معارك تستحق القتال من أجلها مشكلات المركزية تواجه كبار المسؤولين في اجتماعات البيت الأبيض

باراك أوباما أستاذ رصين ورئيس متردد

  • الصورة :
  • الصورة :
  • الصورة :
صورة
ت + ت - الحجم الطبيعي

يندرج هذا الكتاب ضمن التصنيف الذي يضم عدداً من المؤلفات التي صدرت أخيراً على الساحة السياسية في الولايات المتحدة، خاصة أن مؤلفيها كانوا يشغلون مواقع محورية في سلك الإدارة - الرئاسة الأميركية، وكان في مقدمهم حسب الترتيب الزمني لصدور مؤلفاتهم كل من روبرت غيتس وزير الدفاع الأميركي الأسبق.

ومن بعده هيلاري كلينتون وزيرة الخارجية السابقة والمرشحة الطامحة - كما هو معروف - إلى الرئاسة الأميركية في عام 2016، ثم صاحب أحدث كتاب صادر أخيراً، وهو ليون بانيتا، الذي حكى عبر فصول هذا الكتاب ثمرة تجاربه عبر المواقع المختلفة التي شغلها، سواء في إدارة بيل كلينتون السابقة، أو في الحقبة الرئاسية الأولى لباراك أوباما.

في الكتاب يحاول المؤلف أن يوازن بين الثناء المتحّفظ على أوباما، باعتباره كان أستاذاً لعلم القانون في كبري الجامعات الأميركية، وبين الانتقادات - اللاذعة أحياناً - التي يحفل بها الكتاب بحق أوباما رئيساً وسياسياً، وخاصة ما يتعلق بسلوك التردد إزاء قضايا المصير، وهو ما يعّرض أميركا - بنظر المؤلف - إلى التشكيك في مصداقيتها كدولة عظمي.

وفي السياق نفسه، يحمّل المؤلف إدارة أوباما الحالية مسؤولية عدم التنّبه، سواء من حيث المعلومات الاستخباراتية أو من حيث الخطط الاستراتيجية، إلى استشراء الإرهاب ، وخاصة في العراق.

ويل للحقيقة من السياسة! بالأدق من محترف السياسة. تكاد هذه القاعدة تنطبق على الكتب المهمة التي بادر إلى إصدارها أخيراً لفيف من صانعي السياسة في الولايات المتحدة على مدار الفترة القريبة الماضية.

على رأس هؤلاء الساسة تأتي هيلاري كلينتون، ويأتي روبرت غيتس، ثم يأتي ليون بانيتا: كان الثلاثة من أهم نجوم الإدارة الأميركية في فترة الولاية الأولى (4 سنوات) للرئيس الأميركي الحالي باراك أوباما، هيلاري كانت وزيرة الخارجية، وغيتس كان وزير الدفاع، أما بانيتا فربما كان أهم منصب شغله مدير وكالة المخابرات المركزية (سي.آي. إيه).

بالنسبة إلى غيتس، فقد عمد وزير الدفاع السابق إلى انتقاد أوباما في كتابه بعنوان الواجب، مندداً بما رصده في جوانب شخصيته من ميل إلى التردد، لدرجة أن بدا رئيس الدولة الأميركية وكأنه غير مقتنع بما يكفي إزاء سياسة واشنطن في أفغانستان، لكن غيتس التزم نهج التحوّط حين بادر إلى موازنة هذا الانتقاد بحديث في كتابه الصادر مطلع العام الحالي عن اتساع ثقافة أوباما وعن قدرته - كأستاذ سابق لعلم القانون - على إقناع الآخرين.

التحوّط نفسه التزمته هيلاري في أحدث كتبها الصادر بعنوان «خيارات صعبة»، وإن كان هذا الحذر يرجع - في تصورنا - إلى أنها لا تريد أن تحرق كل سفنها - كما قد نقول - مع أركان حزبها الديمقراطي من مؤيدي أوباما أو معجبيه، فربما تحتاج هيلاري إليهم إذا ما سوّلت لها طموحاتها أن تخوض سباق الرئاسة المرتقب في عام 2016.

أما ليون بانيتا، فقد جاء كتابه الصادر أخيراً ليكون بمثابة تلخيص بالغ التركيز للسنوات الأربع التي أمضاها مسؤولاً محورياً في إدارة أوباما، وزيراً للدفاع ثم مديراً لوكالة الاستخبارات، حيث يشكل الكتاب ما يمكن أن يوصف بأنه جولة أفق، كما يقول الفرنسيون.

معارك تستحق القتال

هذا هو الكتاب الذي نتعامل مع القضايا التي يطرحها خلال هذه السطور، وقد صدر تحت عنوان له دلالته التي لا تخفى، ويمكن ترجمته كما يلي: معارك تستحق القتال من أجلها.

وبديهي أن مؤلفنا - ليون بانيتا - يوّد أن يقول لقارئه، إن الخمسين شهراً التي أمضاها معاوناً لأوباما في هذين الموقعين الخطيرين، لم تكن فترة رخاء أو متعة ميسورة، بقدر ما كانت مرحلة معارك، بمعنى مواجهات مشحونة بالتوتر، وإن كانت - في رأي المؤلف - تستحق ما بذله الرجل من جهود.

والحاصل أن تتجلى عبر صفحات كتابنا، وعلى نحو ما يسهب المؤلف، تلك المواجهات التي كانت تحدث في أحيان كثيرة، وعبر مواقف شتي بين الرئيس باراك أوباما وبين مؤلفنا، ليون بانيتا، سواء كان وزيراً للحرب أو كان على رأس جهاز المعلومات والاستخبارات: في هذا السياق، نلاحظ أن بانيتا لم يقصر على مدار الأشهر الماضية، وبالتحديد مع استهلال الولاية الثانية - الأخيرة للرئيس أوباما في عام 2013 الماضي - سواء من خلال الإدلاء بشهادات موثقة أمام لجان الكونغرس أو بواسطة أحاديثه إلى مختلف وسائل الإعلام.

وفي هذه السياقات، كان ليون بانيتا يعرض ويؤكد عوامل ومواقف ومبررات الخلافات التي احتدمت بينه وبين أوباما، وخاصة حول سياسة واشنطن في الشرق الأوسط، وهو ما أفضى - مع تطور الأحداث - إلى استشراء غائلة الإرهاب الأسود، على نحو ما أصبح مشهوداً في المرحلة الدقيقة الراهنة.

في هذا السياق أيضاً، يمضي مؤلف كتابنا قائلاً: إذا لم نعمل على الحيلولة بين هؤلاء المتطرفين وبين الاستيلاء على مساحات كبيرة من رقعة الشرق الأوسط، فلن يطول بهم الوقت لكي يوجهوا أنظارهم نحونا.

نصائح سابقة للمؤلف

هنا يسجل المؤلف لنفسه، ولتاريخه، أنه طالما كان يلحّ على أركان البيت الأبيض، الرئيس وأقرب مستشاريه، أن يتركوا قوة أميركية صغيرة في العراق، كي تساعد على ما يصفه بأنه حالة الاستقرار الهشة التي كانت تحافظ بالكاد على تماسك العراق، وكان ذلك في عام 2011.

ويؤكد بانيتا في هذا الصدد أن موقفه هذا كان يشاركه فيه أهم أعضاء رئاسة الأركان المشتركة في الجيش الأميركي، فضلاً عن القادة العسكريين الأميركيين العاملين وقتها على مسرح المنطقة ذاتها، إلا أن فريق الرئيس أوباما في البيت الأبيض (يقصد مجلس الأمن القومي بالذات) رفض هذا الموقف.

بعدها يواصل المؤلف تفسير هذا الأمر قائلاً: لقد كان هناك من يرون أن البيت الأبيض كان شديد الحرص، إلى حد اللهفة، على التخلص من (تجربة) العراق، ولدرجة المسارعة إلى الانسحاب، بدلاً من اتخاذ الترتيبات التي كانت كفيلة بالحفاظ على نفوذنا ومصالحنا،

وقبل أن نبادر - لدى مطالعتنا هذه المقولات ومن منظورنا العربي القومي - إلى رفض أي وجود أجنبي على أي أرض عربية، يبادر مؤلفنا من جهة إلى تفسير هذه المواقف التي اتخذها ومعه - كما ألمحنا - لفيف من رئاسة أركان الجيش الأميركي.

يقول بانيتا: ما زلت أعتقد، وحتى الآن، أن وجود قوة أميركية صغيرة، ولكن مركّزة، في العراق، كان كفيلاً بإسداء مشورة فعالة إلى العسكرية العراقية، بشأن أساليب التعامل مع معاودة ظهور تنظيم القاعدة، فضلاً عن التعامل مع آفة العنف الطائفي التي اجتاحت البلد العربي المذكور.

مواقف متضاربة

وحين يتحول منظور هذا الكتاب من التركيز على القضايا الداخلية في الولايات المتحدة، تكاد الصفحات تخلو من أي تفسير معقول - على نحو ما لاحظه أيضاً ناقدو الكتاب - لما يصفه هؤلاء النقاد بأنه فشل إدارة أوباما في توقّع حدوث ظاهرة الربيع العربي، أو في فهم عواقب ما شهدته أقطار عربية عديدة، ما بين مصر إلى ليبيا إلى سوريا، من أحداث ومشكلات وتحولات كان لها تأثيرها البالغ ولا يزال، سواء على الصُعد الداخلية - القُطرية، أو على صعيد المنطقة الإقليمية (الشرق الأوسط)، أو على صعيد العالم كله، وبخاصة الولايات المتحدة، بحكم دورها المحوري الذي ما برحت تضطلع به، أو المفروض أن تضطلع به، منذ انتهاء الحرب الباردة في مطلع تسعينيات القرن العشرين.

صحيح أن كل هذه الأحداث، فضلاً عما لحق بها، وخاصة ما يتعلق باستشراء الآفة الخطيرة التي تحمل اسم «داعش»، قد وقعت بعد أن ترك مؤلفنا، ليون بانيتا كل مواقعه الرسمية التي سبق وأن تبوأها في إدارة باراك أوباما، لكن الأصح أن كان من المنتظر لرجل في مثل خبراته، وقد تنوعت وتعمقت.

وارتبطت على وجه الخصوص بقضايا الشؤون الخارجية والعلاقات الدولية والنشاطات السياسية المؤثرة، سواء كانت علنية أو سرية - مثل هذا الكادر، كان ولا بد في كتاب يحاول أن يلخص تجربة حياة وخبرة عمر، أن يوافي قارئيه بآراء وتحليلات متعمقة، بحيث تفسر، أو تحاول أن تفسر، لماذا يبدو البيت الرئاسي الأبيض وكأنه مفاجأ، إلى حد الصدمة أحياناً، إزاء ذلك الانتشار - الاستشراء السريع للرايات السود عبر مساحات واسعة من أرض العراق، على إثر انسحاب الجيش العراقي من تلك المساحات.

خطورة أسلوب المركزية

هنالك ينعى ليون بانيتا على إدارة أوباما الحالية ما يصفه بأنه الميل المستمر إلى مركزية صنع القرار.

والحق أن مؤلفنا ينسج في هذا الاتجاه الانتقادي على منوال ما سبق إليه زميله روبرت غيتس وزير الدفاع السابق في كتابه «الواجب»، فضلاً عن الكتاب المهم الذي سبق إلى إصداره الكاتب الصحافي جيمس مان، بعنوان لا سبيل إلى ترجمته إلا بلفظة «الأوباميون»، نسبة إلى رهط الرئيس أوباما بطبيعة الحال.

الثلاثة ينعون ما يصفونه بأنه تمركز السلطة في البيت الأبيض، ويفسر مؤلفنا هذه المركزية، بأن اجتماعات المقر الرئاسي كثيراً ما شهدت الوزراء ورؤساء الوكالات المحورية في الدولة، وقد حرموا - بصورة أو بأخرى - من طرح وعرض آرائهم وأولوياتهم، وقلّما كانوا يدعونهم للإدلاء بتلك الآراء وإثراء الحوار في الرئاسة بما حصلوه من تجارب وخبرات.

هنا أيضاً، ينتقد مؤلف الكتاب ما يراه من تذبذب المواقف التي يتخذها باراك أوباما: ومن ذلك أن الرئيس الأميركي اتخذ موقفاً بدا حاسماً في البداية إزاء استخدام السلاح الكيماوي في المعارك الداخلية المحتدمة في سوريا، يومها تحدث أوباما عما كان يصفه بأنه خط أحمر، لكن بعدها عمد إلى تحويل المسألة برمّتها إلى الكونغرس، حيث تتوه أبعادها في وسط دوامة اللجان والجلسات والحوارات، إلى أن تفقد زخمها وتؤول إلى سبات.

وهنا، يحرص مؤلفنا على أن يعلق على مثل هذه المواقف بعبارات يقول فيها بالحرف: لقد كان ذلك يمثل ضربة لمصداقية أميركا: بمعنى أن كان يبعث بالرسالة الخطأ إلى العالم: ذلك لأن قوة الولايات المتحدة إنما تستند إلى كلمتها، وإطلاق الإشارات الواضحة أمر له أهميته، سواء لردع المغامر أو لطمأنة الحليف إلى إمكانية الاعتماد علينا.

 

المؤلف في سطور

ليون بانيتا، اسم كان يتردد باستمرار خلال إدارة الرئيس الأميركي الأسبق بيل كلينتون في عقد التسعينيات من القرن الماضي، بدأ حياته السياسية، وعلى مدار أكثر من 15 عاماً، عضواً في مجلس النواب، وهو ما أكسبه خبرة بآليات العلاقة بين الإدارة الحاكمة وبين الكونغرس .

وبعد ذلك اختاره كلينتون كبيراً لموظفي البيت الأبيض، ثم شغل منصب وزير الدفاع في ولاية الرئيس أوباما الأولى، التي شهدت تعيينه أيضاً في موقع مدير وكالة الاستخبارات المركزية.

وقد بدأ بانيتا - البالغ من العمر الآن 76 سنة - حياته السياسية في صفوف الحزب الجمهوري، وما لبث أن تحول إلى صفوف الحزب الديمقراطي منذ عام 1971 وحتى الآن.

الصراحة إلى حد الصدمة

أبدت صحيفة «واشنطن بوست» اهتماماً كبيراً بكتاب ليون بانيتا، في إطار متابعة الصحافة العالمية له، وخاصة للأسرار التي كشف النقاب عنها.

وذكرت الصحيفة أن الكتاب يعد إضافة قيمة إلى رف الكتب الذي أصدره مسؤولون أميركيون سابقون، وأنه قد أفلح في اجتذاب القراء على اختلاف توجهاتهم إلى حد بعيد، وبصفة خاصة، بأوصافه الصريحة للشخصيات والوقائع التي تعرض لها، والتي وصلت في بعض الأحيان إلى مستوى الصدمة، وهو الأمر الذي يميز هذه النوعية من الكتب، ويجعل الإقبال عليها كبيراً.

بانيتا يعزف نغمة الإشادة بالرئيس رغم الاختلاف معه

 

من محللي هذا الكتاب (ميتشكو كاكوتاني - مثلاً - في «نيويورك تايمز»، عدد السادس من أكتوبر) من استرعى أنظارهم تباين لهجة المؤلف حسب المواضع أو المواقع التي يعرض لها عبر الفصول والصفحات: عندما يتطرق بانيتا إلى الحديث عما جرى ويجري في العراق أو سوريا، يستخدم لهجة متقدة إلى حد لا يخفى من الحماس من ناحية، ومن انتقاد أوباما وأقرب مستشاريه بقسوة من ناحية أخرى.

ولكن هذه اللهجة لا تلبث أن تحلّ محلها لهجة من الاعتدال واللياقة الحذرة الأقرب إلى الدبلوماسية، فإذا بالقارئ يكاد ينسى إن كان المؤلف وزيراً للدفاع ومعارضاً، كما يسجل على صفحات الكتاب لقرارات رئاسة الدولة، وإذا بالقارئ أيضاً يطالع بانيتا الآخر الذي أمضى نحواً من 16 عاماً كاملة في موقع النائب البرلماني في مقاعد وأروقة الكونغرس، وبعدها اختاره الرئيس الأميركي الأسبق بيل كلينتون كبيراً لموظفي البيت الأبيض.

إشادة بالرئيس أوباما

إن المؤلف لا يلبث أن يعزف نغمة إشادة لا تخفى بالرئيس أوباما، وخاصة حين يعرض إلى فترة السنتين اللتين أمضاهما بين عامي 2009 و2011، كأول مدير يعينه أوباما لرئاسة المخابرات المركزية، حيث يشيد المؤلف بإنجاز العملية التي تولتها الوكالة المركزية تحت رئاسته، وأفضت إلى نهاية أسامة بن لادن.

في مواقع أخرى من الكتاب، يلاحظ القارئ ما يمكن وصفه بأنه تناقض المواقف بين انتقاداته لأساليب كانت متبعة في عهد الرئيس السابق جورﭺ دبليو بوش، وكان يصفها بانيتا في تلك الأيام بأنها حولت البلاد إلى أمة تمارس التعذيب وهي مسترخية في المقاعد الوثيرة، ثم إذا به يغضّ الطرف في سطور الكتاب عما كانت تمارسه الوكالة التي عمل مديراً لها من أساليب كانت تجري على المنوال نفسه.

ولدرجة أن أصبح بانيتا - العضو اللطيف السابق في مجلس النواب، والمسؤول رقم واحد عن إدارة المقر الرئاسي في واشنطن في حقبة كلينتون - من أقرب المديرين إلى قلوب مخضرمي وكالة الاستخبارات المركزية، وخاصة فروعها المعنية بالخدمات السرية والعمليات السوبر - خطيرة.

ولعل هذا الإعجاب جاء بسبب موقف بانيتا مدير الوكالة الرافض لإذاعة المذكرات الداخلية للوكالة، ورفع خاتم السرية عن المعلومات المتعلقة بأساليب التحقيقات، التي تمت في عهد الرئيس بوش، بكل ما اكتنف هذه التحقيقات من قسوة تجاوزت الحدود في بعض الأحيان.

 عدد الصفحات: 498 صفحة

تأليف: ليون بانيتا

عرض ومناقشة: محمد الخولي

الناشر: دار بنغوين للنشر، نيويورك، 2014

Email