القنبلة السكانية المرتقبة في أميركا

شيخوخة السكان خطر يهدد أميركا

صورة
ت + ت - الحجم الطبيعي

يكاد هذا الكتاب يتفرد بميزة المصارحة العلمية بالنسبة لأحوال بلد المؤلف الولايات المتحدة الأميركية- في مجال السكان، بعد أن درج المحللون في فترات ماضية على الركون إلى فكرة أن لأميركا أن تطمئن إلى أوضاعها الديموغرافية، باعتبار أن لديها مَعيناً لا ينضب من القوى الشبابية وشبه الشبابية العاملة والقادرة على إدارة عمليات الإنتاج والخدمات، مقارنة بدول وشعوب متقدمة أخرى أصبحت تعاني من ظاهرة شيخوخة السكان وانحسار حجم تلك القدرات الشبابية المطلوبة أولاً لاستمرار الحراك الآلي، والمطلوبة ثانياً لتقديم الخدمات اللازمة لحياة هذه الفئات المتزايدة من السكان المسنين في مجالات الرعاية الصحية والخدمات الآلية وما إليها، ومن هذه الأقطار التي تواجه تلك المشكلات من حيث التركيب والتوازن الديموغرافي نجد إيطاليا وألمانيا في أوروبا، فضلاً عن اليابان في آسيا، بل يضيف هذا الكتاب بلداً محورياً هو الصين التي يتنبأ الكتاب أنها ستعاني سكانياً في غضون العقود الثلاثة المقبلة بسبب تطبيقها سياسة الطفل الواحد للأسرة، وهو ما أدى كما يضيف الكتاب- إلى تراجع عدد صغار السن وانحسار الجموع، والقدرات والطاقات البشرية الشبابية وهو ما يهدد بداهة أوضاع الصين في مستقبل لا يراه الكتاب بعيداً بحال من الأحوال. وفي ضوء هذا كله يحذر الكتاب أميركا بالذات من مغبة الثقافات والسلوكيات المستجدة في مجتمعها ما بين الاقتصار بين صفوف الطبقات الوسطى على طفل واحد، ناهيك بالاستغناء عن الإنجاب والاستعاضة عنه باقتناء الكلاب والقطط المدللة داخل الأسرة فضلاً عن كائنات الروبوت.

في لغة اليونان تشير لفظة ديموس إلى معنى الناس، البشر، فيما تشير لفظة غرافي إلى معنى التدوين، الكتابة أو التسجيل، ومن الكلمتين عمدوا إلى تركيب مصطلح »ديموغرافيك« ليصدق عنواناً على »علم السكانيات« أو هو الديموغرافيا ومن ثم يشيع استخدام اللفظتين في العربية وفي اللغات الأوروبية على السواء.

وما كنا لننشغل بحكاية الديموغرافيا أو علم السكان، إلا في غمار مطالعة الكتاب الصادر في الولايات المتحدة أخيرا ليحمل عنواناً رئيسياً تمت صياغته ببلاغة لغوية مشهودة، فيما يدقّ عنوانه الفرعي نواقيس خطر مضرجة بحمرة النذير إزاء واحدة من الظواهر الخطيرة المرتبطة بأوضاع السكان.

العنوان الرئيسي لكتابنا يقول بما يلي: ماذا نتوقع عندما لا يتوقع الآخرون أو (نحن نتوقع ما لا يتوقعه الآخرون).

أما العنوان الفرعي الشارح لموضوع الكتاب والمنطوي في الوقت نفسه على إشارات إنذار فيقول بدوره بما يلي: الكارثة السكانية القادمة التي ستواجه أميركا.

والحق أن العنوان الإنذار يثير بدوره شعوراً أقرب إلى المفاجأة، إن لم يكن إلى الصدمة العلمية أو المعرفية إلى حد ليس بالقليل. لمـــــاذا؟ لأن علماء السكانيات ومحللي الشأن العالمي ومن في حكمهم درجوا على أن يخرجوا أميركا أو على استثنائها من المشكلات، أو فلنقل الإنذارات، المتعلقة بقضايا السكان وأحوالهم وتطورات أمورهم وصور المستقبل المقدر أن يواجهوه، والحاصل أن مراصد الأحوال الديموغرافية ظلت تحذر من مآلات سلبية في حالة شعوب في أقطار أوروبية مثل ألمانيا وإيطاليا، بل وأقطار آسيوية منها اليابان بالذات، وهي تحذيرات مرتبطة بظاهرة بالغة السلبية تلخصها العبارة التالية: شيخوخة السكان.

ومعناها الارتفاع الشديد والمتزايد في أعمار السكان على اختلاف الشرائح والطبقات الإلية وهو ما يرادف الزيادة البالغة بل الفادحة- في عدد مَنْ بلغ سن الشيخوخة مع التناقص الخطير في سن من لايزالون في طور الشباب من قطاعات السكان.

وبديهي أن هذا الارتفاع في الأجل المتوقع للحياة كما يقول المصطلح الديموغرافي إنما يأتي نتيجة ارتفاع مستوى الخدمات الصحية العلاجية وتزايد الاهتمام بمستوى الرعاية المكفول بفضل نظم الادخار والتأمين لكبار السن وجمهرة المتقاعدين.

مشكلة غرب أوروبا

وبديهي أيضاً أن هذه الظاهرة تشير بالقدر نفسه إلى أن المجتمع في غرب أوروبا أو اليابان يعاني من تناقص الأيدي العاملة بقدر ما يعاني موضوعياً- من زيادة الأعباء المترتبة على رعاية الشيخوخة.

ومع تناقص العناصر الشبابية، تنكمش وربما تتضاءل- إمكانات طاقة العمل وبذل المجهود ومبادرات التجديد والإبداع والاختراع المستندة دوماً إلى القدرات الشبابية وشبه الشبابية في المجتمع الإنساني.

أميركا ظلت خارج هذا التصنيف السلبي، وكان هذا يرجع إلى أن أميركا بلد مستقبِل للمهاجرين على مدار عمره الذي لم يزد إلا قليلاً على مائتي سنة من عمر الزمان الحديث.

وفي ضوء هذه الحقيقة ظلت البنية السكانية في الولايات المتحدة تتزود على مر سنوات عمرها بمدد متواصل وثري ومتنوع من القدرات والإمكانات والطاقات البشرية الشابة والعفية في معظمها، تأتيها كما قد نقول من كل فج عميق، سواء من غرب ووسط أوروبا أو من البحر المتوسط والشرق الأوسط وهو ما يجّسده تيار الهجرة إلى شرق أميركا، أو من الجنوب حيث تيار هجرة الناطقين بالإسبانية من أبناء أميركا الوسطي وأميركا اللاتينية الهسبانيون كما يسميهم المصطلح الأميركي- ناهيك عن تيار الهجرة الآسيوي الصيني بالذات- القادم عبر المحيط الهادئ من أقصى شرق آسيا إلى ولاية كاليفورنيا وما جاورها من أصقاع الغرب في الولايات المتحدة.

عن القنبلة السكانية

عند هذا المنعطف من القضية يتوقف مؤلف كتابنا، موضحاً أن أميركا ظلت على مدار عقود سبقت تشاطر عالمها الخوف مما كان يطلق عليه الوصف التالي: القنبلة السكانية ومعناها الخوف من مغبة الزيادات الفادحة وبوتيرة مطردة ومتوالية، كما سبق وأن حذر المفكر الإنجليزي المتشائم توماس مالتوس (1766- 1834) وهي تشير بداهة إلى ظاهرة التكدس أو ازدحام السكان لدرجة أن تضيق بجموعهم ساحة الكرة الأرضية.

لكن كتابنا يذهب إلى القول بأن الإحصاءات الحديثة باتت تشير إلى أن أميركا تواجه بالضبط مشكلة مُعاكسة على طول الخط، وأن أبناء الشعب الأميركي، عبر أحدث جيلين (60 سنة أو نحوها) تظهر مؤشراتهم إبطاء في معدلات زيادة تكاثر الأميركيين الذين أصبحوا ينجبون مواليد أقل على نحو ما يؤكد مؤلف الكتاب الذي يواصل مقولاته على نحو نحاول إيجازه في النقاط التالية:

سوف يصل عدد سكان العالم إلى ذروة، وبعدها يبدأ في التقلص والانكماش خلال الخمسين سنة القادمة.

بل لقد بدأ هذا التناقص أو الانحسار في حجم السكان لدرجة أن بلداً آسيوياً متقدماً مثل اليابان لن يحتوي سوى على النصف من سكانه فقط مع نهاية القرن الحالي.

في إيطاليا تشير الواقعات الحيوية كما يسميها الاختصاصيون إلى أن عدد الوفيات أصبح يفوق باستمرار عدد المواليد كل عام.

في الصين أدت سياسة إنجاب طفل واحد فقط لكل أسرة إلى أن لم يعد هناك عدد كاف من النساء لكي يتزوجن من مواطنيهن من الرجال، ولم يعد هناك عدد من شباب الصين بما يكفي للسهر على رعاية المسنين من أهل البلد المذكور.

كل هذه الاتجاهات بما تتسم به من عناصر سلبية، أصبحت كما ينّبه مؤلف كتابنا وهو كاتب صحفي متخصص- تتخذ طريقها إلى الأرض والحياة الأميركية، ومن هذه الاتجاهات ما أضحى بالفعل جزءاً من السلوك والمعيشة والنَسَق الآلي العام في أميركا، وانظر مثلاً إلى ما درجت عليه مؤخراً الطبقة الوسطي في الولايات المتحدة من اعتماد سياسة إنجاب طفل واحد في الأسرة، بل الأنكى، يضيف كتابنا- أن من شرائح تلك الطبقات الأميركية المتوسطة من يقرر عدم الإنجاب أصلاً، حيث يكفيهم كما يقول المؤلف اقتناء كلب أثير بدلاً من إنجاب طفل عزيز.

وفي هذا السياق بالذات يضيف مؤلف الكتاب معترفاً فيقول: في واقع الأمر، ولولا موجة الهجرة التي عايشناها خلال السنوات الثلاثين الأخيرة لأصبحت الولايات المتحدة على شفا هاوية الانكماش السكاني.

سلوكيات جديدة

ثم تتواصل تحذيرات المؤلف من انتشار الأنساق الثقافية، وربما الرسائل الإعلامية ،التي تكاد تجمع على عدم إنجاب الأطفال أو على تحاشي تكوين الأسرة المعيشية (القائمة على أساس رابطة الزواج وأدوار الأبوة والأمومة بكل ما يرتبط بذلك من مسؤوليات)، والأنكى أن تشيع هذه السلوكيات والمواقف والثقافات تحت شعارات الحداثة- المودرنزم أو الحرية أو الانطلاق أو تحقيق الذات أو مجاراة منطق العصر، ولدرجة أن بدا الأميركيون الراغبون في تكوين الأسرة وإنجاب الذرية- أقرب إلى مواطنين من الدرجة الثانية.

وفي هذا الصدد يطلق كتابنا عبارة تجمع بين سخرية الموقف وبرغماتية الواقع حين يقول: أسوأ مِن إنجاب الأطفال (وتحّمل تبعاتهم) هو عدم الإنجاب من الأساس.

في السياق نفسه ينبه مؤلفنا قومه في أميركا إزاء ما قد يحيق ببلادهم من عامل بالغ السلبية يمكن وصفه بما يلي: الاختلال في معّدل الاستعواض الديموغرافي.

ومعناه أن أميركا (شأن بلاد أخرى) مهددة بمواجهة خلل في الهيكل العمري بما يفضي إلى ألّا يكون هناك مواليد جدد يأتون إلى هذا العالم وبما يكفي للتعويض عن راحلين سبقوا إلى العالم الآخر، وهو ما يفضي بالضرورة إلى تناقص مطرد في عدد الصغار والشباب متوازياً مع زيادة متفاقمة في عدد الكهول والمسنين فضلاً عن الطاعنين أيضاً في السن.

على أن صفحات كتابنا تحرص على توضيح حقيقة أو ظاهرة يرصدها المؤلف من واقع عملية الرصد الآلي والسلوكي التي اتبعها خلال تعامله مع مادة هذا الكتاب.

تقول هذه الصفحات الإيضاحية إن الأمر لا يقتصر على أن شرائح من المجتمع الأميركي باتت لا تريد إنجاب أطفال، بل يتعدى الأمر إلى حقيقة أن هناك من يريدون الإنجاب، ولكنهم يواجَهون موضوعياً بما يترتب على رغبتهم وقراراتهم من مسؤوليات وتكاليف ومشكلات لا يستطيعون تحمل تبعاتها في كثير من الأحيان.

تحذيرات محافظة

وبرغم النزعة المحافظة التي تتسم بها طروحات هذا الكتاب، إلا أن هناك من تلك الطروحات ما ينبغي أن يؤخذ على أكبر محمل من الجدية والاهتمام.

 

وفي المقابل هناك من محللي الكتاب من يحمدون للمؤلف برغم اتجاهه المحافظ على نحو ما ألمحنا- أنه يطرح أفكاره عبر فصول وسطور الكتاب- من منطلق التشجيع على ما يمكن أن نصفه بأنه رد اعتبار للأسرة بوصفها المؤسسة الآلية- النواة، وخاصة الأسرة التي تنجب أطفالها في حدود إمكاناتها.

بحيث تؤكد أنها مازالت تشكل المصدر الأساسي للقيم الأخلاقية والثقافة المجتمعية، وبغيرها يمكن أن يصاب المجتمع بانحسار في منظومة القيم بل وبآفة تصلب شرايين التواصل بين أجياله، فضلاً عن تناقص المعين الذي يزود الحراك الآلي بالقوى الطالعة والقادرة على إنجاز التحولات الاقتصادية الآلية ومواصلة مسيرة الإنتاج الإبداعي، ومن ثم فإن غياب أو انكماش هذه القوى يمكن أن يهدد المجتمع بآفات لا سبيل إلى توقعها، وهو ما يحذر منه مؤلف هذا الكتاب على مدار الصفحات.

 

المؤلف في سطور

جوناثان ف. لاست واحد من كبار المحررين والكتّاب المخضرمين في جريدة »ويكلي ستاندارد« المعروفة باتجاهها المحافظ في ساحة الصحافة الأميركية. وفي ضوء الأهمية التي تكتسبها مقالاته، وخاصة ما يتعلق منها بحاضر ومستقبل المجتمع الأميركي، يتم نشر هذه المقالات بصورة متزامنة في عدد من الصحف الأميركية الكبرى، وعلى رأسها »وول ستريت جورنال« و»لوس أنجليس تايمز« و»واشنطن بوست« وغيرها.

وقد اشتهر من كتابات المؤلف عموده الأسبوعي، الذي يتناول قضايا الساعة في مضمار السياسة وفي أمور ومجريات الشأن العام في الولايات المتحدة وفي الخارج. ويحمل هذا العمود عنوان »وهناك أمر آخر«.

وبحكم شهرته الصحافية فلاتزال تدعوه كثير من الوسائط الإعلامية المسموعة والمرئية في أميركا للإدلاء بآرائه حول مختلف القضايا محللاً ومعلقاً، كما أنه يتواصل مع القراء والمهتمين بقضايا الشأن العام، من خلال موقعه للبريد الإلكتروني، إضافة إلى نشر آرائه، بشأن الإصدارات المتوالية من الكتب، التي تتناول مجالات شتى تتراوح ما بين التحليل السياسي والبحث الآلي، إضافة إلى الإبداعات المحدَثة في فن القصة والرواية الأميركية.

ويأخذ عليه بعض النقّاد تلك النزعة ،التي لا تلبث أن تتجلى في كتاباته، لتنعى على أميركا ما يمكن وصفه بأنه نزعة تجمع بين الاعتداد بالنفس والاستسلام لمشكلات الواقع، وهو ما يحذر منه المؤلف بالنسبة لقضية حاضر ومستقبل سكانها بالذات.

عدد الصفحات: 240 صفحة

تأليف: جوناثان لاست

عرض ومناقشة: محمد الخولي

الناشر: مؤسسة إنكاونتربوكس، نيويورك، 2014

Email