه.

وهذا العامل المادي هو الذي دفع بمؤسسات وكيانات ربحية الإتجاه، بحكم وجودها، إلى المشاركة في هذا المجال وفي مقدمتها طبعاً الشركات التجارية بكل ما كان يتبعها بدورها من مراكز «البحث والتطوير» كما يسمونها، فضلاً عن مجامع القانون والمحاماة، التي كانت تشارك بدأب مشهود في تسجيل براءات الإختراعات التي كانت تجلب بدورها، عشرات، مئات الملايين من الدولارات.

وفي هذه الأجواء حظي سكان عالمنا، على اختلاف المواقع والمشارب والثقافات، بكل ما جادت به هذه الإبداعات الإلكترونية من ثمار ما بين الحواسيب، إلى الهواتف، وما بين الشرائح الإلكترونية إلى أحدث وأنجع خدمات الشبكة العنكبوتية التي حولت الكرة الأرضية - وبحق موضوعي- إلى قرية عولمية إلكترونية بكل تأكيد.

• ثالثاً: إلى جانب حافز العوائد الطائلة والمكاسب المادية، حظي العالم أيضاً بخدمات ومنافع غير قاصدة أساساً إلى اجتناء الربح، وكان في مقدمتها موقع موسوعة الويكيبيديا التي ما برحت تقدم خدماتها المعلوماتية بغير مقابل مادي حتى تاريخه على أقل تقدير، وبرغم تحفظات عديدة على محتوي تلك الخدمات إلا أنها تنطوي في مجملها على إيجابيات شتى من حيث تنوير وتعزيز الوعي الكوكبي العام في التحليل الأخير.

عن زواج التكنولوجيا

يتميز كتابنا أيضاً بتلك النظرة الواسعة، المستنيرة، بل والمتعاطفة بالنسبة إلى محتويات وشخوص هذا التاريخ الحافل الذي انشغل مؤلفنا بمتابعته وتحليله واستقاء العبرة المستفادة من وقائعه.

وربما يأتي في صدارة هذه العِبَر تأكيد المؤلف على أن أهم ما يفيد البشرية في مجال هذا الحقل من الإبتكار والتجديد الإلكتروني هو «الدمج الخلّاق» كما نسميه بين الفن والتكنولوجيا، أو فلنقل بين رؤية المبدع من أجل الإبتكار، ونتاج المختبر من أجل النشر والتوزيع والتسويق.

ولذلك يتحفظ مؤلفنا كثيراً على استخدام وترويج المصطلح الشائع التالي الذي يصدق باستمرار على نواتج الإبداع والتصميم الإلكتروني وهو: كائنات الذكاء الإصطناعي.

في هذا المضمار يقول كاتبنا والتر إيزاكسون: إن المرحلة المقبلة (من حياتنا) كفيلة بأن تجلب المزيد من الطرائق الجديدة التي ستشهد زواج التكنولوجيا بأطراف شتى من حياتنا ومنها: وسائل الإعلام، إبداع الموسيقى، تصميم موضات الأزياء، سبل الترفيه، عمليات التربية والتعليم وإنتاج الآداب والفنون.

ويكاد مؤلف الكتاب يختم ما يذهب إلىه في هذا الصدد ثم تمضي أفكاره على نحو يقول: إن أهم ما نحتاجه هو رأس مال مغامر مقدام، ونظام حكم متمكن ورشيد، ثم أفكار، نعم أفكار كبري، تتطلع وتحلم ويتواصل شعاعها عبر الأجيال.

هذا الكتاب رحلة طويلة ومتعمقة يعيشها المؤلف والقارئ عبر الزمان والمكان. ومحور الموضوع المطروح هو كل ما مرت بها البشرية – في تاريخها الحديث على الأقل- من مراحل التطلع الإنساني إلى اكتشاف وتصميم وانتاج وتشغيل جهاز يمكن أن يحاكي أو يوازي التفكير..

وربما الإبداع البشري بصورة أو بأخرى. من هنا تنطلق مسيرة الكتاب من السيدة أدا وهي إبنة الشاعر الإنجليزي الأشهر لورد بايرون وقد عاشت في النصف الأول من القرن التاسع عشر وتعد – في نظر الكتاب – أول من فكّر في التوصل إلى جهاز يصنعه الإنسان من أجل أن يفكر يوماً على نحو ما يفكر الإنسان، وفيما تحرص فصول الكتاب على ترجمة سير حياة المخترعين والمبدعين الذين أضافوا عناصر التطوير للحاسوب الإلكتروني، ومن ثم إلى شبكة الإنترنت على نحو ما شهدته السنوات الأخيرة من القرن العشرين..

وخاصة بعد انتهاء الحرب الباردة، فإن المؤلف يتعامل مع هذه الظواهر من النبوغ البشري، المختلط بحكم الواقع والضرورة والتجربة بالحلم والخيال ، فإنه يركز على المنطق الذي يؤكد أهمية أن ينطلق هذا كله من واقع ما يصفه الكتاب بأنه عقد زواج مبرم بين التكنولوجيا وبين سائر المسارات العملية في دنيا الواقع، وخاصة ما يتعلق منها بإدارة وتنظيم المشاريع والتطلع إلى الربح ضماناً للإستمرار ومواصلة التطوير.

رؤية «واشنطن بوست»

ضمت صحيفة «واشنطن بوست: صوتها إلى العديد من أصوات الصحف والمجلات البارزة على امتداد العالم التي أشادت بكتاب »المبتكرون«، وذكرت في عرض مطول لهذا الكتاب أنه يقدم تفسيرا ممتدا لتطور أهم عشرة تجديدات في العصر الرقمي، من المنطق الرياضي إلى الترانزستور، مرورا بألعاب الفيديو والشبكة العنكبوتية..

كما يصور الانجازات المثالية التي حققها الذين وصلوا إلى عناصر التجديد البارزة. ويظهر المؤلف بصورة بالغة الجلاء القوة الاستثنائية للعمل القائم على التعاون والتنسيق والتكامل بسن الشركات والمؤسسات، وبهذا فإن هذا الكتاب يعد التاريخ الأكثر شمولا وسهولة في استيعابه للعصر الرقمي.

60 عالماً ومفكراً ومبتكراً قدموا إلى العالم تسهيلات مذهلة

عندما يواصل المؤلف تحليل عقليات ومواهب مبدعي الحاسوب فهو يركز في هذا السياق على ضرورة توافر عناصر أساسية ثلاثة هي:

(1) الموهبة – العبقرية

(2) الإستعداد العملي

(3) القدرة التنظيمية (في إنشاء المشاريع)

ولقد يُحمد لهذا الكتاب اهتمامه الصبور في تقصّي البدايات الجادة والرائدة التي انشغل أصحابها في مراحل سبقت من القرن الماضي بأهمية التوصل إلى هذا الكائن الذي حمل اسم الحاسوب، وفي هذا السياق نطالع مثلاً إشارات الكتاب إلى إنجازات العالم الرائد جون أتانسوف الذي ظل ملازماً للمختبر العلمي الذي كان يعمل فيه بمفرده إلى أن توصّل في عام 1942 إلى ما يمكن اعتباره – كما يوضح المؤلف- جهازاً حاسوبياً قابلاً للتشغيل.

مشكلة أتانسوف أنه لم يكن يولي الإهتمام الواجب بإجراءات التسجيل القانوني لبراءات الإختراع العجيب الذي توصل إلىه، وهو ما أفاد واحداً من زائريه المحنكين – العالم جون موشلي الذي مارس آفة الخبث العلمي والتجارب أيضاً، حيث اقتبس الفكرة واستوعب أجزاءها ثم سارع إلى تسجيل الإختراع ليدخل موشلي التاريخ على إنه أول من اخترع الحاسوب الإلكتروني.

وهنا نتوّه – كقارئين لهذا الكتاب- بتركيز المؤلف على أهمية الإشادة بالعمل وسط فريق من المفكرين – العلماء – المبدعين بدلاً من الجهود الفردية التي يبذلها مخترع وحيد هنا أو هناك..

ويمكن أن تذهب ثمراتها أدراج الرياح، خاصة وأن مبتكرات الحاسوب وثمراتها ومشتقاتها وطبعاً أجهزتها وتوصيلاتها ومحطات خدمتها ومشاغل إصلاحها وتجديدها – كلها أمور وأغراض لا تصلح معها الجهود الفردية، بقدر ما أنها تحتاج بالضرورة إلى فريق العمل متآزراً كما يؤكد المؤلف عبر الفصول والسطور جهود الأطراف المحورية الثلاثة:

- المبتكرون ذوو الرؤية الإبداعية.

- الفنيون ذوو الخبرة التقنية.

- المديرون ذوو المقدرة التنظيمية.

المؤلف في سطور

والتر إيزاكسون مفكر وكاتب وباحث أميركي يبلغ من العمر 62 عاماً . حصل على الليسانس في علم التاريخ ودراسة الآداب من جامعة هارفارد ثم التحق بعدها بجامعة أكسفورد التي درس على كبار أساتذتها علوم الفلسفة والسياسة والاقتصاد، وهو ما أهّله للعمل الصحافي في صحيفة «صنداي تايمز» البريطانية، ثم في مجلة «تايم» الأميركية التي أصبح رئيساً لتحريرها في عام 1996، وبعدها أصبح رئيساً لمجلس إدارة محطة «سي.إن. إن» الإخبارية . وفي عام 2009 أصدر الرئيس الأميركي أوباما قراراً بتعيين المؤلف رئيساً لمجلس أمناء هيئة الإذاعة الوطنية بالولايات المتحدة .

 

 

 

Email