«عشت مرتين» سيرة ذاتية

البرادعي خان أمانة أنصاره باستقالة مفاجئة

  • الصورة :
  • الصورة :
  • الصورة :
  • الصورة :
صورة
ت + ت - الحجم الطبيعي

من بين كتب السير الذاتية العديدة، التي شهدتها المكتبة العربية أخيراً، يتسم هذا الكتاب بأنه يحقق تكامل سرد محطات من حياة مؤلفه ومن نضال أبناء جيله، بحيث جمعت في أطرافها بين الأسى والانكسار والفشل من ناحية، والصمود والحلم والإنجاز من ناحية أخرى.

نحن هنا على موعد مع رؤية المؤلف لسلسلة المشاهد التي برز فيها الدكتور محمد البرادعي، المدير السابق للوكالة الدولية للطاقة الذرية في الحياة العامة في مصر، منذ إعلان عزمه خوض انتخابات رئاسة الجمهورية، وحتى مغادرته مصر عقب استقالته من منصب نائب الرئيس، إثر فض اعتصامي رابعة العدوية والنهضة.

ونتوقف عند محطات من علاقة المؤلف المعتز بناصريته بالدكتور البرادعي المحسوب على التيار الليبرالي، منذ استقباله بمطار القاهرة الدولي قادماً من الخارج، مروراً بمشاركته في تأسيس الجمعية الوطنية للتغيير، وحتى استقالته منها، وصولاً إلى اللحظة الراهنة.

 

كنت كغيري مهتماً بتصريحات الدكتور محمد البرادعي في الخارج، خاصة عندما أعلن في قناة السي إن إن أنه يعتزم خوض انتخابات الرئاسة المقررة في 2011 إذا ما رفعت القيود الدستورية على الترشيح.

حاولت الصحف القومية تلويث سمعة البرادعي بأكبر قدر من البذاءات والشائعات، من بينها مثلاً أنه حاصل على الجنسية النمساوية، ولكنني تحققت من كذب هذه الشائعة، أما الشائعة الأخرى فهي أنه عميل للولايات المتحدة، وأنه هو الذي أعانها على غزو العراق، عندما قام مع هانز بليكس بالتفتيش على الأسلحة الكيماوية والبيولوجية العراقية، فلم تكن تقوم على أساس.

قررت الذهاب إلى المطار لاستقبال الدكتور البرادعي يوم الجمعة 19 فبراير 2010، وتجمع نحو ثلاثة آلاف شخص في المطار، تأخرت الطائرة نحو ثلاث ساعات، وعندما استطاع الرجل أن يجد طريقه بين الجموع التي تدافعت تجاهه، فوجئت به يستقل سيارته وينطلق بها.

في 23 فبراير استضاف الدكتور البرادعي أغلب ممثلي القوى الوطنية وعدداً من الشخصيات المستقلة في منزله، في اجتماع أعد له د. حسن نافعة، وكانت هذه أول مرة ألتقي فيها البرادعي.

توصل المجتمعون إلى ضرورة تأسيس جمعية وطنية للتغيير يعلن البرادعي قيامها، وقام عصام سلطان بكتابة بيان مختصر، ولكن البرادعي تردد كثيراً قبل أن يمتثل للضغوط ويوافق على أن يعلن قيام الجمعية بنفسه.

في الأيام التالية، بدأ البرادعي يباشر بنفسه وضع تصور لخطة عمل الجمعية وآليات تنفيذها، وعقد اجتماعاً مطولاً لهذا الغرض مع د. حسن نافعة ود. أبو الغار ود. الأسواني، ثم سافر.

اتفقنا بعد عودة البرادعي على توزيع العمل بيننا في لجان يعيَّن لكل منها مسؤول، فأصبح الدكتور عبد الجليل مصطفى مسؤولاً عن الاتصال والتوقيعات على بيان الجمعية، والدكتور أبو الغار مسؤولاً عن المصريين في الخارج، والدكتور محمد غنيم وجورج إسحق مسؤولين عن لجان المحافظات، والمستشار الخضيري مسؤولاً عن اللجنة القانونية، وعصام سلطان مسؤولاً عن مساندة الأعضاء، أما أنا فكلفت بأن أكون المتحدث الإعلامي للجمعية.

معلومة مغلوطة

بعد أن التقينا بالصحافيين، انتحيت بالدكتور البرادعي جانبا، وقلت: «يا دكتور محمد، أنت تعلم بالطبع أنني ناصري، ولكن ما سأحدثك فيه الآن لا ينطلق من هذه الخلفية، فقد عاهدنا أنفسنا جميعا أن نطرح جانبا معتقداتنا السياسية، ونعمل أولاً على إحداث التغيير، لقد قرأت اليوم حديثك في جريدة "المصري اليوم"، ويؤسفني أنك ذكرت فيه معلومة مغلوطة هي أن عبد الناصر دفن الإخوان المسلمين أحياء في سنة 1967، هذا أولاً غير صحيح، لكن الأهم من ذلك أن نشره سوف يستعدي الناصريين، ونحن لا نريد استعداء أي فريق سياسي، بينما نعمل على تجميع الكل حول أهداف الجمعية»، طمأنني الدكتور البرادعي أنه سيراعي ذلك في المستقبل.

في اليوم التالي، نزل البرادعي إلى الشارع لأول مرة ليصلي الجمعة، وبعد أن طاف بشارع المعز توجه للصلاة في مسجد الحسين، كنا نظن يومها أن احتكاكه بالناس سيدفعه للنزول إلى الشارع واللقاء بالجماهير، إلَّا أن استقباله في الحسين لم يثمر سوى عن افتتاحه لحسابه الشهير على «تويتر».

أزمة المبعدين

الأزمة الحقيقية التي واجهت الجمعية كانت قد وقعت يوم 8 إبريل عندما أبعدت إحدى الدول العربية 26 مصرياً كانوا في طريقهم إلى مقهى للتشاور فيما يمكنهم عمله للحصول على حقهم في التصويت في انتخابات بلادهم.

معظم هؤلاء تم اعتقالهم في اليوم السابق للموعد، والبعض اعتقلوا من أماكن عملهم، وبدأت سلطات تلك الدولة في ترحيلهم .

اتصلت بالدكتور حسن نافعة واتفقنا على إصدار بيان عاجل نستنكر فيه الحادث، وأخذنا في إبلاغ منظمات حقوق الإنسان المصرية والعربية بالخبر .

صغت البيان، واتفقت على نصه مع حسن نافعة وأرسلته للصحف، وأرسلت النص إلى علي البرادعي، فإذا به يرد برسالة يطلب مني فيها إيقاف توزيع البيان أو سحبه إذا ما كنت قد أصدرته، وأضاف أنه قد «تم الاتفاق على أن الدكتور البرادعي هو وحده المخول بإصدار بيانات باسم الجمعية»، ثم نقل لي نص رسالة الدكتور البرادعي، بالإنجليزية كالعادة، ترجمة رسالته تقول: «هذا البيان يمكن أن يصدر بصفة شخصية، على لسان شخص أو مجموعة أشخاص، ولكن ليس باسم الجمعية».

 صدمتني الرسالة لأسباب عدة؛ أولها أن الدكتور البرادعي لم يكلف نفسه الاتصال بي أو بأي من الزملاء لاستيضاح الأمر ومناقشة التصدي له.

السبب الآخر هو أن الرسالة فيها كذب لا وصف آخر له غير الكذب؛ إذ إننا لم نتفق من قبل على أن إصدار بيانات الجمعية مقصور على البرادعي وحده.

أرسلت الرد، وكان نصه: «الأخ الأستاذ علي البرادعي، أبلغتني في رسالتك أن الدكتور البرادعي هو المخول وحده بإصدار البيانات باسم الجمعية كما هو متفق عليه، وبالرغم من أنني لم أبلغ باتفاق كهذا فإن الرسالة على هذا النحو تلغي مسؤولية اللجنة الإعلامية أو المتحدث الإعلامي، وهكذا فإنني أطلب منك إبلاغ الدكتور البرادعي والزملاء المسؤولين عن بقية اللجان أنني أعفيت نفسي من أي عمل إعلامي يتعلق بالجمعية التي سأظل وفياً لأهدافها السبعة من أجل التغيير، تمنياتي».

بشائر يناير

عندما أتى يناير ذهبت لأول مرة، بعد سنوات الغربة، إلى ضريح عبد الناصر لنحتفل بذكرى مولده يوم 15، ونلتقي الناصريين القادمين من الأقاليم، كان همنا يومها أن نحشد القوى الوطنية خلف الدعوة التي كانت الجمعية الوطنية للتغيير قد أطلقتها في اليوم السابق لتشكيل حكومة إنقاذ وطني .

يوم 22 يناير جاء شباب الجمعية الوطنية للتغيير يعرضون على قيادتها خطة التحرك في 25 يناير، التي حددتها قوى الشباب بحركاتها المختلفة، وكانت تقوم على أساس الانطلاق من مناطق القاهرة الأكثر فقراً وفي اليوم التالي اجتمعنا حيث دعونا إلى أن تكون وقفتنا يوم 25 يناير أمام مكتب النائب العام مع البرلمان الشعبي، في هذا الاجتماع قال عصام العريان إن جماعة الإخوان المسلمين ستقصر مشاركتها في الوقفة على بعض رموزها فقط.

قصة الأيام الثمانية عشر المجيدة بعدئذ أصبحت معروفة للكل، لا أدعي أنه كان لي فيها دور يذكر إلى جانب دور الملايين الذين حققوا الحلم، كانت الطليعة يومها للشباب، والضحايا كانوا في صفوفهم.

عندما قرأت صحف الصباح في اليوم التالي، 26 يناير، لم أفاجأ بنشرها تصريحاً لجورج إسحق قال فيه: «الله يحرق البرادعي.. لا نريد معرفة أي شيء عنه»، كان يشير إلى غياب الدكتور البرادعي عن يوم اندلاع الثورة، غاب البرادعي بعد ذلك عن جمعة «الثورة أولاً» في 8 يوليو 2011، وتخلف أيضا عن الاحتفال بالذكرى الأولى لثورة يناير في 2012، وكان قد أعلن قبل ذلك بأيام انسحابه من انتخابات الرئاسة.

عندما فوجئ البرادعي بالإحباط الذي حدث للشباب، وبانقلاب بعضهم عليه، حاول أن يحتوي الموقف بالدعوة إلى تأسيس كيان هلامي سماه "حزب الدستور".

لماذا حزب الدستور؟

كتبت عندئذ مقالاً بعنوان «لماذا حزب الدستور؟»، وتساءلت: لماذا كل هذا الجهد لقيام حزب جديد، وهناك حزب يرفع الشعارات نفسها مثل الحزب المصري الديمقراطي الاجتماعي؟ لماذا لم يندمج «الدستــور» في أي حزب آخر يتفق معه في الأهداف بـــدلاً من عـــناء قيام حزب جديد؟

مرت الأيام، وبعد 30 يونيو عادت الجبهة فعلقت عليه آمالها، وأعلنت مع تنسيقية 30 يونيو أنهما يفوضان الرجل متحدثاً باسمهما مع القوات المسلحة، وانتهى التفاوض إلى تعيين البرادعي نائباً للرئيس في 9 يونيو 2013، ولكنه خان الأمانة التي علقها عليه أنصاره، واستقال في 14 أغسطس احتجاجاً على فض اعتصامات مؤيدي مرسي بالقوة، لم أجد في ذلك جديداً؛ إذ كيف ينجح البرادعي في إدارة شؤون الدولة وهو الذي لم ينجح في إدارة شؤون حزبه؟ وعندما كتبت يومها أقول إن البرادعي، كما عرفته، متردد، كاذب، أناني، لا يتحــمل مسؤولية، لا يقبل رأياً آخر، البرادعي ليس منا، لم أكن أقول يومها شيئاً جديداً.

 

 

مع الجنزوري

 

كنت وقتها على صلة بالدكتور كمال الجنزوري رئيس الوزراء الأسبق، كان قد اتصل بي عندما أذيع حديثي مع عمرو الليثي ليهنئني على الحديث، وكان هذا أول اتصال بيننا، قال إنه يود أن يراني، فذهبت إليه في مكتبه الخاص الذي لم يكن يبعد عن بيتي كثيرا في مصر الجديدة، وبعدها أخذت أتردد عليه بانتظام.

كان شديد الانتقاد للحلقة المحيطة بالرئيس المصري الأسبق حسني مبارك، وقارئاً جيداً للمقالات السياسية، وفي أكثر من مرة طلب مني أرقام هواتف الكتاب المعارضين ليبلغهم إعجابه بما كتبوه أو ليناقشهم فيه، وحمَّلني رسائل إلى البعض منهم، وعندما أسسنا الجمعية الوطنية للتغيير حاولت أن أحثه على إصدار بيان يعلن فيه معارضته للحكم، ولكنه آثر التريث حتى لا يرتبط ذلك بعودة الدكتور محمد البرادعي، الذي لم يكن متحمساً له حماسه للجمعية، كان شديد الانتقاد لغياب البرادعي المتكرر عن مصر، وكان دائماً ما يطلب مني أن نضغط عليه حتى يعود.

 

 

 

شقيقي يحذرني من أن الشرطة تتحين ظهوري في أي تظاهرة لاعتقالي

 

اتصل بي شقيقي عاصم قبيل 25 يناير، وهو ضابط شرطة سابق، يحذرني من أن الشرطة تتحين ظهوري في أي تظاهرة بالشارع لاعتقالي، بعد الخطاب الحاد الذي كنت قد ألقيته قبل أسابيع في نقابة الصحافيين احتفالاً بحصول علاء الأسواني على جائزة «الإنجاز العلمي» من جامعة إلينوي الأميركية.

لكن القوى الوطنية كانت قد قررت النزول على الرغم من الإنذار الذي وجهته لنا وزارة الداخلية بضرورة الحصول على تصاريح للتظاهر، وكان اللواء إسماعيل الشاعر مساعد وزير الداخلية قد صرح يوم 24 أيــضاً بأن «الوزير أصدر توجيهات باعتقال من يخرجون على الشرعية».

وأنا في طريقي إلى دار القضاء العالي كنت أعتقد، على الرغم من ثقتي بإحكام التخطيط للتظاهرات، أنها سوف تجبر النظام على إقالة وزير الداخلية، وربما تقديمه للمحاكـمة بتهمة التعذيب، وسوف تتجاوب مع بعض المطالب الشعبية، مثل تحديد الحد الأدنى للأجور مثلاً، وعندها نلتقط أنفاسنا، ونعاود التجهيز لخطوة أخرى، لكنني لم أستبعد قط أن يضطر مبارك إلى إقالة الوزارة، وتشكيل حكومة إنقاذ لتسد بعض أبواب الغضب.

في الثانية عشرة كان عددنا قد بلغ الألف تقريباً أمام دار القضاء العالي، لكنني لم أشاهد من قيادات الإخوان أحداً، سوى محمد البلتاجي، في حين كانت قوات الشرطة التي تحيط بنا وتلك الرابضة في لوريات الأمن المركزي تزيد على عدة آلاف.

فوجئت بشقيقتي مآثر تشق طريقها نحونا فحاولت أن أثنيها عن البقاء، ولكنها قالت إنها وصلت من مدريد في الليلة السابقة لتشهد هذه اللحظة، تمكنت بعد حوالي نصف الساعة من أن أقنعها بالذهاب، وأن أجد ضابطاً شاباً سمح لها بالخروج، خرقاً للتعليمات التي كانت تقضي بحصار الوقفة ومنع الدخول إليها أو الخروج منها، وعندما ركبت سيارتها عدت ثانية، حيث كان الخطباء يصعدون إلى السلالم ليلقوا خطبهم النارية واحداً بعد آخر.

 

 

عرض ومناقشة ــ إسماعيل الأشول

الناشر ــ دار الشروق، القاهرة، 2014

Email