عشت مرتين.. سيرة ذاتية5-10

سامي شرف أوفدني إلى بغداد في مهمة سرية

صورة
ت + ت - الحجم الطبيعي

يقدم هذا الكتاب محطات متتابعة في حياة الإعلامي العربي الكبير حمدي قنديل، وهو لا يورد رصدا لحياته المهنية والعامة فحسب، وإنما يختزل تجارب جيله، ويرصد نضال أبناء أمته، بحيث اننا نجد أنفسنا في نهاية المطاف حيال معادلة تجمع في أطرافها بين الأسى والانكسار والفشل من ناحية، والصمود والحلم والإنجاز من ناحية أخرى.

وقد تابعنا المؤلف في المحطات الأولى من اشتغاله في الصحافة بمصر، وانتقاله للعمل بها في سوريا خلال سنوات الوحدة مع مصر، ثم انتقاله إلى بيروت، ورصدنا ملامح من عمله في «التلفزيون العربي» في صدر الستينات، وانطلقنا لنرصد معه ملامح هزيمة يونيو 1967، وتنحي عبد الناصر، ثم مواجهته لتحديات المرحلة، وصولا إلى حرب أكتوبر، لنتوقف مع ذكرياته عن غزو العراق للكويت.

نحن هنا على موعد عن جانبين مهمين يقدمهما المؤلف، أولهما ذكرياته عن حرب اليمن، وثانيهما التفاصيل الدقيقة للأوضاع في بغداد بعد انقلاب عام 1963، الذي أطاح بعبد الكريم قاسم.

في صباح يوم 26 سبتمبر 1962، أذيع نبأ وقوع انقلاب في اليمن «السعيد» بقيادة الزعيم (العقيد) عبدالله السلال ومقتل الإمام محمد البدر، خلال قصف قصر البشائر (قصر الحكم) في صنعاء وقيام نظام جمهوري في البلاد.

كانت إذاعة «صوت العرب» قد هيأت الأذهان لقيام الثورة، ودعت قبل أشهر الشعب اليمني للانتفاض ضد الإمام أحمد حميد الدين.

بدأت معارك الإذاعة بين البلدين (مصر واليمن) عندما بث راديو صنعاء في بداية سبتمبر 1961 هجوما شديدا على عبد الناصر في قالب قصيدة شعرية من 64 بيتا من تأليف الإمام أحمد حميد الدين، ولم تمضِ أسابيع حتى كال عبد الناصر للإمام الصاع صاعين في خطبة الاحتفال بعيد النصر.

كان الإمام أحمد يحتفظ بمفتاح الإذاعة في خزينته الخاصة، وكان المهندس الاختصاصي يأخذ منه مفتاحها كل يوم، ليفتتح الإرسال ثم يعيد المفتاح إليه بعد ذلك، وكانت مواعيد الإرسال تعتمد على مزاج الإمام وعلى ارتباطاته ومواعيده.

كان عبدالله جزيلان، مدير الكلية الحربية ومدرسة الأسلحة هو الذي خطط للهجوم على قصر البشائر، وزود بعض الفصائل التي شاركت في الثورة في صنعاء بالسلاح.

في اليمن الثائر

عندما تحركت مع الوحدات المقاتلة خارج صنعاء كان القتال لا يزال محتدما بين الملكيين والجمهوريين، وكانت القاهرة قد رصدت في ذلك الحين وجود عناصر إيرانية (أثناء حكم الشاه عندئذ) وبعض المرتزقة الفرنسيين الذين حاربوا في الجزائر، والإنجليز الذين حاربوا في عدن وروديسياوكان يقال وقتها إن هناك ضباطا إسرائيليين، همهم الأول هو مراقبة القوات المصرية عن كثب ليتعرفوا على مدى كفاءتها .

في نهاية أكتوبر، كانت قوة الجيش المصري في اليمن بكاملها تكاد لا تزيد على ألفي جندي، وكان عبد الناصر معارضا في البداية للتوسع في التدخل العسكري.

وكانت هناك أفكار بالاعتماد على متطوعين، ليس من مصر فقط وإنما من دول عربية أخرى، لكن المشير عامر كان يضغط، كما فهمت، لدخول مصر بثقلها.

وعندما تحسن الموقف العسكري في نهاية إبريل 1963، نصح اللواء أنور القاضي، قائد القوات المصرية في اليمن بعودة الجانب الأكبر من قواته إلى مصر.

وبدأت القوات تعود إلى مصر بالفعل وتقام الاحتفالات لاستقبالها، إلَّا أن الموقف سرعان ما تبدل، فتورطت القوات المصرية في معارك اليمن مرة أخرى حتى إن المراقبين الأجانب سموها «فيتنام مصر»، ويقال إن عدد القوات وصل إلى ذروته في منتصف عام 1965 عندما بلغ 70 ألفا، بقى جانب منهم هناك حتى ما بعد انتهاء نكسة 1967. أما أنا فكنت قد عدت إلى القاهرة مع بداية 1963.

انقلاب في بغداد

في 8 فبراير 1963 دق جرس الهاتف في بيتي، وكان المتحدث وزير الإعلام المصري آنذاك الدكتور عبد القادر حاتم، قال: «تعلم أن انقلابا تم في العراق، اليوم تذهب إلى سامي شرف، وتنفذ ما يقوله لك».

ذهبت إلى سامي شرف، فقال إن وفدا إعلاميا مصريا سيسافر في اليوم التالي إلى بغداد، وإنني سأكون ضمن هذا الوفد مع مصور أختاره، وأضاف: «مهمتك الأولى هناك هي إقناع المسؤولين بإذاعة إنتاج التلفزيون المصري على شاشة بغداد، طبعا لن تقول ذلك صراحة، اعمل ما تراه مناسبا، وإذا احتجت إلى مساعدة اتصل بفخري عثمان السكرتير الثالث بالسفارة».

وأردف أن الدكتور حاتم سيتابع تنفيذ المهمة، وأن الطريقة الوحيدة للاتصال به هي إملاء الرسائل في مكتب الملحق العسكري حيث ترسل بالشفرة من هناك. في اليوم التالي تجمَّع في حديقة مكتب معلومات الرئاسة في منشية البكري وفد الصحافيين المصريين، وأعطاني سامي شرف مظروفا صغيرا به رسالة توصية موجهـة منه إلى فخري عثمان السكرتير الثالث في السفارة.

مهمة بغدادية

عندما وصلنا بغداد يوم 10 فبراير كان إطلاق النار لا يزال مسموعا بوضوح في بعض شوارع العاصمة العراقية، التي كانت تعج بالدبابات والمصفحات المجهزة بمدافع الماكينة.

وبدأت القيادات الجديدة البعثية والقومية تتولى إدارة مؤسسات الدولة، كانت الإذاعة والتلفزيون من نصيب عبد الستار الدوري، وهو قيادي بارز في فرع حزب البعث في بغداد، وعندما تولى مسؤوليته الجديدة لم يكن قد دخل التلفزيون من قبل، عندما ذهبت إليه استرحت له، ويبدو أنه استراح لي كذلك، وتوطدت العلاقة بيننا بسرعة، حتى انني خاطرت وصارحته في اللقاء الثالث بيننا بمهمتي، فقال بحماس ظاهر: «عز المنى.. أنا في الانتظار»..

هكذا ذهبت إلى مكتب الملحق العسكري لأبلغ الدكتور «حاتم» بالنبأ وأطلب منه إرسال ما يريد من برامج.

في اليوم التالي، اتصل بي مكتب الملحق العسكري لإبلاغي أن رد الدكتور حاتم وصل، ولما اطلعت عليه كدت أقفز من السعادة لأن المواد ستصل بعد 24 ساعة من القاهرة في طائرة مصر للطيران. أبلغت الدوري الذي لم يكن أقل ابتهاجا، وأصدر أوامره بإعداد قاعة عرض خاصة حتى أعود من المطار لنشاهد معا ما أرسلته القاهرة، وعندما عدت بالصندوق الذي يحتوي على الشرائط أطفئت أنوار القاعة، وجلست إلى جانب الدوري وحدنا. كانت المفاجأة عندما بدأ العرض، كان أول ما شاهدناه أغنية «ناصر كلنا بنحبك»..

ياللغباء، دعاية سافرة على هذا النحو، هكذا قلت لنفسي، ولكن المصائب تتالت بعد أن شاهدنا ثلاثة شرائط أخرى كانت كلها أفلاما تسجيلية عن عبد الناصر وثورته، اعتذرت للدوري، قلت إن خطأ ما لا بد أنه حدث، وإنني سأبلغ القاهرة على الفور.

هكذا عدت ثانية إلى مكتب الملحق العسكري حيث كتبت رسالة سريعة إلى الدكتور حاتم بأسلوب تلغرافي: «وصل الطرد، الشرائط التي شاهدتها مع مدير الإذاعة والتلفزيون كلها تتحدث عن سيادة الرئيس وعن الثورة بشكل مباشر وربما مستفز للمسؤولين البعثيين هنا، أرجو تفضلكم بإرسال مواد أخرى تحمل الرسالة الإعلامية التي نريد إبلاغها تدريجيا.. احترامي».. لم يأخذ الدكتور حاتم وقتا طويلا في الرد على رسالتي، إذ جاءت لي منه رسالة في المساء: «يحضر حمدي قنديل إلى القاهرة، ويحل محله ممدوح زاهر (كبير مندوبي الأخبار)، ولا ينتظر حمدي وصول ممدوح».

أيام في الحجر الصحي

في مطار القاهرة، انتظرتني مفاجأة أخرى، أنني لم أحقن بلقاح ما كان عليَّ أن أتناوله قبل سفري من بغداد، أو هكذا أبلغني الرجل الذي قادني إلى الحجر الصحي، اتصلت بمكتب الدكتور حاتم لأحيطهم بالمشكلة لكن أحدا لم يتحرك وعندما ذهبت إلى الدكتور حاتم في مكتبه انتظرت ساعات وساعات يوما بعد آخر دون أن يأذن بالمقابلة. بعد نحو أسبوع استقبلني الوزير، وما إن دخلت مكتبه حتى قال: «يعني تفضحنا كده عند الرئاسة».

سألت: «فضيحة إيه يا فندم.. رئاسة إيه يا فندم؟». قال: «ألا تعرف أن البرقيات من مكتب أي ملحق عسكري تمر بالرئاسة أولا، وهي التي توزعها بعد ذلك على أصحابها؟».. قلت إنني لم أعرف ذلك من قبل، وتعليمات سامي شرف تقضي بأن أوجه رسائلي من مكتب الملحق.. «طيب اتفضل دلوقتي». عاد الدكتور حاتم بعد أيام فأبلغ إدارة الأخبار بالسماح لي بقراءة النشرات، بعد أن عوقبت على فضح الإعلام لدى الرئاسة.

 

حوار مع عراف

بعد أن سجلت رسائلي الأولى مع وحدات الصاعقة المصرية في اليمن في أوائل الستينات، بدأت أجري أيضا أحاديثَ مع شخصيات يمنية، لعل أطرفها كان الحديث مع محمد حلمي، العراف الخاص بالإمام الذي كان يلقب بالفلكي، وكان الإمام لا يقدم على قرار أو يتحرك إلى مكان قبل أن يدله ماذا تقول النجوم في ذلك.

يومها قال لي إن حسابات الفلك كانت قد أكدت له أن ثورة ستقوم في اليمن، ولكنه خشي أن يبلغ الإمام أحمد حتى لا يأمر بحبسه أو إيذائه، وقد صدر حكم بإعدام حلمي بعد الثورة بتهمة الفساد، وسجن في تعز انتظارا لتنفيذ الحكم، وأفرج عنه قبل تنفيذه.

 

المشير السلال خصص لي سيارة الإمام البدر

في أول أكتوبر 1962 سافرنا بطائرة إلي اليمن، كنا مع عدد من كبار ضباط الجيش الذين ذهبوا في البداية لتقدير الموقف، ورسم الخطط اللازمة، قبل أن تبدأ قوات الصاعقة وغيرها سفرها في اليوم التالي إلى كل من صنعاء وتعز، كانت طائرتنا متجهة إلى صنعاء، وكان مهبط الطائرات في المطار مجرد طريق ممهد بالكاد، ولا أعتقد أنه كان مرصوفا بالأسفلت، وكان يجاوره كشك صغير لا بد أنه برج المراقبة.

كان تدبير أمور معيشتنا وترتيبات عملنا أمرا صعبا، وخاصة ما يتعلق بوسائل النقل، وقد نصحني محمد عبد الواحد، المسؤول الوحيد في السفارة في ذلك الوقت، أن أتوجه إلى «الزعيم» السلال شخصيا، ولم تكن هناك صعوبة في تحديد لقاء معه في اليوم التالي.

قال السلال إنه للأسف لا توجد سيارة يمكن الاستغناء عنها لدى الحكومة، وإن أسرع حل أمامه أن يخصص لي سيارة الإمام البدر.

عندما لاحظ ترددي، قال: «هذا هو الحل الوحيد لديَّ الآن»، وهكذا لم يكن أمامي سوى القبول شاكرا، وقد نبهني يومها إلى أنه لا يمكننا الحصول على بنزين للسيارة إلا بتوقيعه شخصيا، لكن تلك لم تكن أسوأ مفاجأة.

المفاجأة الأسوأ كانت عندما تسلمت السيارة، وكانت سيارة أميركية فارهة من أحدث طراز في شركة «شيفروليه» على ما أذكر، وكانت لافتة للنظر إلى حد بعيد، لذلك كنت أحاول تفادي ركوبها كلما استطعت.

عندما حضر أنور السادات إلى اليمن لتوقيع اتفاقية التعاون العسكري بين البلدين، سلمت السيارة لمكتبه، إذ لا يليق أن يتحرك مسؤول مصري في مكانته بسيارة متواضعة في حين أركب أنا شيفروليه، واستلمتها عند سفره.

حضرت إحدى جلسات السادات خلال هذه الزيارة، وكان يجلس مع بعض شيوخ القبائل اليمنية، ويبدو أن الحديث كان يدور قبل دخولي عن تدخل الإنجليز في حرب اليمن وعن ذكريات السادات عندما كان يشارك في المقاومة ضد القوات البريطانية في القناة أثناء احتلالها لمصر، أذكر أنه قال: «أنا بإيدي خلصت على أذنابهم في مصر، وكمان دوختهم في معسكراتهم في القناة.. كل يوم آجي لهم من حتة.. دوخيني يا لمونة كده» (ربما كان يقصد اتهامه بالاشتراك في مقتل الوزير أمين باشا عثمان، رئيس جمعية الصداقة المصرية البريطانية في عام 1946)، وكان يستخدم يده كما لو كان يعصر بها شيئا.

التفت إلى الشيوخ، فلمحت في عيونهم نظرة دهشة، ربما لأنهم لم يستوعبوا تماما ذلك التعبير الغريب على آذانهم، ويبدو أن السادات انتبه إلى ذلك فاعتدل في كرسيه، وقال: «يعني إنجليز دخلوا الحرب، الجن الأزرق دخل الحرب، أنا باقول لكم، أنا مش سايب كرسيّه ده إلا لو طلعوا الإنجليز من عدن، يعني ما بنخافشي من الإنجليز، ولا إنتو حتخافوا من الإنجليز ولا من الجن الأزرق»، عندئذ هلل واحد من الشيوخ، ورفع رشاشه بيده، فأخذ السادات يكرر: «يعني اطمنوا.. اطمنوا تمام».

 

«باتفاق خاص ــ جميع الحقوق محفوظة لدار الشروق 2014»

 

تأليف ــ حمدي قنديل

عرض ومناقشة ــ إسماعيل الأشول

الناشر ــ دار الشروق، القاهرة، 2014

 

قصيدة هجاء لناصر تفجر حرباً إعلامية بين القاهرة وصنعاء

الإمام كان يحتفظ بمفتاح الإذاعة في خزانته والبث وفق مزاجه

المراقبون الدوليون اعتبروا اليمن «فيتنام مصر»

عبد القادر حاتم رفض مقابلتي أسبوعاً لأنني «فضحته عند الرئاسة»

Email