التجربة الصينية في التنمية لا تزال تراوح بين قدرة الإنجاز وسلبيات التقصير

بكين تهتم بالقوى الخشنة على حساب الناعمة

  • الصورة :
  • الصورة :
  • الصورة :
صورة
ت + ت - الحجم الطبيعي

يُشكّل هذا الكتاب في مُجمله نظرة أقرب إلى موضوعية التحليل بالنسبة لواقع الدور الصيني على خارطة التأثير والنفوذ في العالم الراهن، وقد كفل هذا النهج الموضوعي الذي اتبعه المؤلف إمكانية التحليل السليم لهذا الدور من حيث واقعه الراهن وآفاق تطوره في المستقبل، وخاصة في ضوء المبالغات التي تصل إلى حد القول بأن الصين في طريقها حالياً إلى أن تقود العالم، بمعنى أن تصبح القوة العولمية رقم واحد على صعيد الكوكب.

وفيما يسلّم مؤلف الكتاب ــ بحكم تخصصه في شؤون الصين، وفي ضوء إقامته على أرضها على مدار العديد من السنين ــ بأن الصين استطاعت أن تنجز تحولات واسعة وجذرية وعميقة، نقلتها من حيّز الدولة الشرق آسيوية التي كانت تعاني مشكلات الفقر وأزمات التخلف إلى حيث أصبحت تشكل ثاني اقتصاد بعد الولايات المتحدة، إلا أن المؤلف يخالف ما لا يزال يذهب إليه بعض محللي الشأن الصيني والأوضاع الدولية، موضحاً أن الصين ستكون ـ في تصوره - عنصراً دولياً مهماً أو شريكاً يُعتدّ به على ساحة العولمة.

ولكنها لن تقود العالم، مدللاً على آرائه تلك من خلال ما يرصده على صفحات الكتاب من اختلال التوازن بين القوى الخشنة التي نجحت الصين في استغلالها، ولاسيما في مجال الاقتصاد والتصنيع والإنتاج، وبين القوى الناعمة التي ما برحت الصين بعيدة عن تطويرها وانضاجها واستخدامها، وهو ما يشمل في ذلك مجالات الفكر والثقافة والإبداع الفني.

بحلول مطلع القرن العشرين كانت الساحة العالمية تتعامل مع الصين على أنها بلد الأفيون، وعلى أنها البلد الذي يتزايد فيه السكان بمعدلات متكاثفة إلى حد لا يكاد يصدّق، أو على أنها البلد الذي يضم العجيب والغريب من السلوكيات.

والعقائد والأفكار، ابتداء من فلسفة حكيمهم التاريخي كونفوشيوس الذي عاش في القرن السادس قبل الميلاد، وليس انتهاء بعادات كانت تنفرد بها صين تلك الأيام، ومنها مثلاً إحاطة قدمي الفتاة الصينية برباط وثيق يؤدي إلى تصغير القدم، آية على حسن التنشئة، وربما علامة من علامات الجمال.

مع مطلع القرن الواحد والعشرين استجدت متغيرات جذرية وربما ثورية على صورة الصين في عيون عالمها: أصبحت صورة العملاق الرابض في أقصي شرقي القارة الآسيوية، نَهَض من سبات عميق منذ انتصاف القرن الماضي، وخاض وكابد تجارب سياسية ــ اقتصادية واجتماعية بالغة القسوة عميقة التأثير إلى أن حانت لحظة انتفاضته كقوة عالمية يُعتد بها بل ويُحسب لها ألف حساب من حيث قدرات التصنيع وطاقات الإنتاج وموارد البشر ــ ثم، وهذا هو الأهم، حجم الطموحات إلى المستقبل.

هذه الطموحات تقضي بأن تتهيأ الصين للاضطلاع بدور مهم، إن لم يكن محورياً على مسرح الظاهرة التي بات يعيشها المجتمع البشري المعاصر وهي العولمة

وفيما أصبحت ساحات الدرس الأكاديمي والتحليل السياسي حافلة بالمقولات والدراسات التي يذهب بعضها إلى تصوير الصين في إهاب اللاعب رقم واحد في سباق العولمة الراهن، فإن هناك من كوكبة العلماء الباحثين مَنْ يتواضع قليلاً كي يقول إن الصين ستكون لاعباً له أهميته الكبرى، ولكنها لن تكون اللاعب الوحيد الذي يحتكر دور القمة وسط ساحة أصبحت بدورها حافلة بالعديد من اللاعبين، الطامحين بل والمتحفزين.

الصين والعولمة

من بين هذه الكوكبة الأخيرة نجد المؤلف الأكاديمي الشاب الذي نصاحب كتابه في هذه السطور. صدر الكتاب أخيراً تحت عنوان يمكن ترجمته على الوجه التالي: الصين تخطو إلى العولمة: القوة الشريكة.

يوضح المؤلف مع الفصول الأولى من الكتاب أن صعود الصين مع فاتح الألفية الثالثة ينبغي أن يخضع لتحليلات أكثر عمقاً وأشد هدوءاً وأوفر رصانة، وبحيث تبتعد تلك التحليلات عن عناصر التهليل أو التهويل بقدر ما تبتعد أيضاً عن مغبة التهوين أو التشكيك.

بادي ذي بدء يتوقف المؤلف ملياً عند ما حققته الصين، وخاصة على مدار العقدين الأخيرين من القرن العشرين، من منجزات لا سبيل إلى تجاهلها بأي حال من الأحوال.

هنالك تجول نظرات المؤلف الباحثة، الفاحصة على صعيد هذه الإنجازات: ما بين أنشطة الصين في مجال استخراج المعادن واستزراع مساحات شاسعة من الأراضي في افريقيا، إلى نفوذ الصين الذي لا يُنكر في أسواق العملات النقدية في الغرب، إلى خطط الصين الواعدة بالنسبة لحقول النفط في مواقع هنا .

وهناك من رقعة الشرق الأوسط، إلى المشاريع الزراعية ــ الصناعية التي أنشأتها الصين في أقطار من قارة أميركا اللاتينية إلى عشرات وربما مئات القلاع الصناعية ــ الإنتاجية التي تعمل الصين على ساحاتها في مناطق شرقي آسيا.

هل تحكم الصين العالم؟

بيد أن هذا كله، ومن المنظور العلمي ــ الموضوعي نفسه، مازال يدفع مؤلف هذا الكتاب إلى الاحتراز ــ العلمي أيضاً- إزاء ما ذهب إليه فريق من العلماء الاختصاصيين في الشأن الصيني من أن الصين في القريب العاجل سوف تحكم العالم على نحو ما قال به أخيراً المفكر الاختصاصي في الشؤون الصينية مارتن جاك.

مؤلفنا، الدكتور شامبو، يرفض هذه المقولة، ويري فيها قدراً من المبالغة المنافية للدرس الموضوعي قائلاً (ص 6): إنها تصدر عن منظور تشوبه إلى حد بالغ روح المبالغة، مما يحول بينه وبين جادة الصواب.

من هنا يواصل المؤلف طرح مقولاته، أو فلنقل تحفظاته العلمية، على النحو التالي الذي يكاد يسود مجمل صفحات هذا الكتاب:

المؤلف يوافق مثلاً على ما سبق وأعلنه منذ 200 سنة أو نحوها الغازي الفرنسي الشهير نابليون بونابرت (1769- 1821) حين قال: الصين عملاق أصفر ولكنه نائم حالياً، فاحذروا هذا العملاق عندما يفيق من نوبة السبات.

وفي هذا المضمار يطرح مؤلفنا تحليلاته لمسيرة الصين الأخيرة ومآلاتها في اللحظة الزمانية الراهنة، سواء على صعيد النشاط الاقتصادي أو العسكري أو الدبلوماسي أو الثقافي، ثم يمضي موضحاً ما يلي: صحيح أن نفوذ الصين في حال من التنامي على صعيد خارطة عالمنا، ولكن هذا النفوذ لايزال محدوداً بكل معنى:

* لها مصالح وإنجازات اقتصادية عاتية، كما قد نصفها، لكنها لا تسيطر على كل أسواق العالم، ولا على جميع أنشطته أو مؤسساته الاقتصادية.

* أصبحت تمتلك قوة عسكرية بالغة الضخامة، ولكن ليس بوسعها تمديد هذا النفوذ العسكري أو التدليل على هذه المنعة العسكرية خارج حدود الصين ذاتها.

القوى الخشنة والقوى الناعمة

يقف الكتاب طويلاً عند مقولة نراها محورية، حين يسجل المؤلف الحقيقة التالية: لقد نجحت الصين في زيادة وتوسيع قواها وقدراتها الخشنة وخاصة في ساحة الاقتصاد أو دنيا الاستثمار وميدان الإنتاج.

• لكن هذا النجاح ليس من شأنه أن يفضي إلى أن تصبح الصين هي القوة العالمية- العولمية أو الكوكبية رقم واحد أو حتى رقم اثنين على نحو ما يأمله الكثيرون: إن استثمار القوى الخشنة ــ اقتصاداً أو نجاحات مادية ــ كان ينبغي أن يكمّله استثمار القوى «الناعمة» التي باتت تنصرف إلى قوى التحصيل الثقافي والإبداع الفني وسائر عوامل النشاط غير المادي، بكل ما لها من تأثير بالغ الفعالية ودائم الأثر على فكر وذائقة ووجدان الأفراد والشعوب.

في هذا السياق أيضاً يجهد المؤلف في تبرير هذا الجانب، الذي يراه سلبياً طوال سنوات إقامته الطويلة في ربوع الصين، يعزو هذه المسألة إلى سياسة الزعيم الصيني الأسبق دنغ شياو بنغ الذي تولي قيادة بلاده في عام 1978، وبعد رحيل زعيمها التاريخي ماو تسي تونغ.

وهنا أيضاً يذهب الكتاب إلى أن سياسة بنغ وعمرها الآن يقترب بالطبع من 40 سنة، مازالت مؤثرة بصورة أو بأخرى على مسيرة الشأن في الصين: إنها السياسة التي ظلت تلخصها العبارة البسيطة التالية: التركيز ثم التركيز على التنمية الاقتصادية.

وقد ظل هذا التركيز منصبّاً على أهمية توفير المواد الأولية والخامات اللازمة وموارد الطاقة الأساسية والإمكانات الطبيعية، التي تتطلبها خطط الاستزراع والتصنيع وما يرتبط بها، وكان أن غطت هذه الاهتمامات ــ المادية بالدرجة الأولى- على جوانب مهمة أخرى من هذا الشأن الصيني ـ القومي العام بما في ذلك مجالات الدبلوماسية والعلاقات الدولية والجوانب الثقافية على السواء.

هنا أيضاً يورد الكتاب ملاحظة لمّاحة حين يقول إن زيادة اهتمامات الصين في المجال الدبلوماسي لم تكن لتهدف إلى توسيع آفاق التعامل ومن ثم التفاهم مع المزيد من دول العالم، ناهيك بالمساهمة في معالجة وحل القضايا المحورية التي تجسد مصالح الأمم وتمثل اهتمامات الشعوب.

المؤلف يرى أن توسيع الجهد الدبلوماسي في الآونة الأخيرة من جانب بكين إنما يهدف – في تصور البروفيسور ديفيد شامبو إلى خدمة مصالحها الاقتصادية بالدرجة الأولى وبمعنى توسيع أفق العلاقات مع الدول التي يمكن أن تشكل مصدراً للإمداد بالموارد الطبيعية ومنها موارد الطاقة بالدرجة الأولى.

في هذا الخصوص يؤكد المؤلف ان احتياجات الصين من الطاقة أصبحت مذهلة، أو تكاد تكون، وأنها أصبحت بالتالي أكبر مستهلك منفرد للطاقة، حيث «ظلت تستأثر بما يقرب من نصف الزيادة العالمية في استهلاك الطاقة على امتداد العقد السابق من هذا القرن الجديد» (ص 162).

ولذلك فمن أخطر ما يرد في فصول هذا الكتاب، على نحو ما يوضح الباحث الإفريقي روس هارفي هو ما كشفت عنه هذه الفصول من عمليات بيع السلاح الصيني إلى دول وأطراف خارجية، مازالت تحيط بها مشكلات أو حتى شكوك، ومنها ما كشفت عنه التحقيقات التي جرت بمعرفة الأمم المتحدة نفسها بشأن ما باعته بكين من أسلحة إلى أطراف متورطة في مناطق النزاعات الخطيرة مثل الصومال أو الكونغو الديمقراطية أو ساحل العاج وغيرها.

الإعلام الصيني يُروّج لأفكار بعيدة عن عمق التأثير

 تمتلك الصين آلة إعلامية واسعة النطاق، ويخدمها في هذا المجال منظومة ثقافية صينية بالغة الضخامة وجمّة النشاط، ولكن هذا الجهاز الإعلامي ــ الثقافي مازال يروّج لقيم ثقافية وأفكار وطروحات أيديولوجية ما برحت بدورها بعيدة عن عمق التأثير أو اتساع الرواج أو إعجاب الكثيرين.

في السياق نفسه، يكاد مؤلف الكتاب يسلّم بالظاهرة التي تقول: إن الصين تشكل، أو تكاد تشكل ورشة التصنيع في العالم.

لكنه يضيف قائلاً، ومن واقع دراساته فضلاً عن لقاءاته التي استقى خلالها آراء النخبة السياسية والأكاديمية في مواقع شتى من أوروبا وآسيا وأميركا اللاتينية. إنها لم تصبح بعد مجمع الأفكار في العالم.

ثم يحرص المؤلف أيضاً على أن يستطرد عبر السطور والصفحات موضحاً أن هذا المنحى الذي اتخذه منهجاً في التعامل مع مادة الكتاب لا يشكل بحال من الأحوال انتقاصاً من تحولات الصين الحاسمة والجذرية ما بين واحد من أفقر أقطار العالم إلى واحد من أغنى تلك الأقطار، وما بين كيان لم يكن أحد يأبه به منذ قرن مضى، إلى دولة بات يحسب لها سكان عالمنا ألف حساب، يستوي في ذلك المنتجون والمستهلكون في طول العالم وعرضه.

مع ذلك يوضح المؤلف كيف أن السياسة الخارجية للعاصمة الصينية بكين وأنماط علاقاتها الدولية مازالت بحاجة إلى مزيد من التعميق والتوسيع والانتشار والإنعاش فضلاً عن حاجتها إلى الإطلالة على تلك العلاقات الدولية من منظور جديد ومستنير على السواء، فلا يُعقل مثلاً ــ في نظر مؤلف كتابنا ــ أن تكون أفضل علاقات الصين الخارجية مع بلد شبه مغلق سياسياً أو شبه معزول عالمياً اسمه كوريا الشمالية.

وأن يكون موقع الصين عند مراتب دنيا في استقراءات الرأي العام العالمي من حيث التأثير الفكري، الثقافي ـ الإعلامي ــ السلوكي على قطاعات الجماهير في شرق عالمنا وغربه، رغم أن المصنوعات والمنتوجات الصينية لاتزال تغمر الأسواق التي تتعامل معها تلك الجماهير آناء الليل ــ كما يقولون ــ وأطراف النهار.

انطلاقة غائبة

يُلمح المؤلف إلى أن النجاح الاقتصادي الصيني، الذي لا ينكره أحد، وهو الذي أفضى إلى تحويل الصين من ربقة الفقر إلى حالة مشهودة من اليسر أو الثراء، لم يقترن بانطلاقة بكين وساستها إلى توسيع آفاق المعونات المالية والعينية، التي كان ينبغي أن يساهم بها بلدهم الآسيوي الكبير.

وقد توسعت إمكاناته وازدهرت موارده، في مشاريع العولمة التي تقضي بمساعدة الدول والشعوب النامية من أجل التغلب على آفة الفقر أو مكافحة الأمراض الخطيرة والمتوطنة أو انتشال أقطار عديدة وخاصة في افريقيا أو أميركا اللاتينية من وهدة التخلف، وهو ما ظلت تقضي به.

كما هو معروف، الأهداف الإنمائية للألفية التي اعتمدتها المنظومة العالمية عند مستهل هذا القرن الجديد، ولقد كان جديراً بالصين ــ ثاني اقتصاد في عالمنا كما يسلّم بذلك مؤلف الكتاب ـ أن تكون ثاني مقدِّم للمعونات والمساعدات على اختلاف أنماطها وتباين المستفيدين منها على مستوى العالم.

 المؤلف في سطور

البروفيسور ديفيد شامبو يعمل أستاذاً للعلوم السياسية والشؤون الدولية في كلية إليوت للشؤون الدولية بجامعة جورج واشنطن بأميركا. وهو يعد مرجعية موثوقاً بها في القضايا المتصلة بالصين المعاصرة ، مع اهتمام عميق وموازٍ بالقضايا المتصلة بالاتحاد الأوروبي .

وقد عمل المؤلف محاضراً عن السياسة الصينية في معهد لندن الشهير للدراسات الشرقية والافريقية ورئيساً لتحرير الدورية المتخصصة في شؤون الصين. حصل المؤلف على الدكتوراه في علم السياسة من جامعة ميتشغان، بعد أن خصص دراساته الجامعية الأولى لدراسة شؤون شرق آسيا في جامعة جورج واشنطن .

عدد الصفحات: 432 صفحة

الناشر: مطبعة جامعة أكسفورد، لندن، 2014

Email