"البيان" تنشر مذكرات الإعلامي الكبير حمدي قنديل-عشت مرتين.. 6-10

مبارك أبدى انزعاجه لوصفي الإسرائيليين بـ«السفلة»

ت + ت - الحجم الطبيعي

هذا كتاب نادر حقاً، ربما في المقام الأول لأن مؤلفه، الإعلامي العربي الكبير حمدي قنديل، حقق من خلاله تكامل معادلة سرد محطات من حياته ومن نضال أبناء جيله، بحيث جمعت في أطرافها بين الأسى والانكسار والفشل من ناحية، والصمود والحلم والإنجاز من ناحية أخرى.

ونحن هنا نجد أنفسنا مع المؤلف في رحلة يُقدّم لنا عبرها كيف رأى النور برنامجه التلفزيوني المميز "رئيس التحرير" ، فنتابع التعقيدات الرقابية والإدارية التي تعرض لها، والتي وصلت إلى حد اختزال الحلقة الأخيرة منه إلى تسجيل 14 دقيقة عن حصار عرفات، لتختصر لدى البث إلى ثماني دقائق.

ولا يغيب عن المؤلف أن يقدم لنا لمحة إنسانية عن حياته الخاصة وزواجه من الفنانة نجلاء فتحي، التي يقول إنها خطبته عبر الهاتف، فلم يزدد إلا إعجاباً بها وتقديراً لها.

 كنا في فبراير 1998 عندما قال لي جمال بدوي إن وزير الإعلام المصري آنذاك صفوت الشريف طلب منه أن يسألني عما إذا ما كنت على استعداد لأن أقدم برنامجاً في التلفزيون المصري، وعندما وافقت رتب جمال الموعد، وذهبت إلى الوزير في مكتبه.

حدثني صفوت الشريف عن الكتيبة الإعلامية، وعن الريادة التي يجب أن تحتفظ بها مصر، وعن إيمان النظام بحرية الإعلام، وعن أن انطلاق هذه الحريات يعتمد على أن توضع في أيدٍ حكيمة، قال: «إحنا مش حنلاقي حد زيك فاهم الأمور كويس»، توقفت قليلاً عند هذه العبارة، لكنني مع ذلك شكرته، وقلت إن أساس العلاقة يجب أن يكون الوضوح، وإن لي متطلبات بدونها من الصعب أن أعمل، أنا لا أضع شروطاً، ولكني أرى أن نجاح البرنامج يعتمد على ثلاث ركائز، أولها توافر سقف حرية عالٍ، وثانيها المرونة الإدارية بحيث لا أقع في حبائل روتين ماسبيرو، أما الثالثة فهي قبول الإعلانات في البرنامج.

قال: «سوف نرصد للبرنامج الميزانية المناسبة بإعلان أو بدونه، لكنني لا أمانع في قبول الإعلانات على أي حال»،

برنامج ساخر وساخن

انساب الحديث في مودة بادية، وبدأنا ندخل في التفاصيل، فسألني عن الاسم الذي أقترحه للبرنامج، قلت إن لديَّ ثلاثة اقتراحات، ولكني أفضل بينها اسم «رئيس التحرير».. بصراحة، أفضله لأن معناه أنني أنا المسؤول عما أقول، أي إنني، بعد إذنك، لا أتقبل تعليمات من أحد، ضحك صفوت الشريف وقال: «مفيش مانع أبداً»، ثم سألني متى أكون على استعداد لتقديم الحلقة الأولى، قلت:

«فور انتهاء الترتيبات اللوجستية، الديكور وما شابه»، قال: «ربنا يوفقك، دعنا إذن نبدأ بحلقة كل شهر»، فقلت إن المرة في الشهر ليست وصفة للنجاح ولكنني لا أمانع، فلنجعلها فترة جس نبض يتعرف فيها كل جانب إلى الآخر ويطمئن له، وبعدها يجب أن يكون البرنامج أسبوعياً.

قال الوزير: «إذن فلا يتبقى لنا الآن إلَّا الحديث عن الأجر، وأنت تعلم طبعاً أن أجورنا لا تتوازى مع ما تدفعه القنوات الخاصة، لكني أعدك بأنك ستتقاضى أعلى أجر بمقدورنا أن نقدمه لك، وعلى أي حال فسوف أترك هذه التفصيلات لعبد الرحمن حافظ (رئيس اتحاد الإذاعة والتلفزيون) ليبحثها معك».

قلت إن ذلك لا يُمثّل مشكلة، وعلى الرغم من أنني لا أعرف لائحة الأجور هنا ولا ما الذي سأتقاضاه فإنه مهما كان الأجر فسيظل رمزياً، وما أطلبه أن تخصص لي نسبة 10% مما ستدفعه الجهات الراعية للبرنامج.

بدأت في إعداد البرنامج، كنت قد قررت أن يكون «رئيس التحرير» عرضاً بسيطاً وعميقاً، ساخناً وساخراً لقضايا البلد، واخترت للحلقة الأولى موضوعاً حساساً لأختبر بذلك قيود الرقابة هو حرب الخليج، واستضفت للمناقشة المشير عبد الغني الجمسي والدكتور مراد غالب وزير الخارجية الأسبق والمفكر المصري اليساري محمد سيد أحمد، كما استضفت أيضاً المفكر الكويتي الدكتور أحمد الربعي، لأتبين مدى كفاءة التلفزيون في إجراء ترتيبات سفره وفي دفع المكافأة المناسبة، وتم ذلك كله على خير وجه.

لم يصدق بعضهم أن يخرج مثل هذا الكلام من التلفزيون المصري الرسمي، فأخذوا يعزون ذلك إلى أن قائله "مسنود".

لما اقترب موعد الحلقة الثانية من «رئيس التحرير» دعوت المفكر الفلسطيني الدكتور عزمي بشارة للحضور، في حين توجهت أنا إلى بيروت لتسجيل أول حديث في التلفزيون المصري مع الأمين العام لحزب الله حسن نصر الله للحلقة ذاتها..

وكنت أنوي تخصيص الفقرة الثالثة في الحلقة لمناقشة قضية الصحافة الصفراء، ودعوت للمشاركة فيها الدكتور مصطفى كمال حلمي رئيس مجلس الشورى آنذاك ومكرم محمد أحمد نقيب الصحافيين وقتئذ وكذلك صفوت الشريف، لكنه اعتذر بدعوى أنه سيظهر في برنامج تلفزيوني آخر.

استمر التجهيز للحلقة، وسارت الأمور دون متاعب تذكر، وفي اليوم المقرر للتسجيل، وهو يوم البث نفسه، فوجئت بالمخرج يتصل بي ليقول إنه ذهب إلى المسرح في الصباح فوجده محجوزاً لتسجيل برنامج «لو بطلنا نحلم»، كما أن إحدى المدارس الخاصة استأجرته لتقيم فيه حفلاً، حاولت فض الاشتباك بكل ما أمكنني من اتصالات، إلَّا أن ذلك كان مستحيلاً، لم أنجح سوى في ترتيب تسجيل عزمي بشارة في الفندق الذي كان يقيم فيه.

أحد عشر موظفاً

الطريف أنني عندما ذهبت إلى الفندق وجدت آلتي التصوير وإلى جانبهما 11 من موظفي التلفزيون، قلت: «يا إخواننا، أي محطة خاصة تجري مثل هذا التسجيل يكفيها ثلاثة أشخاص على الأكثر»..

وبدأت أسأل كلاً منهم عن عمله، مصور، مهندس صوت، فني كهرباء عامل لنقل المعدات، وهكذا إلى أن وصلت إلى الاثنين الأخيرين، قال أولهما إنه جاء من الشؤون المالية ليسدد مكافأة الضيف، أما الأخير فالتفت لي قائلاً: «أصل الضيف حياخد مكافأته بالعملة الصعبة»، فهمت يومها لماذا كان يوجد 35 ألف موظف في ماسبيرو عندئذ.

فات موعد البرنامج دون أن يذاع فلم أجد بداً، كي أحفظ ماء وجه التلفزيون، من الاتصال بعزمي بشارة وكذلك بمسؤول الإعلام في حزب الله للاعتذار عن عدم بث الحلقة وذهبت إلى رئيس الاتحاد ثائراً أحاول أن أبين له أن ما حدث يعتبر فضيحة للتلفزيون، وأسأل عن الموعد الجديد المحدد للحلقة، فوعدني بحسم ذلك كله على الفور وإبلاغي بالنتيجة، لكنني ظللت أكثر من شهر في الانتظار.

على الرغم من تدخل الوزير، لم تبث الحلقة الثانية سوى في يوم 27 مايو، ومع أنها غابت أسابيعَ ،إلَّا أنها أذيعت فجأة ودون تنويه مسبق.

من أبرز أحاديث البرنامج، حديث أجريته مع المطرب الشعبي شعبان عبد الرحيم، وكان ذلك بعد أغنيته الشهيرة «باحب عمرو موسى وباكره إسرائيل» التي وصلت أصداؤها إلى قناة السي إن إن، وقد ترددت قليلاً في استضافته، ولكنني عندما علمت أن شرائطه وزعت 6 ملايين نسخة، وهو رقم غير مسبوق في توزيع الشرائط الصوتية، اتصلت به على الفور.

ولا أزال أعتقد أن استضافة شعبان عبد الرحيم في «رئيس التحرير» كانت قراراً صائباً، فقد كان ظهور أغنيته، مهما اختلفت الآراء حولها، حدثاً لا يمكن تجاهله.

كانت إسرائيل هدفاً دائماً لطلقات البرنامج، وفي إحدى المرات كنت قد وصفت شيمون بيريز بالنازي، وصمم الرقيب على حذف العبارة، وكنت أعرف سلفاً أنني لو شكوت لصفوت الشريف في هذه الحالة بالذات فلن أحصل منه على شيء، ذلك لأنه كان قد نبهني من قبل أن مبارك منزعج للغاية لأني وصفت الإسرائيليين بالسفلة.

حصار عرفات

كانت حلقة أول إبريل 2002 هي الحلقة التي أصابتني بأكبر قدر من القلق والتوتر، كان الزعيم الفلسطيني ياسر عرفات محاصرا وقتها في "المقاطعة"، لذلك لم يستطع حضور مؤتمر القمة في بيروت، خشية أن يمنعه الإسرائيليون من العودة، فشارك في نقاشات المؤتمر من خلال دائرة فيديو مغلقة، وكان هذا أمراً مهيناً للغاية، للرؤساء والملوك، لا لعرفات نفسه، وإثر انعقاد القمة قامت إسرائيل بعملية الاجتياح الكبرى للأراضي الفلسطينية.

استفزت هذه الأحداث الجماهير العربية، فوجدت أن الموقف لا يحتمل الكلام، وقررت اختصار البرنامج فيما يشبه رسالة موجهة إلى القادة العرب وإلى الجماهير في آن واحد، وعندما سجلت الرسالة بلغ طولها نحو 14 دقيقة، فأبلغت صفوت الشريف بذلك سلفاً، وطلبت منه أن يذاع البرنامج على هذا النحو، لكنه قال إنه لا يُفضّل ذلك.

لا أدري ما الذي حدث بعد ذلك، ولكنه عندما أذيع البرنامج لم يستغرق أكثر من ثماني دقائق وكانت الحلقة مثل جمر متقد، وخاصة عندما رددت أكثر من مرة عبارة: «رفعت الأقلام وطويت الصحف».

وأظن أن 2003 لم يشهد أحداثاً ذات بال، بخلاف التمهيد لغزو العراق، وهو ما أدى إلى توقف البرنامج نهائياً.

نجلاء خطبتني في اتصال هاتفي قائلة: «أنا حتجوزك النهاردة»

كان التلفزيون المغربي (2M) قد أوفد فريق تصوير لتغطية أخبار مهرجان القاهرة السينمائي الدولي عام 1991 وإجراء مقابلات مع عدد من الفنانين، كانت نجلاء فتحي بينهم، ولما لم تكن مشاركة في المهرجان فقد طلب مني المخرج أن أسعى لترتيب موعد معها.

عندما حدثتها عن المقابلة وافقت ولكنها اعتذرت عن عدم إجرائها في المنزل لأنها كانت تُعدّل في ديكوراته، فاقترحت أن يجرى الحديث في حديقة الفندق الذي يقام به المهرجان، ولكنها خرجت باقتراح آخر: «ولماذا لا يكون ذلك في بيت شقيقتي في الدقي، وهو قريب منكم؟».

في المساء جاءني اتصال تليفوني من اللواء محمد السكري وكيل اتحاد التنس، وكنت قد قابلته منذ سنوات في نادي اليخت، قال: «ألا تعرف أن نجلاء فتحي شقيقة زوجتي؟»، قلت إنها أول مرة أعرف فيها ذلك، فقال إنها أبلغته بمكالمتي، وإنه يدعوني لزيارته مع فريق التصوير في الغد لنتناول فنجان شاي قبل أن أعود للمغرب، وكان يظن أنني مقيم هناك، اعتذرت لارتباطات أخرى، فدعاني للعشاء في الأسبوع التالي.

ذهبت إلى العشاء وأنا في غاية القلق خشية ألَّا أجد موضوعاً مناسباً أُحدّثها فيه عندما نلتقي، لكننا عندما التقينا ذهب كل هذا القلق تماماً.

وعندما أوشكت أن أغادر وعدتها أن أتصل بها حتى «أحدثها عن انطباعي عن الفيلم بعد أن أشاهده»، ولكنني كنت قد قررت أن ألقاها مرة ثانية، وذهبت وأنا على يقين أنها ليست شاطرة فقط، ولكنها ذكية ومرحة وذات شخصية قوية، وأنها ستضفي على حياتي بهجة لم أعرفها منذ وصلت إلى القاهرة..

وهكذا تكرر اللقاء حتى جاء الصيف فذهبت مع ابنتها ياسمين لتقضي أسبوعين في العجمي، وعندما علمت أنها صديقة لزوجة صديقي ممدوح مرسي الذي يقضي شهور الصيف في فيلته هناك، حجزت أنا الآخر غرفة في فندق بالإسكندرية، وواظبنا على اللقاء كل يوم.

كان قد مضى على عودتنا من الإسكندرية نحو أسبوعين عندما كلمتني في التلفون في الصباح، كنت قد اعتدت على هذه المكالمة منها ، سألت: «عملتي لفة في النادي النهاردة؟»، قالت: «كتير، أكتر من اللازم»، فلما سألت عن السبب قالت: «لأني كنت بافكر في موضوع مهم»، خير؟ فاجأتني: «أنا حاتجوزك النهاردة!» أخذت أردد دون أن أدري: «عظيم عظيم»، فباغتتني بسؤال عملي:

«إنت مش معاك بطاقة؟»، قلت إنني لم أستخرج بطاقة شخصية بعد، فطلبت مني أن أذهب إلى منزلها في الخامسة بعد الظهر ومعي جواز السفر، «موافق ولَّا حنرجع في كلامنا؟»، قلت: «موافق أكيد، ولكننا لابد أن نلتقي أولاً لنبحث الترتيبات».

وأنا في الطريق إليها أخذت أقلّب في الأمر، لا في أمر الزواج ولكن في أسلوب عرضه، وزاد إعجابي بها أنها على هذا القدر من الصراحة، إذا كان المألوف هو أن يبادر الرجل بطلب الزواج، فلماذا لا يكون هذا من حق المرأة أيضاً؟ ولكنها عندما فتحت لي الباب، كان سؤالي الأول:

«ولكن افترضي أنني ماطلت عندما عرضتِ عليَّ الزواج، ألم تفكري ماذا سيكون عليه حالك عندئذ؟»، قالت: «فكرت جيداً.. أنت تعلم أننا لسنا في قصة غرام مشتعل، نحن بالغان وما بيننا هو إعجاب شديد، ولن أحزن كثيراً عليك إذا تنصلت لأنك لن تستاهل ثقتي في رجاحة عقلك ولن تكون الزوج المناسب لي».

 «باتفاق خاص ــ جميع الحقوق محفوظة لدار الشروق 2014»

مبارك والإعلام

جاء احتفال عيد الإعلاميين الذي يُقام سنوياً في مدينة الإنتاج الإعلامي بمناسبة ذكرى مولد الإذاعة الحكومية المصرية عام 1934، وكان يحضره الرئيس المصري الأسبق حسني مبارك في العادة.

كانت هذه أول مرة ألقاه فيها منذ عشر سنوات، أخذ مبارك يتجول بيننا والتفت لي يسأل: «هو صفوت الشريف عامل فيك إيه بالظبط؟».. قلت: «مفيش حاجة ياريس، ده مجرد سوء تفاهم».

كنت أعلم غرام مبارك بالمقالب وكانت تساليه المفضلة عندما يوقع بين صفوت الشريف وفاروق حسني معروفة لي ومع ذلك فقد استدرجني لأروي له حكاية الاحتفال بعيد سيناء التي كان قد سمع بها، كما قال، عندما كان يشهد الاحتفال، استمع باهتمام ومودة، ثم قال: «لو فيه مشاكل تاني كلمني»، ولكنني لم أفعل.

 تأليف ــ حمدي قنديل

عرض ومناقشة ــ إسماعيل الأشول

الناشر ــ دار الشروق، القاهرة، 2014

Email