النار والرماد في عالم السياسة

اليمين السياسي يمتد من أوروبا إلى كندا

صورة
ت + ت - الحجم الطبيعي

يتميز هذا الكتاب بقدر لا يخفي من صراحة الإفضاء، وإلى حد يكاد يقارب فضيلة الاعتراف بالخطأ، خاصة وهو يحكي بأسلوباً أدبياً مرموقاً عن التجربة التي خاضها مؤلفه - المفكر والأكاديمي - على صعيد الساحة السياسية في كندا، وطنه الأم، بكل ما حفلت به الساحة المذكورة من معارك برلمانية وجولات انتخابية شهدت منافسة خلال السنوات القليلة الماضية بين أجنحة الليبراليين، الذين ينتمي إليهم مؤلف الكتاب، وبين أجنحة المحافظين الذين حسمت المعارك الانتخابية لصالحهم، وضد صالح الجناح الليبرالي، وهو ما شكل فشلاً سياسياً ذريعاً على نحو ما يعترف به موضوعياً مؤلف الكتاب.

وهناك من المحللين من يصنّف هذا الكتاب في خانة الكتب ذات الأهمية في التجربة السياسية عبر التاريخ، ومنها مثلاً كتاب للسياسي الإيطالي ميكافيللي، بعنوانه الشهير »الأمير«. ولكن فيما يحاول كتاب »الأمير« أن يصف السبل والوسائل التي يمكن أن توصّل إلى مقاليد السلطة، وتعزز إمكانية الاحتفاظ بها، فإن كتاب »النار والرماد« - وكما يتضح من عنوانه المذكور - يسرد في موضوعية أكاديمية يُعتد بها، تجربة فشل ذريعة بكل المقاييس في عالم السياسة، فيما يحاول أن يسوق للقارئ عدداً من الأسباب أو المبررات.

56 سنة عاشها عالم الاجتماع الألماني الأشهر ماكس فيبر. مع ذلك، فما زال الناس يذكرون اسمه (1864- 1920) كلما أتوا على ذكر الموهبة الاستثنائية التي اتصف بها كبار القادة وصفوة الزعماء السياسيين عبر التاريخ، والصفة المذكورة تحمل الاسم الذي ما زال يتردد على ألسنة الناس، وخاصة في وسائل الإعلام، وهو: الكاريزما. ويرجع الفضل في طرح هذا المصطلح وفي ترويجه في الدراسات الاجتماعية والسياسية إلى ماكس فيبر شخصياً.

لكن الذي لم يشتهر به المفكر الألماني المذكور، هو فكرة أخرى، قال فيها ما يلي: هناك من المهن والتخصصات التي أنصح أصحابها والمشتغلين بها ألا يتحولوا في يوم من الأيام إلى احتراف السياسة، وأنا أرى أنهم غير مناسبين للعمل في هذا الميدان، ومن هذه المهن والتخصصات ما يحترفه الأكاديميون، أو فلنقل ساكنو الأبراج العاجية المشغولون بالتعمق في التحليلات والدراسات والتنظيرات، بعيداً عن واقع الاشتغال بالسياسة والدوران في دهاليزها والتعامل مع معضلاتها الصاخبة أحياناً، والمنطوية على ممارسة الخداع ونصب الأحابيل في بعض الأحيان.

حكاية المؤلف

في ضوء هذه المقولات، الفيبرية كما قد نسميها، يمكن أن نتعامل مع حكاية مؤلف الكتاب الذي نتعايش معه في ما يلي من سطور.

الكتاب يحمل عنواناً لا تخفى دلالته على القارئ منذ النظرة الأولى، والعنوان هو: »النار والرماد- النجاح والفشل في السياسة«.

ومؤلف الكتاب اسم كبير وشهير في دنيا الكتابة الصحافية والتحليل السياسي في قارة أميركا الشمالية- في الولايات المتحدة وكندا على وجه التحديد، وهو مايكل إيغناتييف الكاتب في صحيفة »واشنطن بوست«.

وتشاء الملابسات في مسيرة حياة الكاتب المفكر المذكور، أن يجمع في مهنته بين كونه أكاديمياً وصحافياً، وبمعنى أن يدخل في دائرة المحظور الذي سبق وأن حذر منه - كما أسلفنا - المفكر الألماني ماكس فيبر، ورغم أن هناك من المحللين من يذهب إلى أن مؤلف كتابنا لم يكن من ساكني البرج الأكاديمي العاجي إياه، بمعني أنه لم يكن منعزلاً عن تيار الأحداث في يوم من الأيام، رغم أنه أستاذ للعلوم السياسية في هارفارد، وهي من جامعات القمة في أميركا، إلا أن أسفاره العديدة وسبل التواصل المستمرة بينه وبين تيار الحياة في مسارها المعتاد وأحداثها اليومية ومنعطفاتها المباغتة في بعض الأحيان - كل هذا وضعه، ولا يزال يصنّفه، في خانة المفكر غير المنعزل عن نبض الشارع، وكل هذا لم يحل بينه أيضاً وبين الإدراك الواقعي للأمواج والتيارات المضطرمة التي يفور بها بحر السياسة، حين قرر في فترة قريبة أن يخوض غمار هذا البحر في بلده الأصلي - كندا.

العودة إلى كندا

المهم أن قرر البروفيسور - الكاتب - المحلل - الصحافي الدكتور مايكل إيغناتييف، أن يصبح زعيماً للحزب الكندي الذي كان ينتمي إليه، وأن يتخذ من هذه الزعامة طريقاً إلى البرلمان، ومن ثم إلى أن يشغل المنصب رقم واحد، فيصبح رئيساً للوزراء، بعد أن يفوز حزبه الليبرالي على منافسه المعروف في كندا باسم حزب المحافظين.

لقد بدا الطريق ممهداً أمام مؤلف الكتاب إلى حيث الوعد بالنجاح، كان ذلك في أواخر عام 2005، وكان قد شارف وقتها على سن الثامنة والخمسين، وحين طرق أبواب السياسة الكندية، بدت الأمور أكثر من واعدة، بل مبشرة بالنجاح: في أقل من عام بعد هذا التاريخ أصبح عضواً في البرلمان، وفي أقل من عامين أصبح زعيماً للحزب الليبرالي المعارض والمتطلع إلى السلطة الأولى في البلاد.

وعندما هلت بشائر الربيع من عام 2011، ازدانت الحاضرة الكندية تورنتو بالرايات والشعارات والأعلام واللافتات التي تحمل صورة مؤلفنا مرشحاً في الانتخابات. ومرة أخرى، كانت قراءة المرشح للمشهد السياسي في كندا قراءة تخلط بين معطيات الواقع ورومانسية الطموح، (بالمناسبة، فالأكاديمي المذكور استطاع أن يضيف إلى مؤهلاته الأكاديمية والصحافية موهبة الإبداع الروائي، لدرجة أن وصلت إحدى روايته إلى القائمة القصيرة للفوز بجائزة بوكر الشهيرة في هذا الفن الإبداعي).

المهم أن قرر مؤلفنا - مع بشائر الربيع الكندي الذي ألمحنا إليه في عام 2011 - أن يخوض الانتخابات، والأهم أن كانت تراوده التطلعات إلى الارتقاء إلى حكم كندا، كيف لا وهو أستاذ جامعي أكثر من مرموق، وهو كاتب سياسي في واحدة من أشهر الصحف العالمية، وهو روائي مبدع بكل المعاني، وهو زعيم الحزب الليبرالي بكل تاريخه الإيجابي في دنيا السياسة على صعيد الأصقاع الكندية من شمالي العالم.

ليبراليون ومحافظون

عند هذا المنعطف يتوقف أكاديمي آخر هو البروفيسور ستيفان كولليني، وهو أستاذ الإنجليزية في جامعة كامبردج، فيقول: »خاض مايكل إيغناتييف المعركة الانتخابية في كندا (مسلحاً بكل ما ألمحنا إليه من مؤهلات). ولكن كانت النتيجة كارثية من كل الجوانب: انكمشت حصة حزبه الليبرالي إلى حد رهيب، وتحققت أسوأ نتيجة بالنسبة لحزب حاكم في تورنتو، بل كانت أفدح عاقبة بالنسبة لفصيل الليبراليين، الذين لم يعرفوا هزيمة مثلها منذ إعلان الاتحاد الكونفدرالي في كندا عام 1867«.

وفوق البيعة، كما نقول، خسر زعيم الحزب - البروفيسور مؤلف كتابنا - مقعده في البرلمان، وهو ما دفعه إلى الاستقالة بغير توان، وبعدها كان لا بد من عودته على أعقابه من دنيا السياسة إلى العالم الأكاديمي أستاذاً في الجامعة. وهناك - على مدار الفترة التي أعقبت هذه الهزيمة الصاعقة - عكف الرجل على استعراض الملابسات التي صاحبت هذه التجربة حتى أخرجها، في الآونة الأخيرة على صفحات الكتاب الذي نلقي عليه الضوء في هذه السطور.

الاختلاف عن ميكافيللي

ومن محللي مادة الكتاب من يقرن بينه وبين كتاب السياسي الإيطالي نيكولو ميكافيللي بعنوان الأمير (1517). ميكافيللي عكف على تدوين كتابه المذكور بعد أن صرفوه من خدمة السلطة في نابولي، وحفلت سطوره، كما هو معروف، بخلاصة تجربة الحكم، حيث اشتهرت مقولته التي مفادها أن الغاية تبرر الوسيلة.

وها هو مؤلفنا، وقد تخلي عنه الحظ، وصادف ما لاقاه من فشل ذريع حقاً في تجربته مع السياسة، ثم عكف - مثل ميكافيللي - على تدوين خلاصة تجربته، المريرة بالطبع، مع الفشل في عالم السياسة، ولكن جاءت سطور كتابه أشد صراحة من سطور »الأمير«، فضلاً عن الإجادة من حيث منهجية السرد بما يليق بكاتب صحافي، وأيضاً من حيث استقاء العبرة المستفادة التي يحولها مؤلف كتابنا إلى دروس يلقيها في مقرر النظرية السياسية على طالبي العلم بجامعة هارفارد.

إلا أن المشابهة أو التوازي بين حالة المفكر الإيطالي والمفكر الكندي، يمكن أن تقف عند هذا الحد، وبعدها تكون المفارقة والاختلاف بين الحالتين. لمــــــاذا؟

لأن ميكافيللي تعرّض للإبعاد على يد أميره المقيم في قصور الحكم في نابولي. أما إيغناتييف فقد تعرض للفشل على يد الجماهير، أوسع جماهير الناخبين في شوارع المدن والأرياف في كندا.

في هذا المضمار، يحكي المؤلف في كتابه عن صدمته، وهو يستمع إلى هدير الجماهير المعترضة على ترشيحه في الانتخابات: يعترف بأنه كان يتصور أن ترشيحه للموقع الأول في كندا سيكون أقرب إلى تحصيل الحاصل. لكن ها هو يطالع شعارات مفاجئة على لافتات الجدران، وتصل إلى أسماعه أصوات صاخبة، زاعقة مفعمة بقدر لا يخفي من الاحتجاج الغاضب. أصوات تتردد من أوتار حناجرها عبارة لا تمل من التكرار، وهي: »إيغي، عد إلى وطنك«.

وبديهي أن »إيغي« هو الاسم الدال على إيغناتييف - صيغة الاختصار وليست صيغة الإعزاز بطبيعة الحال. وبديهي أيضاً أن كانوا ينددون بإقامته الطويلة خارج كندا، ويرون أن وطنه (الحقيقي) أصبح أميركا.

هنالك يحكي المؤلف كيف حملته هذه المواقف على معاودة التفكير في مسارات حياته ذاتها.

ها هي جموع الكنديين وقد عبرت عن حنقها أو رفضها لمرشح عاش خارج بلادها نحواً من 30 سنة (في إنجلترا والولايات المتحدة)، ثم ها هو يعود ليحكي لهم، أو يتصور أنه يعلمهم، كيف يديرون الأمور في بلدهم، والأكثر من هذا - كما يعترف الكتاب - فقد كان مِن هذه الجموع الكندية مَن كان يأخذ على المؤلف استخدامه في مقالاته المنشورة في واشنطن تعبير نحن، وكأنه يري نفسه منتمياً إلى الولايات المتحدة، وخاصة ما يتعلق - كما ينبه الكتاب أيضاً - بتأييد المؤلف لقرار اجتياح العراق الذي اتخذته إدارة بوش - الابن السابقة في عام 2003.

مشكلات الساسة مع الجماهير

رغم هذا كله، يشير المؤلف إلى أن مشكلته الأكبر، ظلت تتمثل في ما تفرضه مقتضيات العمل والنشاط السياسي من واجبات، وكان في مقدمها، ضرورة السفر في رحلات متواصلة وجولات لا تنقطع في طول كندا وعرضها (وهي بلد شاسع بكل المقاييس)، لزوم التواصل مع أو الالتحام بصفوفها مع الجماهير، ويضيف المؤلف أن هذا كان أمراً مضنياً، وإن ظل مفروضاً حتى في عصر التواصل الشبكي من خلال الإنترنت، وبمعني أن الاتصال الشخصي - المباشر- كما يقول الإعلاميون - لا يزال يشكل بنداً له أهميته من بنود الممارسة الديمقراطية، وخاصة في مواسم الانتخابات، وهو ما يعبر عنه الكتاب قائلاً: من المهم في هذا الصدد أن يتاح للناخبين أن يحدّقوا مباشرة في عين المرشح الذي يختارون.

ثم ازدادت الحالة تفاقماً بفعل الأساليب التي لجأ إليها الخصوم من حزب المحافظين الكندي بالذات: رفعوا لافتات تندّد بالزعيم - المسؤول الليبرالي، حاملة شعارات من قبيل: »لا تقلقوا - السيد إيغناتييف يقوم بمجرد زيارة لبلادنا ليس إلا«.

أو تقول: إنه لم يأت إلى البلاد من أجلكم (أو حباً في سواد عيونكم).

وثمة مشكلات أخرى أدت إلى تحوّل نيران الحماس السياسي المتقد في نفس مؤلف الكتاب إلى بقايا من رماد على نحو ما يشير إليه عنوان هذا الكتاب: أن المؤلف، وقد قرر التحول من أستاذ أكاديمي إلى نائب برلماني، ومن كاتب وإعلامي إلى سياسي متطلع إلى موقع في السلطة، كان لا بد وأن يصادف مشكلات. ومن تلك المشكلات ما يتجاوز هذه الحالة المتفردة التي يجسدها المؤلف، وتتمثل في تلك التحولات التي باتت تسري بين صفوف الجماهير في الغرب (كندا من بينها)، إلى تأييد الاتجاهات اليمينية، ودعم الساسة المنتمين إلى صفوف المحافظين على حساب دعاة وساسة الليبرالية أو الأجنحة اليسارية ومَن إليها، وهذا الاتجاه ما زال يتبّدى في الآونة الأخيرة على صعيد غرب أوروبا منذ انتصارات فصيل الجبهة الوطنية اليميني أخيراً في فرنسا.

ولعل الدروس المحورية التي لا بد أن نستخلصها من تجربة هذا الكتاب - فضلاً عن صراحة وشجاعة المؤلف - إنما تتمثل في ضرورة أن يقرأ السياسي مفردات الواقع جيداً، فقد ظل المؤلف يركن إلى سمعته كأستاذ كبير، وإلى أصوله الأسرية العريقة المنحدرة من أرستقراطية روسية، وإلى سابق خبرة لوالده في مضمار السياسة الكندية، فضلاً عن شهرة مؤلفنا كمفكر وداعية لحقوق الإنسان، وكل هذا لم يشفع عند الجماهير التي ارتأت أنه كان غائباً عن واقع الحياة في بلده الأم، ومن ثم، فقد ظلت تفتقد وجوده إلى جانبها وقت المشكلات والأزمات.

 

المؤلف في سطور

عدد الصفحات: 224 صفحة

تأليف: مايكل إيغناتييف

عرض ومناقشة: محمد الخولي

الناشر: راندوم هاوس، تورنتو، 2014

Email