الربيع العربي انتفاضة تعرضت للقفز على أكتافها

التوترات القديمة في سورية أيقظت الصراع المذهبي

  • الصورة :
  • الصورة :
  • الصورة :
صورة
ت + ت - الحجم الطبيعي

لا يتردد مؤلف هذا الكتاب، هنري كيسنجر، في الاعراب عن اعتقاده بأنه لم يكن هناك قط «نظام عالمي» حقيقي قط، فعلى امتداد معظم التاريخي حددت الحضارة مفاهيمها عن النظام، واعتبرت كل منها نفسها مركز العالم، وتصورت مبادئها المميزة باعتبارها مهمة على صعيد كوني.

وفي هذا الإطار تصورت الصين نظاماً ثقافياً عالمياً تراتبياً يتربع على ذروته الامبراطور. أما روما فقد تصورت نفسها محاطة بالبرابرة، وعندما تشظت وانقسمت، طورت الشعوب الأوروبية مفهوماً متقدماً لتوازن الدول ذات السيادة، وسعت إلى نشر هذا المفهوم عبر العالم.

ويلفت المؤلف نظرنا في إطار هذا التحليل إلى أن الإسلام، في قرونه الأولى، اعتبر نفسه الوحدة السياسية الشرعية الوحيدة في العالم المقدر لها أن تنتشر بلا انتهاء إلى أن تحقق المبادئ الدينية تناغم العالم. أما الولايات المتحدة فقد كانت وليدة الاقتناع بقابلية الديمقراطية للتطبيق على نحو شامل، وهو اقتناع أرشد سياساتها منذ تلك البداية المبكرة.

أول ما نلاحظه أن المؤلف ينظر إلى تطورات النظام العالمي بمنظور لا يخلو من التفاؤل، ابتداء من تحليل النظام متعدد الأقطاب في أوروبا، وصولاً إلى النظام في آسيا والدور الطموح للولايات المتحدة على الصعيد العالمي.

لكن هذا المنظور المتفائل سرعان ما يتخلى عنه المؤلف في تحليله للوضع في الفصلين الثالث والرابع من الكتاب، حيث يتناول في الفصل الثالث التيار الإسلامي والشرق الأوسط تحت العنوان الفرعي الدال «عالم من اختلال النظام». علي حين ينصب الفصل الرابع على الولايات المتحدة وإيران تحت العنوان الفرعي «مداخل إلى النظام».

نهجان متعارضان

تحت عنوان «الربيع العربي والطوفان السوري»، يعيد المؤلف إلى الأذهان أن الربيع العربي، الذي انطلق في أواخر عام 2010، قد أثار للحظة عابرة الآمال في أن القوى الأوتوقراطية والمتشددة المتصارعة في المنطقة قد تحولت إلى قوى لا أهمية لها ،على يد موجة جديدة من الإصلاح.

وقد قوبلت موجات هذا الربيع في تونس ومصر بالابتهاج من القادة السياسيين الغربيين ومن الاعلام الغربي، باعتبارها ثورة إقليمية يقودها الشباب.

فسر الكثيرون في الغرب أحداث ميدان التحرير في مصر على أنها إثبات للحجة القائلة إنه كان ينبغي أن يدفع إلى الأمام في وقت سابق بديل للطغيان. غير أن المشكلة الحقيقية، من منظور واشنطن، هي أنها وجدت من الصعب اكتشاف العناصر التي يمكن منها تشكيل المؤسسات التعددية ،أي القادة الذين يمكن أن يمضوا قدماً بهذه المؤسسات.

وهذا هو السبب في أن بعض المسؤولين في الولايات المتحدة دعموا تنظيم الاخوان المسلمين، على الرغم من أنهم يعرفون أنه أبعد ما يكون عن الديمقراطية.

يرى المؤلف، من دون أن يملك ما يطرحه الحد الأدنى من القدرة على الاقناع، أن تطلعات أميركا فيما يتعلق بالديمقراطية للمنطقة، أفضت إلى تعبيرات بليغة عن مثالية واشنطن. ولكن مفاهيم الضرورات الأمنية تضاربت غالباً مع تطوير الديمقراطية. فأولئك الذين التزموا بإضفاء الطابع الديمقراطي وجدوا أن من الصعب اكتشاف القادة الذين يدركون أهمية الديمقراطية باعتبارها شيئاً آخر غير أداة لتحقيق سيطرتهم.

وفي الوقت نفسه فإن دعاة الضرورة الاستراتيجية لم يتمكنوا من اكتشاف كيف تتطور الأنظمة المستقرة بطريقة ديمقراطية ،أو حتى إصلاحية. ولم يستطع نهج إضفاء الديمقراطية معالجة الفراغ الذي يبرز في متابعته لأهدافه وتعرض النهج الاستراتيجي للعرقلة بفعل تصلب المؤسسات الموجودة.

لقد بدأ الربيع العربي باعتباره انتفاضة جيل جديد من أجل الديمقراطية الليبرالية، ولكنه سرعان ما تعرض للقفز على اكتافه أو للانقطاع أو السحق، وتحول الابتهاج إلى شلل. وبرهنت القوى السياسية الموجودة، المغروسة في المؤسسات العسكرية والدينية والريف، على أنها أقوى وأكثر تنظيماً من عناصر الطبقة الوسطى التي تظاهرت من أجل المبادئ الديمقراطية في ميدان التحرير.

وعلى صعيد الممارسة، فإن الربيع العربي أظهر التناقضات الداخلية للعالم العربي – الإسلامي والسياسات المصممة لحسمها بأكثر مما تغلب عليها.

لقد ترك الشعار المبكر الذي تكرر غالباً في الربيع العربي «الشعب يريد إسقاط النظام» سؤالاً مفتوحاً حول كيفية تحديد المراد بالشعب وما الذي سيحل محل السلطات التي سيطاح بها. لقد تعرضت النداءات الأصلية لمتظاهري الربيع العربي من أجل حياة سياسية واقتصادية مفتوحة للإطاحة من خلال صراع بين الأيديولوجيا المتشددة والنزعة السلطوية التي دعمتها المؤسسة العسكرية.

الطوفان السوري

يطلق هنري كيسنجر على مجمل الأحداث التي شهدتها سورية في السنوات الأخيرة الاصطلاح الدال «الطوقان السوري».

من منظور المؤلف، فإن الثورة السورية بدأت كتكرار للثورة المصرية في ميدان التحرير، ويشير إلى فارق مهم بينهما، وهو أنه بينما وحدت الثورة المصرية القوى الكامنة، فإنه في سوريا اندلعت التوترات القديمة لتعيد إيقاظ الصراع بين الشيعة والسنة.

وفي ضوء التعمق الديموغرافي في سوريا، فإن الحرب الأهلية، اجتذبت جماعات طائفية أو دينية إضافية، واستناداً إلى التجربة التاريخية لم يكن أي منها على استعداد لأن يسلم مصيره لقرارات يتخذها الآخرون. ودخلت قوى أجنبية الصراع، وانتشرت الفظائع فيما اعتصم الناجون بجيوب عرقية وطائفية.

من المهم أن نلاحظ أن كيسنجر يشدد على أنه في النقاش الأميركي العام كانت الانتفاضة ضد الرئيس السوري بشار الأسد يجري التعامل معها من خلال المقارنة مع الإطاحة بالرئيس المصري الأسبق حسني مبارك، ووصفت بأنها نضال من أجل الديمقراطية. وكان من المتوقع أن تتوج بالإطاحة بحكومة الأسد وأن يحل محلها ائتلاف حكومي ديمقراطي شامل.

وقد صاغ الرئيس الأميركي باراك أوباما هذه الموقف في أغسطس عام 2001 عندما دعا صراحة بشار الأسد إلى «التنحي»، لكي يتمكن الشعب السوري من الوصول إلى حقوقه الشاملة.

وكان من المتوقع أن يؤدي تصريح أوباما إلى حشد المعارضة الداخلية للأسد. وأن يفضي إلى دعم دولي للإطاحة به.

هنا يشير هنري كيسنجر إلى أن هذا هو السبب في أن أميركا ضغطت من أجل «حل سياسي» من خلال الأمم المتحدة على أساس تنحية الأسد من سدة السلطة، وتشكيل حكومة ائتلافية، ولكن التوتر فرض حضوره عندما بادر أعضاء يتمتعون بحق النقض في مجلس الأمن إلى رفض هذه الخطوة أو أي إجراءات عسكرية في سورية.

وأيضاً عندما برزت المعارضة المسلحة في نهاية المطاف داخل سورية، وكان من بينها عناصر محدودة يمكن أن توصف بأنها ديمقراطية، دع جانباً أن تكون معتدلة.

عند هذا المنعطف كان الصراع في سورية قد تجاوز كونه قضية الأسد، فبالنسبة للفاعلين الرئيسيين في الصراع كانت القضايا مختلفة بشكل جوهري عن بؤرة النقاش الأميركي، فقد نظر الفاعلون السوريون والإقليميون إلى الحرب على أنها ليست حرباً حول الديمقراطية، وإنما حول السيطرة.

وكانوا مهتمين بالديمقراطية فحسب طالما تمضي بجماعتهم إلى سدة السلطة. ولم يؤيد أي منهم نظاماً سياسياً لا يضمن سيطرة فريقه على النظام السياسي.

هكذا بادرت القوى الإقليمية إلى صب الأسلحة والأموال والدعم اللوجستي إلى سورية لصالح مرشحيها الطائفيين المفضلين.

إعادة تصور المنطقة

هنا، على وجه الدقة، يلاحظ كيسنجر أن الصراع في سورية قد بدأ في إعادة رسم التصور السياسي للبلاد، وربما إعادة رسم التصور السياسي للمنطقة.

وفي هذا الاطار، نظرت كل الأطراف المنخرطة في الصراع إلى نفسها على أنها تخوض معركة بقاء.

ويخلص المؤلف إلى أن نظاماً اقليمياً أو دولياً عاملاً ربما كان يمكن أن يحول دون الكارثة التي تشهدها سورية، أو تحتويها.

وهو يشير إلى أن التدخل الخارجي الكبير في مرحلة مبكرة ربما كان من شأنه بحجم القوى المتصارعة، ولكنه كان سيقتضي أمداً طويلاً وحضوراً عسكرياً كبيراً، لكي تتم استدامته،.

وربما كان من شأن إجماع سياسي عراقي أن يوقف الصراع عند الحدود السورية، ولكن النزعات الطائفية لدى حكومة بغداد والقوى الإقليمية التي ترتبط بها حالت دون ذلك.

كان من الممكن أيضاً للمجتمع الدولي أن يفرض حظرأ على ارسال الأسلحة إلى سوريا والميليشيات المتشددة، وقد غدا ذلك أمراً مستحيلاً بفعل الأهداف المتضاربة للأعضاء دائمي العضوية في مجلس الأمن.

ومع غياب الاجماع على المستوى الدولي فيما يتعلق بسوريا وكيفية حسم الأمور فيها وتشظى المعارضة السورية، فإن الانتفاضة التي بدأت هناك باسم القيم الديمقراطية قد تردت إلى إحدى أكبر الكوارث الإنسانية.

هكذا تكلم متشيكو كاكوتاني

لم يتردد الكاتب في صحيفة «نيويورك تايمز» متشيكو كاكوتاني في عرضه لكتاب «النظام العالمي» في وصف هذا الكتاب بأنه بالغ العمق، والصورة التي يقدمها للصين بصفة خاصة تستمد المعلومات التي تشكلها من معرفة المؤلف الوثيقة والمباشرة بأجيال عدة من قادة الصين. وهو يتتبع ايقاعات وأنماط حركة التاريخ الصيني، حتى وهو يفسر الفوارق الفلسفية التي تفصل الصين عن الولايات المتحدة.

استراتيجية واشنطن متناقضة عبر دعمها للديكتاتورية والديموقراطية معاً

 

يرى هنري كيسنجر أن قيم السياسة الخارجية الأميركية وأهدافها في المنطقة تعكس جانباً مهماً من الأعراف الأميركية. غير أنها إذا مورست باعتبارها المفهوم المحوري للاستراتيجية الأميركية، فإنها سوف تثير ورطاتها الخاصة.

هنا تبرز مجموعة مهمة من الأسئلة التي يطرحها التحرك الأميركي في المنطقة: هل تعتبر أميركا نفسها مضطرة لدعم كل انتفاضة شعبية ضد أي حكومة غير ديمقراطية بما في ذلك تلك الحكومات التي كانت تعتبر حتى الآن مهمة في الحفاظ على النظام الدولي؟ هل كل مظاهرة ديمقراطية بحكم تعريفها؟

من المنظور الأميركي، فإن من بين مساهمات واشنطن الأساسية في الربيع العربي إدانة ومعارضة والعمل على تنحية الحكومات التي اعتبرتها دكتاتورية بما في ذلك الحكومة المصرية في ظل الرئيس المصري الأسبق حسني مبارك، التي كانت واشنطن حتى ذلك الحين تعتبرها حليفاً قيماً.

غير أن الرسالة المركزية بالنسبة لدول أخرى صديقة للولايات المتحدة في المنطقة تم النظر إليها على أنها التهديد بالتخلي الأميركي، وليس فوائد الإصلاح الليبرالي.

يقتضي العرف العربي تأييد المؤسسات الديمقراطية والانتخابات الحرة وما من رئيس أميركي يتجاهل هذا الجانب من المشروع الأخلاقي الأميركي يمكن أن يعتمد على التأييد المستمر من جانب الشعب الأميركي، ولكن إذا طبق هذا الأمر على الأطراف التي تجعل الديمقراطية مرادفاً للهيمنة الدينية، فإن دعم الانتخابات يمكن أن تؤدي في هذه الحالة إلى ممارسة واحدة فقط لها.

ومن هنا فإن الولايات المتحدة تشهد النقاش الذي لم يحسم بعد بين الاهتمامات الأمنية وأهمية تطوير الحكم الإنساني والشرعي. ويبدو هذا الأمر جليا أيضاً باعتباره مسألة وقت: فإلى أي مدى تنبغي المخاطرة بالمصالح الأمنية من أجل نتيجة التطور النظري؟

إن رجل الدولة يتعين عليه أن يوازن هذا الأمر في كل مرة تثور هذه القضية.

ولكن كقاعدة عامة فإن المسار الأكثر قابلية للحفاظ عليه سوف يتضمن مزيجاً من الواقعية والمثالية، ولكن غالباً ما يجري استبعادهما في النقاش الأميركي باعتبارهما نقيضين لا سبيل إلى الجمع بينهما.

المؤلف في سطور

برز مؤلف الكتاب، هنري كيسنجر، على الساحة العالمية من خلال الأدوار بالغة الأهمية التي قام بها مع شغله منصبي مستشار الرئيس الأميركي الأسبق لشؤون الأمن القومي ووزير الخارجية الأميركي الأسبق في إداراتي ريتشارد نيكسون وجيرالد فورد والنصائح التي قدمها للعديد من الرؤساء الأميركيين.

وعلى مستوي الشرق الأوسط، ارتبط اسم كيسنجر بسياسة الخطوة – خطوة، التي كان لها تأثير بالغ العمق في تطورات المنطقة، وقد حصل على جائزة نوبل للسلام في عام 1973، كما تلقى وسام الحرية من الرئيس الأميركي ، وألف العديد من الكتب حول السياسة الخارجية والدبلوماسية، أبرزها كتابه «الدبلوماسية».

يستمد هذا الكتاب أهميته من أن مؤلفه هنري كيسنجر مستشار الأمن القومي الأسبق للرئيس الأميركي، يقدم على امتداد صفحاته رؤية معمقة لجذور التناغم الدولي والاختلال العالمي، ويلقى الضوء على التحدي المطلق للقرن الحادي والعشرين، وهو كيف يمكن بناء نظام دولي مشترك في عالم من الرؤى التاريخية المتباينة والصراع العنيف والتقنية المنتشرة والتطرف الأيديولوجي.

وعلى امتداد تسعة فصول وخاتمة دالة، يمضي بنا المؤلف إلى منعطفات مهمة في التاريخ الحديث، حيث نطل على أسرار مفاوضات إدارة نيكسون مع هانوي حول نهاية حرب فيتنام، مجادلات الرئيس الأميركي الأسبق رونالد ريغان مع الزعيم السوفييتي غورباتشوف في ريجافيك، كما نتابع تأملاته حول مستقبل العلاقات الأميركية الصينية وتطور الاتحاد الأوروبي.

ويستقطب اهتمامنا ما يطرحه المؤلف حول استجابة الغرب للربيع العربي، والدروس المستفادة من حربي العراق وأفغانستان، والتوترات الراهنة مع روسيا حيال الوضع في أوكرانيا.

 

عدد الصفحات: 420 صفحة

الناشر: بنغوين، نيويورك، 2014

Email