عشت مرتين.. سيرة ذاتية3-10

الأسد وصل في عناده مع الشعب السوري إلى اللاعودة

صورة
ت + ت - الحجم الطبيعي

بصراحة ووضوح وجرأة، يتناول الإعلامي الكبير حمدي قنديل في هذا الكتاب محطات متتابعة في مسيرته، فنجد أنفسنا حيال معادلة تجمع في أطرافها بين الأسى والانكسار والفشل من ناحية، والصمود والحلم والإنجاز من ناحية أخرى، فنوقن أننا أمام مسيرة جيل بكامله، بل أمام مرحلة من نضال وطني، وفي النهاية نجد أنفسنا أمام سلسلة من المفاجآت والمفارقات الجديرة بالتوقف عندها طويلاً.

ينطلق بنا المؤلف هنا عبر مراحل شتى من دراسته، تتوازى في الوقت نفسه مع المحطات الأولى من عمله الإعلامي، وأيضاً مع متابعته عن كثب لمسيرة الحركة الوطنية المصرية وانطلاقة القومية العربية.

ونحن هنا على موعد معه للانطلاق إلى دمشق، التي سيشق الطريق إليها مراراً وتكراراً، للعمل الصحافي البداية، عندما كانت سوريا هي الإقليم الشمالي في دولة الوحدة مع مصر، ومن ثم الانتقال إلى بيروت، التي تمتعت في تلك الفترة بقدرة مذهلة على استقطاب الصحافيين والإعلاميين والمثقفين العرب، ليقدم لنا في النهاية موقفه من الثورة السورية والعناصر التي يستند إليها هذا الموقف.

ظهرت نتيجة امتحانات ثانية طب، ونقلت إلى السنة الثالثة، وإن كان عليَّ أن أدخل امتحان الإعادة بعد شهور في التشريح والفسيولوجي، وتوجهت أولاً إلى دار «أخبار اليوم»، لعلِّي أستطيع مقابلة الأستاذ مصطفى أمين.

لم تستغرق المقابلة سوى بضع دقائق، فوجئت به بعدها يطلب سكرتيره سليم زبال في التليفون، ويبلغه أنني سأعمل محرراً في مجلة «آخر ساعة»، وأن مرتبي سيكون 15 جنيهاً شهرياً.

طلب مني زميلي في مجلة «التحرير» أسعد حسني في فبراير 1959 أن نلتقي مع نصوح بابيل، نقيب الصحافيين في سوريا وصاحب جريدة «الأيام»، .

لم تستغرق المقابلة سوى وقت قصير، كل ما فهمته في الدقائق الأولى أنه متحمس للوحدة بين مصر وسوريا، وبعدها دخل مباشرة في الموضوع، جريدته جريدة عريقة وشهيرة في سوريا، إلَّا أنه غير راضٍ عن إخراجها الصحافي؛ ولذلك فهو يعرض عليَّ أن أكون مسؤولاً عن ذلك.

أجبت بالإيجاب، حتى قبل أن أعرف الراتب الذي سيعرضه.

مهمة في اسطنبول

في سنة 1958 كنت قد سافرت إلى سوريا، وكانت الوحدة وقتها قد أعلنت، وكان معي زميلي السابق في كلية الطب صبري أيوب نصيف.

في اليوم التالي للزيارة، تلقيت مكالمة تليفونية في الفندق، قال المتحدث إنه المقدم طلعت صدقي من المكتب الثاني، أي مخابرات الإقليم الشمالي، وإنه يريد أن يقابلني.

قال إنه يود أن يحدثني في موضوع مهم: «يا أخ حمدي لماذا تعملون بمفردكم؟» .

بدأت مقاصده تتضح، فنفيت أي صلة لنا بالمخابرات المصرية، فقال لي: «سواء كنتم تعملون للمخابرات المصرية أم لا، فسوف أعرض عليك الآن عرضاً أرجو ألا تتحرج من رفضه على الفور، لو أردت، أما إذا كنت تود أن تقدم لسوريا وللعروبة خدمة فسوف أكون شاكراً».

صمت برهة، واستطرد يقول: «تعرف مشكلة لواء الإسكندرونة»، قلت: «أعرفها.. هذه أرض سورية استولى عليها الأتراك»، قال: «ونحن نجاهد من أجل استردادها، ويعمل فيها رجالنا، ولكن مجموعة منهم ألقي القبض عليها ، وهم الآن يحاكمون، ولدينا رسالة مهمة يمكن أن تساعد على تبرئتهم، وهذه الرسالة نريد تسليمها إلى القنصل (السوري) في إسطنبول».

وافقت دون ترددرغم أن انكشاف المهمة كان يمكن ان يؤدي إلى إعدامي، ولكنني قلت إن لي شرطاً واحداً هو أن أبلغ السفير في أنقرة.

قدَّرت أنه ما دامت الصحف العربية ممنوعة في تركيا، فسوف تلفت المجلة نظر ضابط الجمركو لن يلتفت إلى المظروف، هذا ما حدث تماماً ، صادر الضابط المجلة ولم يفتش الحقيبة.

عندما وصلنا إسطنبول أخذت أعد الساعات حتى يأتي الصباح وأسلم الرسالة.

في «الجماهير»

منذ اليوم الأول عاملني نصوح بابيل كأب لا كصاحب عمل، كان حريصاً على راحتي الشخصية أولاً، على سكني وما إلى ذلك.

حين غادرت الجريدة بعد انتهاء فترة عملي المؤقتة بها، شاءت الصدف أن ينطلق مشروع لصحيفة يومية جديدة في دمشق هي جريدة «الجماهير» التي التحقت بالعمل بها بدعوة من القائمين عليها، وكان وراءها قطبان شهيران في حزب البعث، د. جمال الدين الأتاسي ود. عبد الكريم زهور.

انتظم العمل، ولم يكن هناك ما ينغصني سوى ذلك التوتر المكتوم بين مؤسسي الجريدة وبين عبد الحميد السراج، الذي أصبح وزيراً لداخلية الوحدة ورئيساً للمكتب التنفيذي للإقليم الشمالي.

أعلن وقتها عن إجراء الاتحاد القومي لأول انتخابات له في دولة الوحدة، التي كنت واحداً من الملايين المتحمسة لها، فقررت أن أرشح نفسي في دمشق .

قدمت أوراقي إلى وزارة الداخلية، ولكن لم تمضِ أيام حتى اتصل بي ضابط مصري شاب يعمل في مكتب الاتصال المصري في الداخلية السورية، وهو المكتب المعني بشؤون المواطنين المصريين المقيمين في الإقليم الشمالي، وطلب مني الذهاب إليه، وفي مكتبه فاجأني عندما طلب مني سحب ترشيحي، عندما سألت عن السبب، قال: «أصارحك، أنت المصري الوحيد الذي رشح نفسه في سوريا، وإذا سقطت في الانتخابات فسوف يستغل ذلك للنيل من الوحدة».

وفي اليوم التالي وصلني إخطار رسمي بأن ترشيحي اعتبر لاغياً .

مواقف واضحة

لم تتح لي فرصة اللقاء بالأسد الأب من قبل، ولكني التقيت الرئيس السوري بشار الأسد مرات عدة عام 2006 و2008.

عندما جلسنا معاً في أول لقاء عام 2006 قلت له: «يا دكتور بشار، أنتم لم تستفيدوا من درس الانفصال بين مصر وسوريا، وأنت تعرف أن واحداً من أسبابه كان سلوك بعض ضباط القيادة المصريين المقيمين في دمشق، أنتم الآن تكررون الخطأ نفسه، لكنه بدلاً من أن تكون سوريا هي المفعول به أصبحت هي الفاعل».

وعندما أوشكت المقابلة أن تنتهي قلت: «يا سيادة الرئيس، إن كان لي أن أطلب منك شيئاً واحداً قبل أن أغادر فهو ضرورة أن تقود بنفسك انفراجة سياسية داخلية، وأن تقترب من معارضيك، وأن تفرج عن المعتقلين السياسيين»، فقال: «وعد سوف أفي به، ولنا في ذلك لقاء آخر».

وجاء اللقاء الثاني بعدها بأسابيع، سافرت إلى لبنان ضمن وفد شعبي مصري بعد نشوب حرب يوليو 2006 مباشرة، أذكر أننا عندما تجمعنا في تظاهرة في مطار القاهرة اقترب مني أحد لواءات الشرطة وهمس في أذني: «قل لحسن نصر الله إن مصر كلها معه».

بعد ذلك بأسابيع أخرى، كان لقاؤنا الثالث، عندما لبى الرئيس بشار طلبي بإجراء حديث حول حرب يوليو لتلفزيون عربي، وتطرقت إلى الموضوعين الحساسين لديه: لماذا لم يطلق الجيش السوري طلقة واحدة في الجولان، ولماذا لا يفرج عن المعتقلين السياسيين؟ ولم تكن إجاباته شافية. عندما تحدث عن الجولان مثلاً قال إن المقاومة هناك «قرار شعبي، ومن غير المنطقي أن تقول دولة إنها ستذهب إلى المقاومة؛ لأن الشعب يتحرك للمقاومة بمعزل عن دولته عندما يقرر هذا الشيء»، أي أن الشعب هو المسؤول!

وقلت له يومها أيضاً إن: «أول حق للناس في وطنهم أن يتكلموا بحرية»، وعدت لأذكِّر أن جماعة مثل جماعة منتدى الأتاسي أو مثل الأعضاء في الاتحاد الاشتراكي وآخرين غيرهم قد يكونون أكثر ولاءً لبلدهم وهم في المعتقل من بعض الذين خارج السجون»، ولكنه رد بـ«الكليشيه» التقليدي: «لا نريد الحريات التي تستغل من الخارج.. نريد حريات ضمن إطار الوطن»! عندما اشتعلت الثورة في سوريا بعد مصر تعاطفت مع الثوار مثلما تعاطف معظم المصريين الذين هبوا ضد الاستبداد والفساد في بلدهم، ولكنني لم أعلن ذلك صراحة في البداية، وتفاقمت الأمور على نحو ما نعرف، وامتدت الثورة إلى مناطق أوسع.

وقتها هاجم أعوان بشار رسام الكاريكاتير المعارض الشهير علي فرزات في ساحة الأمويين وهو عائد إلى بيته فجراً وأوسعوه ضرباً على يديه وأصابعه فنقل إلى المستشفى مصاباً بارتجاج في المخ «علشان تتلم ماترسمشي ضد أسيادك»، وكان إبراهيم قاشوش الذي غنى أغنية الثورة الشهيرة «ياللا إرحل يا بشار» قد ذبح من حنجرته قبلها بأسابيع على أيدي الشبيحة أنفسهم.

عندها وصل بي الاستفزاز إلى مداه فقلت في برنامجي الذي كنت أقدمه في قناة «التحرير» حينئذ إن أمثالي «اللي كانوا بيشوفوا أمل في بشار الأسد في وقت ما، لا يمكن بعد كل المجازر اللي حصلت يقفوا النهاردة جنب نظامه، مهما كنا متأكدين إن قوى أجنبية بتستهدف هذا النظام.. اللي عارف إن فيه قوة أجنبية متقصداه ما يديلهاش فرصة، ما يفتحلهاش الباب».

وأيقنت أن بشار وصل في عناده إلى نقطة اللا عودة، فحسمت أمري، وواصلت الوقوف إلى جانب المعارضة، ولكن الأمور تطورت على النحو الذي تطورت إليه فيما بعد.

 

سعد زغلول فؤاد فدائي بدرجة صحافي أفلت من الإعدام مرتين

وقعت أزمة داخل الجريدة التي كنت أعمل بها في سوريا، بسبب تحقيق صحافي قام بنشره صديقي الصحافي المصري الشهير سعد زغلول فؤاد.

سعد لم يكن صحافياً فقط، لكنه كان أيضاً في طليعة الفدائيين في حقبة النضال من أجل الاستقلال في الأربعينيات والخمسينيات، وكانت له صولات وجولات على امتداد الوطن العربي كله، حكم عليه خلالها بالإعدام مرتين .

كلف سعد مع مصور الجريدة «سركيس بالجيان» بإعداد تحقيق صحافي حول انتخابات الاتحاد القومي، وبالفعل قدم التحقيق في اليوم التالي، إلَّا أنه أسهب كثيراً في التفاصيل حتى إن التحقيق تعدى الصفحة المخصصة له فاختصرت منه نحو فقرتين عند النشر.

وما إن أبلغت سعد بأنني قمت بالاختصار حتى ثار، كان يعتقد أن إميل هو الذي حذف ما حذف لأنه بعثي، ولأن التحقيق الصحافي شهد بنزاهة التصويت والفرز الذي أشرف عليه السراج عدو البعث، لم يصدق سعد أنني الذي قمت باختصار التحقيق، وفجأة قفز إلى الجانب الآخر من الغرفة ليبدأ بينه وبين إميل تلاسن حاد، انتهى بأن التقط سعد مطفأة السجائر من على مكتب إميل وقذفه بها في وجهه.

بعد هذه الواقعة بأيام وصلني مقال الدكتور جمال الأتاسي ، فقد كان معتاداً أن يرسل مقالاته بانتظام، كانت مقدمة المقال معتادة تعكس الأزمة المألوفة مع السراج ومع السلطة في القاهرة التي كتب عنها الأتاسي مرات من قبل، ولكن اللهجة هذه المرة كانت حادة، بل إنها تصاعدت حتى قال الأتاسي في نهاية المقال: «عندما توصلت مع أخي عبد الكريم زهور إلى تحليل المرحلة، والمخاطر الخارجية والداخلية، وسيادة عقلية كمال الدين حسين وعبد القادر حاتم وغيرهما في إدارة المجتمع على النقيض من عقلية الرئيس عبد الناصر، وجدنا أن الحل الوحيد المتاح لنا هو الاعتصام بالصمت كتعبير عن الاحتجاج»، وهكذا صمتت «الجماهير» وتوقفت عن الصدور في عام 1959.

قال سعد: «لا تحمل همّاً.. سنسافر إلى بيروت».. كانت بيروت بالنسبة لي حلماً لم أستطع تحقيقه طوال إقامتي في دمشق، وكانت وقتها مركز السياحة والتجارة في المنطقة، وقبل هذا وذاك منبر الصحافة العربية الحرة.

حزمنا حقيبتينا، ووضعناهما في سيارته «الفورد» العتيقة المكشوفة، وانطلقت بنا السيارة صوب الحدود اللبنانية ، وعندما عبرنا الحدود إذا بالجو يمتلئ فجأة بأزيز الرصاص.

قال سعد: «لا تخشَ شيئاً، هذه الطلقات هي تحية لقدومنا، فنحن الآن في أرض لبنانية يقيم بها الدروز التابعون للشيخ شبلي أغا العريان، وهو ورجاله أصدقائي منذ كنت أهرِّب لهم السلاح في العام الماضي عندما كانوا يقاومون الرئيس اللبناني كميل شمعون »، وهكذا واصلنا السير إلى قلب بيروت حيث أقمنا في فندق متواضع صغير».

كان الفندق في «ساحة البرج»، لم أعد أذكر اسمه، وكان أفضل ما يميزه أنه كان يقبل الزبائن دون حاجة إلى جواز سفر، أما أسوأ ما فيه فكان الغرفة التي أعطوها لنا، فقد كان في الغرفة سرير ثالث خالٍ ولكنه شغل في اليوم التالي بزبون جديد كان شاباً أميركياً في عمرنا.

في المساء أخذني سعد إلى شرفة الغرفة المطلة على الساحة وهو بادي الغضب.. قال: «الواد ده CIA، لازم نمشي»..

 

«باتفاق خاص جميع الحقوق محفوظه لدار الشروق 2014»

 

الشيك العائد

عدت إلى دمشق موفداً من تلفزيون القاهرة لمدة أسبوع، أقرأ فيه نشرات الأخبار في تلفزيون دمشق، وكان زملاؤنا السوريون يأتون هم الآخرون إلى القاهرة بين وقت وآخر تنفيذاً لبرنامج التبادل بين المحطتين. أصبح لي هناك أصدقاء سوريون لا حصر لهم، وأذكر منهم طلال الزين، وهو واحد من أكبر ملاك ناقلات الغاز في العالم، الذي التقيته في اليونان عام 2003 عندما أقامت السفارة المصرية حفل استقبال لسوزان مبارك زوجة الرئيس الأسبق حسني مبارك أثناء زيارتها لأثينا، وكان الحفل في واقع الأمر لجمع التبرعات للمشروعات الخيرية التي ترعاها حرم الرئيس الأسبق ولمكتبة الإسكندرية أيضاً، وكان الزين مدعواً، فتبرع بشيك بمليون دولار، ولكنه جاءني بعدها إلى الفندق، مندهشاً من أن الشيك أعيد له، حتى يعيد كتابته باسم سوزان مبارك!

ترشحت للانتخابات في دمشق فطالبني ضابط مصري بالإنسحاب

عندما اشتعلت الثورة في سوريا تعاطفت معها شأن معظم المصريين

عينني مصطفى أمين في «آخر ساعة» بعد حديث دام دقائق معدودة

نقلت رسالة إلى اسطنبول كان انكشافها يعرضني للحكم بالإعدام

 

تأليف: حمدي قنديل

عرض ومناقشة: إسماعيل الأشول

الناشر: دار الشروق، القاهرة،

Email