كيسنجريحذر قادة أميركا من الجنوح إلى العزلة أو ممارسة الهيمنة النظام العالمـي

النظـــام العالمي

  • الصورة :
  • الصورة :
  • الصورة :
صورة
ت + ت - الحجم الطبيعي

الزمان بالتحديد: يوم 27 مايو من عام 1923. المكان بالتحديد أيضاً: مدينة اسمها فــــــيرث من أعمال منطقة بافاريا في ألمانيا التي كانت وقتها تتجرع غصص الهزيمة في الحرب العالمية الأولى، وتشعر بمرارة الانكسار وربما المذلة السياسية التي فرضتها على برلين أيامها معاهدة الصلح الشهيرة في فرساي لعام 1919، كانت تلك هي البيئة التي ما لبثت أن أفرخت مع عقد الثلاثينات من القرن العشرين صعود الحزب النازي بزعامة أدولف هتلر الذي قاد بلاده كما هو معروف إلى خوض الحرب العالمية الثانية (1939- 1945).

في ذلك اليوم الصيفي من عام 1923 كانت ولادة الفتي الذي ما لبثت أن طارت شهرته في آفاق عوالم السياسة والعلاقات الدولية تحت الاسم المعروف: هنـــري كيسنجــــر

في صيف عام 2013 الماضي احتفل كيسنجر بعيد ميلاده التسعين. وجاء الاحتفال في واحد من أفخم فنادق نيويورك وسط كوكبة مرموقة حقاً من نجوم السياسة ومشاهير المسؤولين:

الرئيس الأميركي الأسبق كلينتون وقرينته هيلاري، والرئيس الفرنسي الأسبق جيسكار ديستان فضلاً عن مسلسل وزراء خارجية الولايات المتحدة ابتداءً من جورﭺ شولتز وحتى جيمس بيكر مروراً بجون كيري بطبيعة الحال.

في عام 2014 اتخذ الاحتفال السنوي أسلوباً آخر هو بداهة عيد الميلاد الواحد والتسعين لهنري كيسنجر، هنالك قرر الرجل أن يكون احتفاله مناسبة لإصدار أحدث إنتاجه الفكري تحت العنوان التالي: النظــــــام العالمــــــــــي

هذا هو بالضبط عنوان الكتاب الذي نعايشه فيما يلي من سطور وقد صدر منذ أيام وربما ساعات وبالتحديد في صباح الثلاثاء، التاسع من سبتمبر الجاري.

التحديات مشكلة عالمنا

ولأن مؤلفنا هنري كيسنجر لا يزال، رغم السن المتقدمة، يتابع حقائق وتطورات المشهد العالمي الراهن، فهو يكاد يضع يده عند أهم محاور هذا المشهد ويلخصها في كلمة واحدة هي: التحديـــات

ثم يحاول تقصّي جذور هذه التحديات، حين يشير إلى أنها مستمدة من واقع التغيرات المتسارعة والخطيرة التي استجّدت وما برحت تستجد، على خارطة عالمنا، وبوتيرة لاهثة وتكاد تجسدها حقيقة أنه في عالم ما بعد الحرب العالمية الثانية - الحرب الباردة على مدار الخمسينات - التسعينات، بدأ عالمنا تهيمن عليه قوى الإعلام المتلفز، وبعدها جاءت إمكانات الاتصال الفضائي عبر الأقمار الاصطناعية (الاتصال الفضائي حسب مصطلحات الأمم المتحدة) وصولاً إلى بداية ثورة الاتصالات الإلكترونية.

في عالم القرن الواحد والعشرين، وجد العالم نفسه أمام متغيرات جذرية وحاسمة جسدتها طبعاً ثورة تكنولوجيا المعلومات والاتصالات باستخدام الحاسوب ومشتقاته المبهرة. وفي غمار هذا كله تحولت مواقع النفوذ في كوكبنا لتشهد صعود قوى عالمية جديدة كانت في مقدمتها الصين بكل إمكاناتها وطموحاتها.

هنا يشير كتابنا إلى عبارة سبق إلى إطلاقها الرئيس الأميركي أوباما في حفل تسلّمه جائزة نوبل الدولية للسلام في عام 2009 حين قال: لقد قادت أميركا العالم في تشييد هيكل يفضي إلى استتباب السلام، ومع ذلك فها هو العقد الأول من القرن الجديد (الواحد والعشرين) يشهد تداعي هذا الهيكل الدولي تحت وطأة التهديدات الجديدة.

هنا أيضاً يحذر كيسنجر في كتابه الجديد الذي بين أيدينا، من ركون أميركا إلى حالة الانعزال عما يجري ويضطرم في أرجاء عالمنا من ظواهر ومشكلات، ينبّه ساسة واشنطن ومسؤوليها ومخططيها ومفكريها إلى ضرورة الانطلاق من خلفيات الدراسة العميقة لتاريخ تطور الأمم والأفكار عبر القرون، سواء أكان موقع هذه التطورات هو أوروبا الغربية أم آسيا أم روسيا أم الشرق الأوسط، على ألا تقتصر هذه التحليلات على الجوانب السياسية بقدر ما تغطي بالضرورة - وكما ينبه كيسنجر أيضاً - مجالات التطور الثقافي والاجتماعي، بل والنفسي على السواء.

يؤكد أيضاً أهمية التحليل لأثر هذه التطورات على سلوكيات القادة والرؤساء والزعماء الذين تتعامل معهم السياسة الأميركية على اختلاف الساحات والثقافات والأقطار، موضحاً في هذا السياق بالذات ضرورة أن يتنبه القادة في أميركا وحلفاؤهم في أوروبا (حلف الناتو الأطلسي بالذات) إلى حقيقة أن أساليب التعامل ووجهات النظر الغربية (في أوروبا أو أميركا) ليست بالضرورة هي الأصلح أو الأرشد أو الأجدر بالإتباع لحل المشكلات العالمية ولا ينبغي أن تكون.

تاريخ النظام العالمي

يسترعي الاهتمام لدى القراءة الأولية لهذا الكتاب ما يتمثل في تأكيد هنري كيسنجر بأن ليس هناك ما يمكن وصفه بأنه نظام عالمي بحق.

وبمعنى أن كل حقبة تاريخية هي التي تحدد نظامها العالمي في ضوء تطورها الاقتصادي والمعرفي، وعلى أساس علاقات القوى التي تتمتع بقدر محسوب من الهيمنة أو التأثير على مجريات الأمور، وهنا يصدر كيسنجر باعتباره دارساً متعمقاً للتاريخ عن منظور يقول إن الحضارات السابقة - الغابرة طالما اتبعت هذا النهج أو هذا الأسلوب في التعامل مع عالمها وزمانها: الصين تصورت العالم في حضارتها القديمة وكأن الإمبراطور على رأس هذا العالم، روما القديمة تصورت نفسها موئل التحضر والتمدن وكل من حولها ما هم إلا متخلفون.

فكان أن أطلقت عليهم - كما هو معروف - وصف البرابرة حضارة ودول الإسلام - كما يوضح كيسنجر أيضاً - وخاصة في مراحل النشوء والنهضة - كانت ترى أنها الأجدر بمشروعية الوجود والتفاعل والتطور في سبيل التوصل إلى تواؤم (هارموني كما يقول كيسنجر) بين العالم وبين مبادئ العقيدة.

في هذا السياق يمكن أن يتوقف قارئ هذا الكتاب عند ما قد نصفه بأنه الصياغات الكيسنجرية التي لا تلبث تتردد عبر سطور هذا الكتاب: صياغات تجمع بين عناصر دقة الوصف وبلاغة الأداء وربما طرافة الطرح في آن معاً.

وعلى سبيل المثال، يصف مؤلفنا حالة ألمانيا الراهنة بأنها إما قوية أكثر من اللازم (في الاقتصاد) أو ضعيفة أكثر من اللازم (في السياسة).

ويصف روسيا قائلاً: «إنها قوة أوراسية بامتياز وبمعنى أنها تمتد وتتسع عبر قارتين (أوروبا وآسيا) ولكنها لم تتعامل يوماً مع أي من القارتين باعتبارها وطناً لها». ويصف كلاً من الصين وأميركا بأنهما الركيزتان اللتان لا يمكن الاستغناء عن أي منهما في بنية النظام العالمي.

عن الهوى الصيني

يتابع المؤلف عوامل القوة ومكامن الضعف في سياسات السلسلة المتعاقبة أخيراً من الرؤساء الأميركيين، وقد لا تعنينا في هذا السياق المحدود تفاصيل هذه المتابعة التي يختمها بداهة بالإشارة إلى انسحابات أميركا أو عوامل ترددها إزاء التوترات التي ما برحت تنتاب المشهد الدولي الراهن، وهو ما قد يخلق فراغاً يمكن أن يلحق الخطر بالأقطار والشعوب.

وربما بالوضع العولمي بأسره، وخاصة إذا ما تركت ساحات هذا الفراغ لقوى غير مسؤولة يمكن أن تحوز الأسلحة النووية في يوم من الأيام، مما قد يهدد بالذات منطقة الشرق الأوسط التي يكاد هنري كيسنجر يطل عليها من منظور بعيد عن التفاؤل بصورة أو بأخرى.

عبر فصول كتابنا يرى المؤلف أن صعود الصين حالياً لابد من فهمه واستيعاب حقائقه والتعايش معه، ما دامت الصين - كما يضيف كيسنجر - ماضية في طريقها بعيداً عن الإخلال بموازين القوة في عالم اليوم.

المهم عنده ألا تؤدي مثل هذه الظواهر، سواء أكانت تتمثل في أخطار الشرق الأوسط أم في مشكلات أميركا الداخلية، أم في صعود قوة طامحة اسمها الصين إلى أن تركن إلى أبراج العزلة بل يتعين على واشنطن أن تلتمس ما يصفه الكتاب بأنه النقطة المتوسطة بين فرط الثقة من ناحية وبين فرط الانزواء بين أركان العزلة من ناحية أخرى.

هنا أيضاً يكرر المؤلف - من واقع خبراته الواسعة عبر هذه السنوات المديدة من العمر سواء في مواقع الدرس الأكاديمي (في هارفارد بالذات) أو في معاقل السلطة السياسة (مستشاراً للأمن القومي ووزيراً للخارجية) - الدعوة إلى توّخي وحفظ التوازن بين سياسة خارجية قد تصدر عن منظومة القيم (الديمقراطية وما إليها) وبين سياسة واقعية - ريـال بوليتيك كما تسميها المصطلحات ذات الصلة وهو توازن يعترف كيسنجر شخصياً بأنه أمر سيظل من الصعوبة بمكان.

هذا الكتاب هو الأحدث صدوراً بين الدراسات التي تلقاها الوسط الثقافي أخيراً على مستوى الولايات المتحدة ومجامع الفكر الدولي بشكل عام، ولاسيما عند مستوى دراسات السياسة الخارجية والمشهد العالمي في مراحل تطوره عبر التاريخ.

يجمع مؤلف الكتاب، الدكتور هنري كيسنجر بين ثقافة الباحث - المفكر الأكاديمي، وبين الخبرة المباشرة، والمحنّكة أيضاً لسياسي ظل على مدار عشر سنوات ونحوها مشاركاً - إن لم يكن محوراً أساسياً - في صنع السياسة الخارجية وإدارة آلة العلاقات الدولية للولايات المتحدة.

وخاصة في حقبة شهدت ذروة الحرب الباردة بين معسكري الشرق والغرب، إلى جانب تورط أميركا في حرب فيتنام فضلاً عن التطلع إلى علاقات تقوم بين الولايات المتحدة والصين الشعبية، إضافة إلى اندلاع الحرب في منطقة الشرق الأوسط بين الطرف العربي والعدوان الإسرائيلي خلال شهر أكتوبر من عام 1973.

وقد حصل مؤلف الكتاب الدكتور هنري كيسنجر على جائزة نوبل الدولية للسلام في عام 1973 إلى جانب أوسمة عدة، كان في مقدمتها وسام الحرية من الرئاسة الأميركية. ورغم تجاوزه التسعين فقد أصدر عدداً من الدراسات المهمة من بينها كتابه الجامع بعنوان «الدبلوماسية» الصادر عام 1994 في 912 صفحة.

هكذا تكلمت «الأوبزرفر»

يحاول مؤلفنا أن يصوغ منظوراً أكثر تفاؤلاً في تعامله مع علاقات كل من أميركا والصين في مستقبل الأيام.

ولكن هناك من محللي هذا الكتاب - في صحيفة «الأوبزرفر» البريطانية مثلاً - من يعزو هذا التفاؤل إلى الميْل - هل نقول الهوى الصيني كما تقول الصحيفة اللندنية من جانب كيسنجر إزاء الصيـــن، كيف لا وقد كان الرجل هو أول من دقّ على أبواب سور الصين العظيم في مطلع عقد السبعينات الماضي، وبعدها انفتحت - بفضل جهوده السياسية والدبلوماسية أبواب العلاقات بين أميركا - ريتشارد نيكسون وصين ماوتسي تونغ في ذلك الزمان غير البعيد.

هيلاري كلينتون: حرصت على طلب المشورة من كيسنجر

 

قارئ هذا الكتاب سوف يصادف بعضاً من الصعوبة - كما قد نعترف - بحكم ما تحتشد به السطور من طروحات وتحليلات تاريخية تتابع ما جرى على صعيد أوضاع أوروبا في القرن التاسع عشر التي يعمد كيسنجر إلى تقصي جذورها منذ عقد معاهدة ويستفليا في عام 1648 التي يعّدها المؤلف وجمهرة أساتذة العلم السياسي بمثابة الحاضنة الأساسية لقيام الدولة - القومية الحديثة.

هنالك تحتشد الفصول والصفحات بإشارات دارسة وتفصيلية أحياناً لأحوال وتواريخ الإمبراطوريات والدول والممالك والنظم التي شهدها العالم على مدار حقب مختلفة من الزمن، ولدرجة أن يشعر القارئ بأن الكتاب لا يصدر عن موقف الدرس أو التحليل السياسي بقدر ما يستند أيضاً إلى قدر ملحوظ من الحنكة، التي لايزال يتحلى بها سياسي ومفكر مخضرم من حيث السن والخبرة الشخصية والمعرفة الأكاديمية والمراس العملي في عالم الساسة والسياسة وعلى مستوى التعاطي المباشر مع الأوضاع والمشكلات والشخصيات في كثير من الأحيان.

لا عجب إذاً أن تكتب هيلاري كلينتون وزيرة الخارجية الأميركية السابقة في تحليلها النقدي (4/9/2014) احتفالاً بصدور الكتاب موضحة أنها كثيراً ما كانت تلجأ إلى الدكتور كيسنجر حين كانت مسؤولة عن حقيبة الخارجية في واشنطن، طلباً للمشورة بصورة منتظمة، حيث كان يدلي بملاحظات ثاقبة كما قالت بشأن الزعماء الأجانب فيما حرص على موافاتها بتقارير كان يدونها عن الزيارات التي كان يقوم بها خارج الولايات المتحدة.

على أن وزيرة الخارجية الأميركية السابقة لا تلبث تبدي قدراً ملحوظاً من الاندهاش إزاء ما يبديه كيسنجر - في كتابه الطازج كما قد نسميه من جانبنا - من انحياز إلى جانب المنهج المثالي في نظرته إلى قضايا عالمنا الراهن، رغم أن كيسنجر - كما نعرف كقارئين، وكما تعترف هيلاري ذاتها - يعّد من أشهر الواقعيين في عالم السياسة: إن كيسنجر لا يلبث يؤكد في كتابه على تذكير أهل السياسة .

وصناع القرار في واشنطن على ضرورة الانحياز للقيم وما يرتبط بها ( في إدارة العلاقات الخارجية)، موضحاً أن أميركا يمكن أن تقود بفضل التواصل مع الشعوب والمجتمعات باعتبار ذلك هو الكفيل دون غيره تأكيد جانب المشروعية.

وفي هذا المضمار تختم السيدة كلينتون تحليلها لكتاب كيسنجر قائلة بالحرف: «إذا ما كان لقدراتنا الواسعة أن تضمن قيام توازن بين القوى كأساس للنظام الدولي (المنشود) فإن قيمنا ومبادئنا هي التي تساعد على جعل هذه القدرات أمراً مقبولاً، بل وجذاباً في نظر الآخرين».

Email