العراق وليبيا يعانيان من ظاهرة تقلص الدولة بكل مخاطرها

النظام العالمي ثلاث نتائج خطيرة تترتب على انهيار الدول

  • الصورة :
  • الصورة :
  • الصورة :
صورة
ت + ت - الحجم الطبيعي

تنبع الأهمية الاستثنائية التي يتمتع بها هذا الكتاب، من انطلاق مؤلفه لتقديم تحليل معمق للنظام العالمي من نظام وستفاليا الذي يضرب جذوره في أربعة قرون من الزمان، وصولاً إلى بواكير القرن الحادي والعشرين، حيث التحدي الكبير لهذا النظام هو كيف نبني نظاماً دولياً في عالم من التصورات التاريخية المتضاربة والصراع العنيف والتقنية الآخذة في الانتشار والتطرف الأيديولوجي.

يضرب الكتاب جذوره في دراسة هنري كيسنغر المعمقة للتاريخ، وأيضاً في تجربته كوزير خارجية ومستشار أسبق للأمن القومي للرئيس الأميركي، ومن هنا، يبرز تركيز الكتاب على دور الصين والاتحاد السوفييتي السابق وروسيا وأوروبا في النظام العالمي.

ولا بد للقارئ العربي، وهو يقلب صفحات هذا الكتاب، من التوقف طويلاً عند الفصل الثالث من هذا الكتاب، بعنوان «النزعة الإسلامية والشرق الأوسط: عالم في حالة اختلال»، وأيضاً عند الفصل الرابع بعنوان «الولايات المتحدة وإيران: مناهج اقتراب من النظام»، وأيضاً خاتمة الكتاب الدالة بعنوان «النظام العالمي في عصرنا».

كل من يهتم بالشرق الأوسط، من قريب أو بعيد، لا بد له من أن يتوقف عند الفصلين الثالث والرابع من هذا الكتاب، اللذين كرسهما المؤلف هنري كيسنغر، للعلاقة بين المنطقة والشرق الأوسط.

وإذا كنا قد تناولنا بالتفصيل معالجة كيسنغر لمجمل القضايا المتعلقة بالربيع العربي والنتائج المترتبة على تجلياته المختلفة، فإننا لا بد لنا من تحليل مفصل لما أورده تحت عنوان «تقلص الدولة؟».

وعلامة الاستفهام هذه ليست مطروحة في فراغ، وهي لا تندرج منه ولا إليه، فهنري كيسنغر هنا لا يكتفي بتناول انهيار الدولة في الشرق الأوسط، وإنما هو يذهب إلى تحليل النتائج المترتبة على هذا التحليل، وبالتالي، فإن علامة الاستفهام التي يطرحها أمامنا هنا تبدو بالنسبة لمن يفهم أسلوب كيسنغر في معالجة طروحاته، تبدو لنا أقرب إلى لغم يعوق مسيرتنا نحو فهم ما يحاول طرحه.

تقلص الدولة؟

بداية، يشير كيسنغر، بصراحة ووضوح، وبلا تردد، إلى أن سوريا والعراق، اللتين كانتا في وقت من الأوقات منارتين للقومية بالنسبة للدول العربية، قد تفقدان قدرتيهما على إعادة تشكيل ذاتيهما كدولتين موحدتين على النسق الوستفالي، كالأجنحة المتحاربة فيهما، بينما تسعى إلى الحصول على الدعم من الجماعات المرتبطة بها على امتداد المنطقة وخارجها، يعرض صراعها للخطر تماسك جيرانها كافة.

وإذا كانت الدول المتعددة الواقعة في قلب العالم العربي عاجزة عن تشكيل حكم شرعي وسيطرة متماسكة على أراضيها، فإن تسوية أراضي الشرق الأوسط في مرحلة ما بعد الحرب العالمية الأولى ستكون قد وصلت إلى مرحلة نهائية.

في أعقاب حدوث ثورة أو تغيير للنظام، وفي غياب إنشاء سلطة جديدة مقبولة، باعتبارها سلطة شرعية من قبل أغلبية حاسمة من السكان، فإن العديد من الأجنحة المتباعدة ستواصل الانخراط في صراع مفتوح مع المتنافسين المتصورين على السلطة، وقد تنداح أجزاء من الدولة إلى الفوضى أو التمرد الدائم، أو التداخل مع أجزاء من دولة أخرى تتعرض للانحلال.

والحكومة المركزية القائمة قد تبرهن على عدم استعدادها، أو عدم قدرتها على إعادة تأسيس السلطة على الأقاليم الحدودية أو كيانات مختلفة عن الدولة، مثل تنظيمات القاعدة وداعش وطالبان. وقد حدث هذا في العراق وليبيا، وإلى مدى خطر في باكستان.

وبعض الدول، على نحو ما هي عليه الآن، قد لا يمكن حكمها بالكامل إلا عبر وسائل حكم أو تماسك اجتماعي قد يرفضها الأميركيون، باعتبارها غير شرعية. وهذه الضوابط يمكن التغلب عليها في بعض الحالات، من خلال تطورات نحو نظام ديمقراطي ليبرالي.

غير أنه عندما ترتبط أجنحة داخل دولة بمفاهيم مختلفة للنظام العالمي، أو تعتبر نفسها في نضال وجودي من أجل البقاء. وتميل المطالب الأميركية باستبعاد القتال وتجميع ائتلاف حكومي ديمقراطي، إما إلى إصابة الحكومة القائمة بالشلل (كما حدث في حالة إيران في ظل حكم الشاه)، أو إلى أن تلقي آذاناً صماء.

في العراق، أدى انحلال دكتاتورية الرئيس العراقي الأسبق صدام حسين، إلى توالي ضغوط من أجل الانتقام أكثر منها من أجل الديمقراطية، وهو الانتقام الذي سعت إليه الأجنحة المختلفة من خلال دعم أشكالها المتباينة من الأديان إلى وحدات ذات حكم ذاتي في حالة حرب من الناحية العملية إحداهما مع الأخرى.

في ليبيا، وهي بلد هائل يتسم بقلة السكان وتعدد الانقسامات الطائفية والجماعات القبلية المتصارعة – مع عدم وجود تاريخ مشترك باستثناء التعرض للاستعمار الإيطالي – ترتب على الإطاحة بالرئيس الليبي السابق معمر القذافي، تأثير عملي هو استبعاد أي تشابه بالحكم الوطني. فقد بادرت القبائل والأقاليم إلى تسليح نفسها لضمان الحكم الذاتي أو السيطرة من خلال ميليشيات مستقلة.

وحظيت الحكومة المؤقتة في طرابلس بالاعتراف الدولي، ولكنها لا يمكنها ممارسة السلطة في ما يتجاوز أطراف المدينة، بل وقد لا يمكنها ممارستها حتى في هذا الإطار. وقد تعددت الجماعات المتطرفة، ودفعت بنزعة التشدد إلى الدول المجاورة – وبصفة خاصة في أفريقيا – مع التسلح بأسلحة مستمدة من ترسانات أسلحة القذافي.

عندما لا يتم حكم الدول بكاملها، فإن النظام الدولي أو الإقليمي نفسه يبدأ في التحلل. والمساحات الفارغة على هذا النحو تشير إلى أن الفوضى قد سيطرت على أجزاء من الخريطة. وانهيار دولة ما قد يحول أرضها إلى قاعدة للإرهاب، الإمداد بالسلاح، أو الاضطراب الطائفي الموجه ضد الجيران.

والمناطق غير الخاضعة لحكم بعينه، أو التي يسودها التشدد الآن تمتد عبر العالم الإسلامي، وتؤثر في ليبيا، مصر، اليمن، غزة، لبنان، سوريا، العراق، أفغانستان، باكستان، نيجيريا، مالي، السودان والصومال.

وحينما يأخذ المرء بعين الاعتبار معاناة وسط أفريقيا، حيث امتدت الحرب الأهلية الكونغولية، التي استغرق عملها جيلاً بكامله، إلى الدول المجاورة كافة، وتهدد الصراعات في جمهورية أفريقيا الوسطى وجنوب السودان بالامتداد بشكل مماثل، الأمر الذي يعني أن جزءاً يعتد به من أراضي العالم وسكانه، يقف على حافة السقوط بصورة فعلية من نظام الدولة العالمي كلية.

وفيما هذا الفراغ يلوح في الأفق، فإن الشرق الأوسط يقع في مواجهة مماثلة – لكنها أوسع نطاقاً – من حروب أوروبا في مرحلة ما قبل وستفاليا الدينية. وتكرس الصراعات المحلية والدولية كل منها الآخر. وتختلط المنازعات السياسية، الطائفية، القبلية، الإقليمية، الأيديولوجية. والنزاعات القومية التقليدية.

ويتم «تسليح» الدين في خدمة أهداف جيوسياسية، ويجري استهداف المدنيين للقضاء عليهم على أساس انتمائهم الطائفي، وحيثما تستطيع الدولة الحفاظ على سلطتها، فإنها تعتبر أن هذه السلطة بلا ضوابط، وتبررها ضرورات البقاء على قيد الحياة، وحيثما تتحلل الدول، فإنها تصبح ميادين لصراعات القوى المحيطة بها، والتي غالباً ما يتم تحقيق السلطة فيها من خلال التجاهل الكامل لرفاه البشر وكرامتهم.

توصيف الصراع الراهن

يمضي هنري كيسنغر في توصيف وضعية الصراع، الذي يلقى بظلاله على آفاق الشرق الأوسط، فيشير إلى أن هذا الصراع ديني وجيوسياسي في آن، ويرسم خريطة للقوى السنية من ناحية، والقوى الشيعية من ناحية أخرى، ويذهب إلى التنبؤ بأن الصراع بين الجانبين سيمتد طويلاً.

ويشدد المؤلف على أن المشاركين في هذه الصراعات يبحثون عن الدعم الخارجي، وبصفة خاصة من روسيا والولايات المتحدة، الأمر الذي بدوره يشكل العلاقات بينهم.

وأهداف روسيا استراتيجية إلى حد كبير، وهي في الحد الأدنى منع الجماعات المتشددة في سوريا والعراق من الامتداد إلى الأراضي التابعة لها التي تقيم بها جماعات إسلامية كبيرة، وعلى النطاق العالمي الأكبر، دعم وضعها في مواجهة الولايات المتحدة (الأمر الذي يعكس نتائج حرب عام 1973 بالنسبة لها).

تتمثل ورطة الولايات المتحدة في أنها تدين محقة نظام الرئيس السوري بشار الأسد على أسس أخلاقية، ولكن جانباً كبيراً من خصومه يتمثلون في تنظيم القاعدة وجماعات أكثر تطرفاً، مثل «داعش»، وهي جماعات تحتاج الولايات المتحدة إلى التصدي لها عدد صعيد استراتيجي.

ولم يكن بمقدور الولايات المتحدة أو روسيا تقرير ما إذا كانت إحداهما ستتعاون مع الأخرى أو تناور ضدها، على الرغم من أن الأحداث في أوكرانيا قد تحسم هذه الحيرة باتجاه مواقف تنتمي إلى عالم الحرب الباردة.

والعراق يجد نفسه منقسماً حيال معسكرات متعددة، في هذه المرة، هناك إيران، الغرب، والعديد من الأجنحة السنية، على نحو ما وجد نفسه مرات عديدة في تاريخه، مع قيام فاعلين آخرين بأداء السيناريو المضطرب ذاته.

بعد تجارب أميركا المريرة، وفي ظل ظروف لا تتوافق كثيراً مع النزعة التعددية، فإن ترك هذه التوترات تمضي في مسارها والتركيز على التعامل مع الدول ذات الصلة، هو أمر يغري باعتماده واللجوء إليه. ولكن العديد من الدول ذات الصلة قد أعلنت أميركا والنظام العالمي الوستفالي أعداء رئيسيين لها.

وفي عصر من الإرهاب الانتحاري، وانتشار أسلحة الدمار الشامل، فإن الاندماج نحو المواجهات الطائفية على امتداد المنطقة، يتحتم النظر إليه باعتباره تهديداً للاستقرار العالمي يقتضي جهداً تعاونياً من جانب كل القوى المسؤولة، التي تم التعبير عنها في بعض الصيغ المقبولة لنظام إقليمي على الأقل.

وإذا كان النظام لا يمكن تكريسه، فإن مساحات شاسعة تخاطر بكونها مفتوحة حيال الفوضى وأشكال من التطرف ستنتشر عضوياً إلى أقاليم أخرى. ومن هذا النموذج الصارم ينتظر العالم استقطار نظام إقليمي جديد من قبل أميركا ودول أخرى في وضعية تتيح لها تبني رؤية عالمية

 

المؤلف في سطور

ولد هنري كيسنغر في ألمانيا عام 1923، وهاجر إلى الولايات المتحدة في عام 1938، عمل بالتدريس في جامعة هارفارد خلال السنوات من عام 1957 إلى عام 1969، وشغل منصب وزير الخارجية الأميركي فيما بين عامي 1973 و1977، وعمل مستشاراً للرئيس الأميركي ريتشارد نيكسون خلال السنوات 1969- 1973.

ولعب دوراً كبيراً في صناعة السياسة الخارجية الأميركية، حيث ساعد في إطلاق محادثات الحد من الأسلحة الاستراتيجية مع الاتحاد السوفييتي، وترتيب زيارة الرئيس نيكسون للصين عام 1972، ونال جائزة نوبل عام 1973، ووسام الحرية الرئاسي تقديراً لإنجازاته.

هكذا تكلمت «شيكاغو صن تايمز»

بادرت صحيفة «شيكاغو صن تايمز»، إلى الإشادة بكتاب «النظام العالمي»، مشيرة إلى أن مؤلفه، رجل الدولة الشهير هنري كيسنغر، قد رجع إلى سجلاته التاريخية وأربعين عاماً من التفاعل المباشر مع أربعة أجيال من القادة الصينيين لتحليل الصلة بين ماضي الصين القديم ومنظورها المعاصر اليوم.

وفي غمار القيام بذلك، فإن الرجل الذي ساعد في تشكيل العلاقات بين الشرق والغرب، يقدم تصويراً غالباً ما يثير القلق، ويوحي بالأمل بين الحين والآخر، ويؤثر في النفس دوماً لما يواجهنا.

القضية الفلسطينية فقدت إلحاحها.. وأهميتها لم تتراجع

 

ما كان يمكن لتناول المؤلف لوضعية الشرق الأوسط في إطار النظام العالمي أن يتكامل من دون التطرق إلى القضية الفلسطينية:

وهو يستهل هذا التطرق بالإشارة إلى أن القضية الفلسطينية، ربما يبدو لبعضهم أنها قد فقدت إلحاحها، وسط تدفق الأحداث الهادرة في الشرق الأوسط، لكن ذلك إذا كان صحيحاً، فإنه لا يعني بحال أنها قد فقدت أهميتها.

ذلك أن قلة من الموضوعات والقضايا هي التي أثارت انفعالاً يتجاوز ذلك الذي أثارته كيفية تحقيق التوافق بين سعي إسرائيل للأمن والهوية، تطلعات الفلسطينيين إلى إقامة دولة لهم، وبحث الدول العربية المجاورة عن سياسة تتوافق مع إدراكها لضرورتها التاريخية والدينية.

والمؤلف يشير إلى أن صراع مفهومين للنظام العالمي ينغرس في القضية الفلسطينية، وهو يقول إن إسرائيل هي على وجه التحديد دولة وستفالية، تأسست باعتبارها كذلك في عام 1947، برعاية من حليفها الرئيس، أي الولايات المتحدة، ولكن الدول والأجنحة الجوهرية في الشرق الأوسط تنظر إلى النظام الدولي بدرجة أو بأخرى من خلال وعي إسلامي، وهكذا، فإن إسرائيل وجاراتها لها خلاف لا سبيل إلى فصلها عن الجغرافيا والتاريخ: الوصول إلى الماء، الموارد، ترتيبات محددة للأمن، اللاجئين.

ويمضي قائلاً إنه في مناطق أخرى، فإن تحديات مماثلة تحل بصفة عامة من خلال الدبلوماسية. وبهذا المعنى، فإن القضية تصل إلى إمكانية التعايش بين مفهومين للنظام العالمي من خلال دولتين، هما فلسطين وإسرائيل، في النطاق الضيق الممتد بين نهر الأردن والبحر المتوسط.

 وبما أن كل ميل مربع من هذه المساحة يثقله الطرفان كلاهما بمغزى عميق، فإن النجاح بدوره يقتضي اختبار ما إذا كان بعض الترتيب المؤقت يمكن التوصل إليه، والذي يمكنه في الحد الأدنى توسيع نطاق إمكانية التعايش العملي الذي يمنح فيه جزء من الضفة الغربية خصائص السيادة في انتظار اتفاقية نهائية.

يذهب كيسنغر إلى القول، أخيراً، إلى أن الأطراف الرئيسة في الشرق الأوسط تختلف حيال ثلاث قضايا كبرى: هي التطور الداخلي، مستقبل الفلسطيني السياسي، ومستقبل البرنامج النووي الإيراني. وفي اعتقاده أن بعض الأطراف التي تتفق في الأهداف ليست في وضع يتيح لها الانطلاق نحو الوصول إليها.

عدد الصفحات: 420 صفحة

الناشر: بنغوين، نيويورك، 2014

Email