عالم جديد نأت عنه أميركا

القرن الحادي والعشرون آسيوي بامتياز

صورة
ت + ت - الحجم الطبيعي

يستمد هذا الكتاب أهميته من طبيعة الأفكار الرئيسة التي يطرحها، وفي مقدمها أن عالماً جديداً يتشكل الآن بالنسبة للسياسة الدولية، ويترك آثاراً بالغة الأهمية على منطقة الشرق الأوسط.

ويرى المؤلف أن القرن الحادي والعشرين هو قرن ما بعد أميركي، وأنه سيكون تحت سيطرة آسيوية في المقام الأول.

ويؤكد أن الأحادية القطبية التي جسدتها الهيمنة الأميركية على العالم أصبحت شيئاً ينتمي إلى التاريخ، ولكن في الوقت نفسه لا يزال الوقت مبكرا على الإعلان عن قيام عالم متعدد الأقطاب، وهو ما يعني أن العالم يمر بحالة الأقطاب صفر ذات الطبيعة الانتقالية، التي لا تستطيع القوى القديمة في إطارها إعادة موازين القوى التي كانت عليه، والقوى الصاعدة لا تكفي وحدها لتحقيق انبثاق نظام دولي جديد.

هكذا، فإننا اليوم، حسب رؤية المؤلف، نجد أن العالم يبتعد عن الولايات المتحدة، والأخيرة تبتعد عن العالم، وهو ما يعكس رهاناً لا يخلو من المخاطر.

يحدد مؤلف كتاب "عالم جديد نأت عنه أميركا" سيمون سرفاتي العديد من النتائج التي ستترتب على بروز العالم الجديد بالنسبة للسياسات الدولية، خاصّة السياسة الخارجية الأميركية، وبالنسبة لمسائل الأمن على مختلف المستويات الدولية والإقليمية، ما ستكون له آثاره الكبيرة في منطقة الشرق الأوسط، التي غدت إحدى بؤر التوتر الكبرى على مسرح العلاقات الدولية في بدايات هذا القرن الـ 21. ما يؤكّده المؤلف بأشكال مختلفة في هذا الكتاب، هو أن العالم يتطوّر بسرعات مختلفة، ما يعني أن قواعد لعبة جديدة ترتسم في فضاء العلاقات الدولية أيضاً.

كانت الولايات المتحدة، كما يوضح مؤلف الكتاب، القوة الدولية الكبرى التي برزت في القرن العشرين، واكتسبت بجدارة، توصيف العظمى. بالتزامن مع انحدار القوى الكبرى الأوروبية التي سادت العالم وأقامت إمبراطوريات استعمارية منذ القرن التاسع عشر. هذه القوى الأوروبية، يصفها المؤلف بأنها تشيخ بطريقة سيئة، لكن من دون الوصول إلى حالة الجنون الكاملة. ويشرح أنها تفقد نفوذها أكثر فأكثر، في القرن الحادي والعشرين.

أمّا القرن الحالي، الحادي والعشرين، فيحدد سيمون سرفاتي سمته الرئيسة، بأنه ما بعد أميركي، وأنه سيكون تحت سيطرة غير غربية، وبالتحديد تحت سيطرة آسيوية. ويقول المؤلف: «في العراق تحديداً، ظهر العالم ما بعد الأميركي، ذلك أن تلك الحرب هي التي أكّدت أنه، وحتى بوجود هيمنة أميركية مقبولة نسبياً، فإن عالماً تسود فيه قوة واحدة، لم يكن قابلاً للاستمرار». والإشارة أيضاً إلى أن مقولة أسلحة الدمار الشامل التي كان يمتلكها العراق، حسب الحجّة الأميركية لشن الحرب، والتي تبيّن أنها غير موجودة، لم تكن بعيدة عن تدهور صورة أميركا في العالم.

هنا بالتحديد يفتح المؤلف قوسين، ويسأل: «أليس من التسرّع والسابق لأوانه القول إن هناك عالماً جديداً يتكوّن، وإن ملامحه في طور الاكتمال؟»، «لكن ومن غير التقليل من أهمية التبدلات الجارية في صورة العالم، ألا يمكن تصوّر قيام انبعاث أميركي جديد، وليس تقهقر القوّة الأميركية؟»، كذلك: «ما الذي ينبغي أن نخشاه أكثر: العيش مع أميركا وفي ظلّها، أم من دونها وانحسارها أكثر فأكثر عن المشهد العالمي؟».

أسئلة وفصول

هذه هي بعض الأسئلة التي يطرحها مؤلف الكتاب، ويحاول الإجابة عنها، وعن الأسئلة التي تتفرّع منها، على الفصول الخمسة التي يتألف منها الكتاب، والتي يكرّس الأول منها لـ «زمن التأملات»، والثاني لـ «ماضي أميركا»، والثالث لـ «حاضرها»، والرابع لـ «مستقبلها». أمّا الفصل الخامس الأخير، فمكّرّس لـ «ما ينبغي عمله»، وتنتهي صفحاته الأخيرة تحت عنوان «نفحة حياة جديدة بالنسبة لأوباما».

يحدد المؤلف القول إن الإجابة عن الأسئلة المطروحة على العالم حالياً، هي ذات أهمية كبيرة بالنسبة للأمن الدولي، وعلى صعيد مختلف، مناطق المعمورة. ذلك على أساس قاعدة يصوغها كالتالي: علينا الانتباه بأنه في مسارات القوى الكبرى، التي كان حكم التاريخ عليها قاسياً جداً، كان إعطاء دفّة القيادة لدولة أخرى، بوقت مبكّر جداً أو في المسار الخاطئ، قد ترتب عليه خطر إزاحتها عن تلك القيادة، بوقت مبكّر أيضاً. ولعل هذا هو الخطر الذي تواجهه الولايات المتحدة الأميركية في الوقت الحالي. وبالتالي، «سيأتي دور الآخرين»، لكن لاحقاً، كما يكتب سيمون سرفاتي.

ومن ما يؤكد المؤلف عليه، أن الولايات المتحدة مثّلت في القرن العشرين «حلماً للعيش الهادئ»، بلغ أوج حضوره مع نهاية الإمبراطورية السوفييتية، التي بدأ انهيارها مع انهيار جدار برلين، في التاسع من شهر نوفمبر من عام 1989. وكان ذلك بمثابة منعطف كبير في حياة أوروبا، وعلى صعيد العالم كلّه، إذ بدت أميركا في موقع سيدة العالم الليبرالي المنتصر.

لكن الصورة اختلفت تماماً، كما يشرح المؤلف، بعد تفجيرات 11 سبتمبر من عام 2001 في نيويورك وواشنطن. وكانت الحملة التي قررها الرئيس الأميركي السابق، جورج دبليو بوش، وما تلاها في حرب العراق عام 2003، قد أبرزت أميركا في دور «مثيرة الاضطرابات» و«الباحثة عن الحرب».

أميركا والشرق الأوسط

ما يؤكّده المؤلف بأشكال مختلفة، أن منطقة الشرق الأوسط كانت باستمرار محطّ خلاف في وجهات النظر بين الأميركيين والأوروبيين. ويشرح أن الأميركيين اكشفوا هذه المنطقة: «متأخرين»، وهم عموماً «لا يعرفونها جيداً، ويفهمونها بصورة خاطئة، ويحبونها قليلاً منذ أن اعترف ترومان، على عكس رأي مستشاريه، بإسرائيل عند قيامها».

كما يرى المؤلف أن الشرق الأوسط يمثّل المنطقة التي وجد الأميركيون أكبر الصعوبات فيها، في ما يتعلّق بفرض إرادتهم على حلفائهم الأوروبيين الذين يعرفون ملفاتها بصورة أفضل. كما يعتبرها المنطقة التي يظهر فيها الأميركيون، أقل كفاءة في موازنة مصالحهم فيها. ونقطة أخرى يؤكّد عليها المؤلف، وهي أن الشرق الأوسط كان إحدى مناطق التنافس الكبير بين أميركا والاتحاد السوفييتي، خلال فترة الحرب الباردة. الأمر الذي تلخصه جملة ينقلها عن هنري كسنغر، كان قد قالها للرئيس المصري الراحل أنور السادات، مفادها: «لا يمكنكم أن تحاربوا سوى بأسلحة سوفييتية، لكنكم لا تستطيعون الوصول إلى السلام إلا بالدبلوماسية الأميركية».

صورة مزدوجة

الحكم الذي يصدره المؤلف على أميركا ـ أوباما، أنه بعد ترك جورج بوش الابن الرئاسة، والعالم كلّه ينظر له بلا أيّة مودة، أن صورتها الجديدة بعد انتخاب أوباما، تبدو مزدوجة: «من جهة تبدو مبتسمة، بل تمتلك قوّة جذب كبيرة، ومن جهة أخرى، مثيرة للقلق، بل وخادعة».

لكن أثناء ممارسته مهامه الرئاسية «تغيّر الزمن» بالنسبة لباراك أوباما، ولم يعد هو ذلك الزمن الذي كرر فيه عندما كان مرشحاً، شعاره الشهير نعم أستطيع، بل غدا، نعم ينبغي عليك، التي يرددها الآخرون أمامه، والذين ينتظرون منه القليل مما كان قد قاله، ومما كانوا قد أملوه منه.

يوضح المؤلف أنه في العالم الجديد الذي ترتسم ملامحه، لم تتحقق أميركا «البعيدة عن التحزّب»، التي تأمّل أوباما بقيامها حوله في الولايات المتحدة، ولا حول الولايات المتحدة في العالم. ما حصل هو العكس، ذلك أن الانقسامات تعمّقت في الداخل بين الحزب الديمقراطي، الذي «أعاد توجهه نحو اليسار للدفاع عن الأميركيين في مجتمع مغلق، لم يعد يتجرأ على الحلم»، وبين الحزب الجمهوري الذي «أكّد على انعطافه أكثر نحو اليمين، للدفاع عن فكرة حول أميركا التي تواجه عالماً من الزوابع، بينما تفرط في الحلم».

والانقسامات تعمّقت أيضاً حول أميركا على صعيد الخارج. الفكرة التي يطوّرها المؤلف في هذا الصدد، مفادها أن نجاح أميركا على المسرح الدولي ارتبط دائماً بوجود شركاء حقيقيين معها، وبألا تكون وحيدة. هكذا كان ونستون تشرشل ضرورياً لفرانكلين روزفلت في الحرب العالمية الثانية، ليساعده، بل كان جوزيف ستالين ضرورياً له، ليثير قلقه. كما كانت شخصية مثل مارغريت تاتشر، عاملاً مساعداً وحاسماً للانتهاء من الحرب الباردة.

شركاء ومصداقية

يشير المؤلف في هذا السياق، إلى أنه في بدايات هذا القرن الحادي والعشرين، اعتبر جورج دبليو بوش نفسه، أنه في موقع روزفلت. واعتقد أن «توني بلير في مقام تشرشل». لكن «لا هذا ولا ذاك، له الوزن نفسه»، كما نقرأ.

وفي كل الحالات، يؤكد المؤلف في تحليلاته، أن أوباما، مثل البلاد التي يحكمها، فهما ضروريان، لكنهما ليسا كافيين وحدهما. وهو، بالتالي، أي أوباما، بحاجة إلى شركاء، وأميركا بحاجة إلى حلفاء. وفي الحالتين، لا بدّ من الجدارة والمصداقية.

ذلك من أجل تحقيق الإمكانية المتبادلة في الاعتماد على الآخر. الحالة التي يمكن أن تستجيب لمثل هذا المطلب، يجدها المؤلف، أوّلاً وأساساً، في البلدان الأوروبية والاتحاد الأوروبي، حيث استمرّ الإخلاص حيال أميركا في جميع الأزمنة، حتى في ظل الأزمة المالية والاقتصادية الكبيرة التي انطلقت من الولايات المتحدة في خريف عام 2008، وفي ظل حالة التوتر التي تثيرها الأزمات في العالم الحالي.

والحلفاء بالمقابل، هم أيضاً بحاجة إلى أن يروا في الولايات المتحدة، وفي رئيسها، شركاء لهم المصداقية. ذلك ليس فقط من حيث جاهزية القوة فحسب، ولكن أيضاً من حيث الفاعلية، من حيث استخدامها ومن حيث سلامة النوايا.

هنا يتوقف المؤلف عند المواقف خلال الأزمات في عام 2013، ليشير إلى أن مواقف الولايات المتحدة مع حلفائها، لم تكن تستجيب للمستلزمات المطلوبة لـ «الشراكة» و«الحلفاء». ونقرأ: «في سوريا بشكل خاص، ولكن أيضاً في مصر وحيال إيران، وبالنسبة لعموم الشرق الأوسط، هذه المنطقة المحورية، كان النقد لأميركا الذي وجهه الحلفاء، الأكثر وثوقاً بهم، هو الأكثر قسوة في غالبية الأحيان».

في مواجهة التهديدات

على خلفية مثل هذه الملاحظة، يصل المؤلف إلى نوع من التحذير المبطّن، الذي صاغه بالجملة التالية: أياً كان القرن الزمني، فإن النزاعات الصغيرة هي التي تبدأت بها الحروب الكبيرة، وبقبول التدخل مبكّراً في النزاعات الصغيرة، يجري تجنّب الحروب الكبيرة، في فترة لاحقة.

وعبر القول إن لكل زمن النتائج التي يخرج بها، ولكل نتيجة أهميتها بالنسبة للأزمنة الأخرى. يوضح سيمون سرفاتي، أن هذا القرن الحادي والعشرين، يبدو زاخراً بالتهديدات والصدامات التي افتتح بها سنواته الأولى، في العديد من المناطق، وعلى رأسها الشرق الأوسط، تذهب في غير الاتجاه الذي بُشر به بعد سقوط جدار برلين عام 1989، وبأن التاريخ انتهى، بمعنى أن الحروب انتهت، مع الانتصار النهائي لليبرالية على الاشتراكية.

إن الحقبة الجميلة لم تكن أكثر من أوهام. ويذكر المؤلف في هذا الخصوص، بالاعتماد على مدلولات تفجيرات 11 سبتمبر 2001 وما تلاها، الجملة الشهيرة التي قالها الكاتب الفرنسي الشهير أندريه مالرو، الذي كان وزيراً للثقافة في ظل رئاسة الجنرال شارل ديغول: «إن القرن الحادي والعشرين سيكون دينياً أو لا يكون».

ولا يتردد مؤلف الكتاب، في التأكيد أن للحرب مستقبلاً جميلاً، في سياق الأوضاع الحالية. ويشرح أنه حيال كل حرب أميركية تنتهي، في العراق أو أفغانستان، يرتفع تهديد حرب أخرى، في سوريا أو ضد إيران. هذا مع التذكير بتهديد الفوضى، وربما الحروب الأهلية. لذلك يرى أنه لا بدّ لأميركا أن تعمل في منظور المستقبل.

الأقطاب صفر

وفي المحصّلة النهائية، يشرح سيمون سرفاتي، أن الأحادية القطبية التي جسّدتها الهيمنة الأميركية، أصبحت في ذمة التاريخ، لكن لا يزال الوقت مبكّراً على إعلان قيام عالم متعدد الأقطاب. ثم يحدد القول إن العالم يمر بحالة «صفر الأقطاب» الانتقالية، التي لن تستطيع القوى القديمة أن تعيد فيها موازين القوى على ما كانت عليه سابقاً. والقوى الصاعدة لا تكفي وحدها، من أجل انبثاق نظام دولي جديد.

وفي توصيف واقع صورة العالم، راهناً، يوضح المؤلف أن العالم «يبتعد عن الولايات المتحدة، والأخيرة تبتعد عن العالم». وهذا رهان لا يخلو من المخاطر، حسب رأيه. والمخرج الذي يجده الأكثر سلامة، يحدده بضرورة نسيان الآمال الجامحة التي ترافقت مع انتخاب باراك أوباما رئيساً لأميركا عام 2008، وتجاوز الوعود التي طرحتها إدارته في السنوات الأربع الأولى من رئاسته، والتغاضي عن أخطاء السنة الأولى من فترة رئاسته الثانية.

إذا حصل ذلك كله، فإن التاريخ يمكن أن يقدّم محصّلة إيجابية لسنوات وجود أوباما في البيت الأبيض، في نهاية رئاسته خلال شهر يناير من عام 2017. وبذا، ينبغي للصورة التي أعطاها لأميركا، أن تتماشى مع دورها في عالم يرتبط بها كثيراً. وإلاّ، يُخشى أن يكون ما هو قادم أسوأ في السنوات التالية، وربما قبل مغادرة أوباما للبيت الأبيض. ويلفت المؤلف في هذا الصدد، إلى أن منطقة الشرق الأوسط، تشبه حالياً ما كانت قد عرفته البلقان قبل مئة عام، أي قبل نشوب الحرب العالمية الأولى.

 

المؤلف في سطور

سيمون سرفاتي مؤلف العديد من الكتب، التي خصّت بأغلبيتها السياسة الخارجية الأميركية. وهو يعمل أستاذاً لهذه السياسة في جامعة أولد دومينيون في نورفيلك في ولاية فرجينيا بالولايات المتحدة الأميركية. كما أنه يشغل شرفياً كرسي زبيغنيو بريجنسكي في مجال الجيوستراتيجيات بمركز الدراسات الاستراتيجية والدولية في واشنطن.

تسود في العالم اليوم فكرة مفادها أن هناك عالماً جديداً ينبثق. وبالتالي، هناك قواعد هي الأخرى جديدة، في ما يتعلق بمسائل الأمن، على مختلف المستويات الدولية والإقليمية والوطنية، لمختلف البلدان.

وأستاذ السياسة الخارجية الأميركية، سيمون سرفاتي، الذي قدّم سلسلة من الكتب باللغة الإنجليزية، أثارت اهتماماً كبيراً في الولايات المتحدة الأميركية، يكرّس كتابه الأخير باللغة الفرنسية للعالم الجديد، الذي ترتسم ملامحه، ويجده عالماً تنأى عنه أميركا، حسب ما يشير عنوانه.

عدد الصفحات: 244 صفحة

تأليف: سيمون سرفاتي

عرض ومناقشة: دكتور محمد مخلوف

الناشر: أوديل جاكوب، باريس،

Email