مستقبل القارة يمر بالسياسة الديمقراطية والاقتصاد الرأسمالي والاستثمار الثقافي

إفريقيا وحتمية اللحاق بقطارالحداثة

  • الصورة :
  • الصورة :
  • الصورة :
صورة
ت + ت - الحجم الطبيعي

يحرص مؤلف هذا الكتاب على استخدام مصطلح «مانيفستو».

والإشارة أو التلميح هنا يفيد بأن هذا المصطلح، ومعناه في المعجم السياسي العربي ينصرف إلى لفظة «البيان»، ظل سائداً ولايزال منذ النصف الثاني من القرن التاسع عشر، وبالتحديد منذ عام 1848 الذي شهد صدور المانيفستو – البيان الذي حمل أفكار كارل ماركس (1818-1883) وصاغها رفيقه في البيان المذكور فردريك إنغلز (1820-1895).

وظل «المانيفستو» المذكور يمثل كما لايزال يصفه النقاد وثيقة محورية أقرب إلى إنجيل الدعوة ومن ثم الحركة الشيوعية القائمة على الأفكار والطروحات الماركسية، وفي مقدمتها الشعاران الأشهر وهما: «ديكتاتورية البروليتاريا» و«يا عمال العالم.. اتحدوا».

وعلى الرغم من أن انقضاء تلك العقود المتوالية من زمن القرنين التاسع عشر والعشرين كان كفيلاً بإحالة مثل هذه الأفكار والدعوات إلى التقاعد، في ضوء تطور أحوال العالم الذي نعيش فيه، ولدرجة كادت فيها أفكار كارل ماركس تصبح مجرد تراث كلاسيكي ينتمي إلى ظروف الماضي، ولا سيما بعد زوال دولة الاتحاد السوفييتي في روسيا.

وكانت تجسيداً لتلك الأفكار، إلا أن مصطلح البيان – المانيفستو ظل في تصورنا صامداً، كي يشير إلى عناصر الإلحاح والتمسك بالأفكار وضرورة المبادرة إلى تغيير الواقع الراهن وصولاً إلى مستقبل أفضل، بعيداً بالطبع عما كان يدعو إليه ماركس وإنغلز وأتباعهما من شرّاح ومفسرين في سالف الأيام.

هذا العنوان المطول

من هنا نستطيع، كقارئين ومحللين، أن نفهم غاية عنوان الكتاب الذي نتناوله في هذه السطور وقد صاغه مؤلفه، الأكاديمي الإفريقي أولوفيمي تايو على النحو المطول التالي: إفريقيا يجب أن تكون حديثة: حتمية الحداثة في إفريقيا المعاصرة: بيان بقلم أولوفيمي تايو.

ينطلق المؤلف مع استهلال الصفحات من فكرة مستجدة إن لم تكن غريبة إلى حد ليس بالقليل: أنه ينعى على إفريقيا، وهي قارته الأم كما قد نسميها، عدم ترحيبها بالأخذ بأسباب الحداثة، وهو نفسه التوجه الذي سبقه إليه المفكر المارتنيكي فرانز فانون.

ويكاد قارئ هذا الجزء من الكتاب يشعر بمدى تجرد المؤلف، وكأنه يمارس نوعاً حميماً وصادقاً من أساليب النقد الذاتي، حين يقلب نظره في أحوال القارة السمراء، ولا يملك بأمانة الأكاديمي سوى الاعتراف بأن هناك أطرافاً شتى في شرق القارة وغربها إلى جنوبها مازالت أقرب إلى التمسك بأساليب معيشة عفا عليها الزمن.

كما يقولون، وأصبحت بالية إن لم تعد تصلح لما آلت إليه أحوال العالم والبشر مع مطالع هذا القرن الواحد والعشرين، لم يعد من الجائز مثلاً أن تستمر الأعراف العشائرية والعصبيات القبلية لتشكل عوائق تحول دون فعالية التطور ونجاح التطور في عصر العولمة الذي أدت فيه تكنولوجيا المعلومات والاتصالات إلى تحويل عالمنا إلى قرية كوكبية.

من هنا يذهب مؤلفنا إلى أن هذا التوجس والتردد إلى حد العداء الذي ما زالت تضمره إفريقيا، أو فلنقل تنطوي عليه أجزاء شاسعة من مساحتها، إنما يؤدي إلى تأثير يراه المؤلف سلبياً للغاية في مجالي التنمية الاقتصادية والتحوّل الاجتماعي.

3 سبل للعلاج

وفي ضوء هذا التشخيص المبدئي للمشكلة التي تواجهها إفريقيا، يبادر المؤلف من جانبه إلى ما قد نصفه من جانبنا بأنه وصفة علاج مبدئية أو عمومية بدورها، ويحرص على أن تضم هذه الوصفة ثلاثة سبل على طريق هذا العلاج ويلخصها المؤلف على النحو التالي:

(1)التحول الديمقراطي.

(2)الاقتصاد الرأسمالي.

(3)الاستثمار الثقافي.

ويظل بديهياً ما يقصد إليه مثل هذا الكتاب من الحث على ضرورة الأخذ بسبيل التحول الديمقراطي، وبمعنى تأكيد الممارسة الديمقراطية التي تجعل للمواطن الإفريقي العادي البسيط، سواء كان من سكان الغابة والأدغال أو كان من قاطني المدن والحواضر والأرياف، صوتاً بمعنى رأي وقرار في تسيير دفة المجتمع الذي يعيش فيه ومسارات الوطن الذي ينتمي إليه، وبحيث يختار بوعي وحرية المؤسسات النيابية التي تعبر عن واقعه وهمومه واهتماماته، فيما يختار بالوعي والحرية نفسيهما ممثليه إلى تلك المؤسسات.

وبرغم هذه البديهية المرتبطة بالممارسة – أو التحول الديمقراطي كما يسميه المؤلف – إلا أن تكريس البروفيسور أولوفيمي للنهج الرأسمالي سبيلاً وأداة إلى التنمية الاقتصادية يحتاج في تصورنا الموضوعي إلى مزيد من التعمق أو التفسير، وربما التحوط أو التحذير، والحاصل أنه ربما ينساق إليه الفرقاء المعنيون في غمار ممارسة النهج الرأسمالي من الاقتصار على مجرد صنع أو تكديس الثروات إلى حيث تتحول لصالح القلة المحظوظة باحتكار إمكانات الدولة وموارد المجتمع.

وهي القلة التي لا تلبث، على نحو ما أثبتت تجارب عالمية شتى، أن تدخل في تحالفات المصالح الفئوية – المحلية مع تحالفات الاحتكارات الدولية – الكوكبية أو العولمية في زماننا، ممثلة في الشركات متعددة الجنسيات أو في المؤسسات عبر الوطنية وما في حكمها، وهو ما يتم في نهاية المطاف على حساب مصلحة أوسع القواعد الجماهيرية، التي قد لا ينالها من ثمار النمو الرأسمالي سوى النزر اليسير أو الفتات.

عن الثقافة والتعليم

مع ذلك يحمد القارئ لمؤلف الكتاب تأكيده أهمية العنصر العلاجي الثالث من الوصفة التي يقدمها لإفريقيا.

نتكلم عن الثقافة بمفهومها الواسع والأعمق بطبيعة الحال. وهذا المفهوم ينصرف إلى منظومة النشاط الثقافي الوطني الذي يضم التعليم على اختلاف مراحله وتباين نهجه فيما يضم بالضرورة مظاهر وثمار الإبداع الثقافي شاملاً في ذلك مجالات الفن والفكر والأكاديميا والاجتهادات والثمار المعرفية بشكل عام.

في هذا السياق بالذات ينبّه مؤلف الكتاب إلى الإمكانات والمواهب الإفريقية المتاحة – كما يقول – على صعيدين أساسيين:

أفريقيو الوطن – القارة

• أفريقيو الشتات (بمعنى المواهب والعناصر التي هاجرت من إفريقيا ولا تزال تعيش في مهاجر شتى – في أوروبا وأميركا بالذات فيما لا زالت تربطها وشائج الانتماء إلى القارة – الأم في جميع الأحوال).

الكتاب يؤكد في هذا المضمار أهمية التعويل على هذين المصدرين الداخلي والخارجي اللذين تنعم بهما القارة الإفريقية في إطار جهد لا بد وأن يبدأ منذ اللحظة الراهنة لحشد المواهب والإمكانات البشرية من نخبة متعلمي إفريقيا وصفوة مثقفيها ومبدعيها كي تصبّ جهودهم – وفق خطط مرسومة وراشدة – في نجاح خطط التنمية التي ما زالت القارة الإفريقية بحاجة ماسّة إليها.

والحق أن من طروحات المؤلف في هذا الكتاب ما يتميز بثاقب النظر، بقدر ما يتسم بالصراحة وبصدق الانتقاد.

ومن هذه الطروحات تلك الظاهرة التي يصفها المؤلف – من عنوان الفصل الثاني بالعبارة التالية: مشكلة الفردية المتأصلة، وهو ينعي على قومه في هذا الفصل بالذات استمرار النزعة الفردية على مستوى مجتمعاتهم الإفريقية، حيث يوضح أن النجاح ما زال ظاهرة فردية في تلك المجتمعات، ويذهب إلى أن نزعة الأنا ما برحت تسود الحياة الاجتماعية، وخاصة بين صفوف المتعلمين والمثقفين.

ولأن الأنا تدفع المتعلم أو المثقف إلى التركيز على حل مشكلته الشخصية – فإن هذا الوضع يكاد يشكل الدافع عند أهل الأنتلجنتسيا الأفارقة إلى النزوح إلى حيث الدياسبورا – الشتات في مهاجر أوروبا وأميركا (بالمناسبة علينا أن نعترف بأن مؤلف الكتاب واحد من هذه العقول النازحة ضمن مسار بالغ الخطورة أصاب إفريقيا ومجتمعاتها ومرافق حياتها بآفة ما زالت تحمل فيما تعرفه منظومة الأمم المتحدة بأنه هجرة الكفاءات (Brain Drain)، وهو أيضاً ما تعرفه الأدبيات الصحافية في بعض الأحيان بأنه نزف العقول).

ويحض المؤلف أجيال الشباب على ألا يتصوروا أن ثمة قيوداً يمكن أن تحول بينهم وبين اللحاق بقطار الحداثة والعولمة، أسوة بما فعلته وأنجزته أقطار عدة، ومنها مثلاً مجموعة الاقتصادات الناهضة من دول كان أغلبها في عداد النامية بل والمتعثرة في بعض الأحيان، ويقصد بها بالطبع مجموعة «بريكس» الشهيرة التي تضم أقطاراً من أقصى الشرق الكوكبي (الصين) إلى أقصى غرب الكوكب (البرازيل) فيما تضم أيضاً كلاً من الهند وروسيا، بل تضم دولة إفريقية بكل معنى الكلمة هي جنوب إفريقيا بطبيعة الحال.

يختم المؤلف مقولاته بتأكيد الحتمية التي تدور حولها طروحات الكتاب وهي حتمية الحداثة، لا على أساس محاكاة من سبقوا إلى الأخذ بها في أوروبا أو أميركا، على سبيل المثال، ولكن على أساس كونها حداثة متأصلة في صميم الواقع الإفريقي، لأنها ببساطة عملية تعتمد في الأصل على قدرات القارة وإمكاناتها البشرية والمادية، وهي متوافرة ولا ينقصها إلا من يجيد استثمارها في زمن لن ترحم مسيرته من تعثرت خطاهم خلف معالم الطريق.

المؤلف في سطور

يعمل البروفيسور أولوفيمي تايو في الوقت الراهن أستاذاً للعلوم الفلسفية بالجامعات والمعاهد الأميركية.

أنجز المؤلف دراساته الجامعية الأولى في وطنه نيجيريا ثم استكمل دراسة الماجستير والدكتوراه بجامعة تورنتو في كندا، متخصصاً في التاريخ والعلوم الفلسفية.

وشغل عدة مواقع للتدريس الجامعي في جامعات نيجيريا وجامعة كورنيل (أميركا)، وإضافة إلى المعاهد المتخصصة في الدراسة الإفريقية في ألمانيا ثم معهد الدراسات الأميركية ــ الإفريقية التابع لجامعة فرجينيا بالولايات المتحدة.

الطريق إلى آفاق أوسع

في الفصل الأخير، يحث الكتاب على مواصلة السعي نحو تحويل القارة الإفريقية إلى آفاق أوسع مع الانطلاق من رؤى وتصورات أرحب إزاء إمكانات تطورها، واستثمار ما لاتزال تضمه من موارد بشرية ومن إمكانات مادية، برغم ما سبق، وإن تعرضت عبر عقود مضت من ويلات الاستغلال الاستعماري على مدار الفترة الاستعمارية التي لم تبخل غمراتها – كما يقول تاريخ القارة القريب – سوى مع عقد الستينيات من القرن العشرين.

استمرار هجرة الكفاءات أدى إلى استنزاف العقول

 

ينبه المؤلف إلى أن استمرار هذه الكفاءات، هذا الاستنزاف لعقول إفريقيا وكوادرها، أدى إلى إيجاد فراغ خطير مازال يحول بين القارة السمراء وبين الإفادة من ثمار تكنولوجيات المعلومات والاتصالات لصالح التنمية الاجتماعية – الاقتصادية، فيما أدى الفراغ أيضاً إلى تحفز قوي خارجية عدة في محاولة ملئه بمشاريع ومخططات تم تنفيذها في السنوات القليلة الماضية على شكل مشروعات شاسعة في مجالات الزراعة والتصنيع بالذات، وكان في طليعة هذه القوى الوافدة لاستثمار الإمكانات الواعدة في إفريقيا عناصر مثل الصين وكوريا الجنوبية وغيرهما،.

هنا تتدخل مقولات الكتاب كي تنبه أو تحذر من أن وجود هذه المشاريع المنفّذة على أرض القارة، فيما يعود امتلاكها ورؤوس أموالها وإدارتها العليا النافذة إلى عناصر وقوى واحتكارات من خارجها، إنما تشكل – كما يقول المؤلف أيضاً – عوائق تحول في نهاية المطاف بين إفريقيا وبين اللحاق – ركضاً أو قفزاً بإكسبريس – قطار الحداثة السريع.

ثورة جديدة

في التحليل الأخير يكاد هذا الكتاب يدعو إلى ثورة ليس بالمعنى الكلاسيكي المألوف الذي ينصرف إلى ما يمكن وصفه بأنه ستريوتايب – ثورة: هي الصورة التقليدية المقولبة للفعل الثوري ما بين التحطيم والتكسير وما بين اشتعال الغضب، فضلاً عن اشتعال ما قد يحتويه الوطن من مرافق ومصالح وإمكانات: المؤلف يدعو إلى تمرد إيجابي على الأعراف الموروثة عبر أزمان من التخلف على أرض إفريقيا، ويهيب بالأجيال الإفريقية الناشئة – عبر صفحات الفصل الخامس من كتابنا – بأن تجرّب، مجرد أن تجرّب – أساليب مستجدة أو مبتكرة في الإصلاح والبناء والعمل الوطني بعيداً عن الانصياع أو الركون المستمر للعناصر التي ظلت متحكمة عبر القرون في مقاليد ومسارات المجتمع الإفريقي بتركيبته القبلية والعشائرية وفي ظل أنماط الوصاية التي فُرضت بحكم أعراف بالية، على قدرة هذا المجتمع على التحرك والإبداع.

وفي هذا الصدد أيضاً يرى المؤلف أهمية تدعيم الوشائج أو همزات الوصل، بمعنى أهمية بناء الجسور التي تربط كما أسلفنا بين أفارقة القارة وأفارقة الشتات: مثل هذه الجسور هي الكفيلة في تصور المؤلف – عبر الفصل السادس من كتابنا - بنشر ما يصفه بأنه ثقافة الأمل .

على الرغم من أن مؤلف هذا الكتاب مفكر معنّي بدراسة وتدريس العلوم الفلسفية، إلا أن الكتاب جاء بعيداً عن الهدوء التقليدي المتعارف عليه في الطروحات النظرية والفلسفية، بقدر ما جاء أقرب إلى دعوة مفعمة بحرارة الإخلاص للقارة الإفريقية من مُواطن، مفكر، مازال معنياً بأمرها، ومهتماً بمصالحها، وحريصاً كل الحرص على أن يتحول الواقع القطري والقاريّ على صعيدها.

وخاصة إفريقيا السمراء جنوبي للصحراء الكبرى، من واقع يعيبه التخلف والانصياع إلى مواريث ماضية وفي مقدمتها قيود الأعراف العشائرية والقبلية، إلى حيث تعمل إفريقيا على استشراف آفاق جديدة وواعدة يتم في سياقها، كما جاء بين سطور فصول الكتاب، بناء جسور من التفاهم والتعاون بين العناصر المثقفة على أرض القارة ونظيراتها من عناصر المفكرين والمبدعين والأكاديميين الأفارقة المقيمين على أرض الشتات، وخاصة في مهاجر أوروبا الغربية والولايات المتحدة.

وبهذا يتسنى تحقيق ما تؤكده فصول الكتاب من إذكاء روح الأمل التي ترفض منطق التسليم بأي قيود تحول بين إفريقيا وبين ما يسميه المؤلف بإمكانية اللحاق بإكسبريس الحداثة السريع.

ومن منطلق هذه الروح المتحمسة التي تصدر عنها طروحات هذا الكتاب فقد عمد المؤلف إلى إصداره تحت عنوان أساسي يلخصه مصطلح «البيان»، أو «المانيفستو».

 

عدد الصفحات: 256 صفحة

الناشر: مطبعة جامعة إنديانا، نيويورك، 2014

Email