«الدولاركراسي»: كيف يسيطر المال على السياسة

أسرار تنبؤ أيزنهاور بسيطرة الصناعيين والعسكر

  • الصورة :
  • الصورة :
  • الصورة :
  • الصورة :
صورة
ت + ت - الحجم الطبيعي

يُمثّل هذا الكتاب- كما يلاحظ النقاد- أحدث حلقة بحثية وفكرية أصدرها المؤلفان في سلسلة الدراسات التي ظلا عاكفين على وضعها وإصدارها حول موضوع يبدو أثيراً لدى كل منهما، وهو قضية التأثير على المسيرة والممارسة الديمقراطية من جانب قوى عاتية ونافذة على مستوى مجتمعهما الأميركي، ويُجسّدها ذلك التحالف الذي وقف عنده هذا الكتاب ملياً، حيث يجمع بين المؤسسة المالية الواسعة، بل الفاحشة الثراء، وبين المؤسسة الإعلامية التي تستسلم أحياناً لإغراءات المال وضغوط النخبة من بارونات الثراء، وخاصة في مجالات الإعلانات، التي تُمثّل أساساً وقود المحرك بالنسبة لمسير المنظومة الإعلامية بالولايات المتحدة.

 وقد أدى ذلك، كما يقول مؤلفا هذا الكتاب، إلى تأثيرات سلبية على مصداقية ونزاهة العملية الديمقراطية وخاصة ما يتصل بممارسة الانتخابات التي يدلي فيها المواطن الأميركي العادي، البسيط بصوته لصالح مرشح أو مرشحة يتصور بداهة أنه يمكن أن يمثل مصالحه ويحميها، سواء على مستوى المجالس المحلية والجهوية في الولايات وما في حكمها أو على المستوى القومي في مجلسي النواب والشيوخ في كونغرس الولايات المتحدة.

هذا التشويه الذي ألحقه المال بالممارسة الديمقراطية، التي كانت تزهو بها أميركا، أدى إلى الظاهرة التي يطلق عليها الكتاب وصف «الدولار كراسي» بمعنى حكم الدولار أو هي حكم حائزي ثروات الدولار، بالمليارات الطائلة بطبيعة الحال.

 

على الرغم من أن هناك من يعود بأصول الكلمة إلى جذور ألمانية، إلا إن هذه الكلمة أصبحت رمزاً بالغ الدلالة على أميركا: حياتها وثقافتها وإمكاناتها وتطوراتها ومن ثم مكانتها في طول العالم وعرضه على السواء. نتحدث عن بطل هذه السطور، وهو الــــــدولار.

ومع ملابسات ومتغيرات السياسة سواء في أميركا أو في العالم، ظل القوم ينسبون إلى كلمة دولار أوصافاً متباينة ونعوتاً شتى ترتبط في مجموعها ودلالاتها بنوعية الظروف التي يعيشها العالم في هذه الحقبة أو تلك من زماننا الراهن.

ولعل أشهر هذه النعوت ما تلخصه العبارة الشهيرة التي تقول: «البترو- دولار»، وهو ما يرمز بداهة إلى أن الدولار لايزال هو العملة المفضلة لتسعير خام البترول بكل أهميته القصوى لدورة الاقتصاد العالمي.

لا عجب إذن أن ينتشر استخدام الدولار أيضاً بوصفه عملة أقطار أخرى بخلاف الولايات المتحدة الأميركية، وفي مقدمتها كل من كندا وأستراليا ناهيك بعدد آخر من الدول الباسيفيكية الصغرى- الجزرية بالذات المنبثة في تخوم المحيط الهادئ.

عن ورقة الدولار

كم تفنّن محللو الشأن الأميركي بالذات في تحليل الرسومات والعلامات التي تميز عملة الدولار الورقية سواء تلك التي تحمل على سطحها صورة رئيسهم الأول جورج واشنطن (1732- 1799) أو رئيسهم السادس عشر أبراهام لنكولن (1809- 1865).

فضلاً عن كتابة عبارة مفادها كما هو معروف «إننا نثق بالله أو فلنقل توكلنا على الله» فما بالك أيضاً بمن يتوقف ملياً عند المثلث الهرمي الذي ينسبه البعض إلى جماعة تعرف باسم الماسونية، إلى آخر التفاسير والتصورات التي تضفي على الدولار غلالات مستقاة من الرموز والأقاويل والأساطير.

أما الكتاب الذي نعايش مقولاته في هذه السطور فهو يتخذ مساراً جديداً وطريفاً ولافتاً للاهتمام، وهو ما يتجلى من مجرد مطالعة وتأمل الكلمة الوحيدة التي يمثلها عنوان هذا الكتاب، الكلمة العنوان في أصلها الإنجليزي هي «دولار وكراسي» بمعنى حكم أو سطوة أو هيمنة الدولار.

وتحت هذه الكلمة ذات الإيقاع الغريب، يطالع القارئ عبارات العنوان الفرعي- الشارح المفسر للعنوان، والعبارات بدورها تقول بما يلي: «كيف يؤدي مجمع المال والإعلام والانتخابات إلى تدمير أميركا».

والكتاب من تأليف اثنين من المثقفين الأميركيين هما الكاتب الصحافي جون نيكولز والبروفيسور روبرت ماكشسني أستاذ الدراسات الإعلامية.

العنوان الفرعي لهذا الكتاب يكاد يأتي مفعماً بالكثير من الإحالات والدلالات التي لابد وأن يستعيد معها القارئ الفاهم لمحات من تاريخ أميركا القريب وخاصة مع انتهاء عقد الخمسينات من القرن العشرين.

كان ذلك في عام 1960، وهي السنة التي شهدت كما هو معروف ختام حقبة السنوات الثماني من عهد الرئيس الأميركي الرابع والثلاثين وهو الجنرال دوايت آيزنهاور (1890- 1969)، يومها كان الجنرال يُودّع كرسي الرئاسة في البيت الأبيض، في أعقاب تجربة بالغة الثراء وحافلة بالعبر المستفادة سواء من صراعات الحرب العالمية الثانية، التي خاضها الرجل في مرحلته العسكرية أو من ملابسات وصراعات السياسة والحكم عبر سنوات العقد الخمسيني.

يومها أرسل آيزنهاور عبارته الشهيرة، التي قال فيها ما معناه: إن مصير أميركا وشعبها سيظل مرهوناً بيد المجمع العسكري- الصناعي في الولايات المتحدة.

وكان المعنى أن مستقبل أميركا سيظل مرهوناً بتحالف المصالح- العاتية بالطبع- القائم بين جنرالات الحرب وبارونات الصناعة، وهم يعملون كما كان آيزنهاور يتصور في إطار «مجمع» يتحالفون في إطاره كي يحققوا مصالح مشتركة فيما بينهم بكل تأكيد.

هذا التحالف الخطير

أما الكتاب الذي نعايشه في سطورنا الراهنة فيتصور تحالفاً أو مجمعاً من نتاج عصرنا، حيث تنضوي تحت ألويته عناصر المال والإعلام وماكينة الانتخابات (سواء كانت محلية أو إقليمية- جهوية في الولايات الإحدى والخمسين، أو كانت فيدرالية تبعث بالمندوبين الممثلين من نواب وشيوخ إلى الكونغرس بمبنى الكابيتول العتيد في قلب العاصمة واشنطن).

وفيما انتهى عنوان الكتاب إلى إطلاق صيحة التحذير إزاء خطر تدمير البلاد، فقد ارتأى السناتور بيرني ساندرز أن يمهد للموضوع في سطور المقدمة التي صدّر بها لكتابنا وقال فيها: لقد آل المؤلفان على نفسيهما أن يتدارسا بعمق نوعية التحديات التي باتت تواجه أميركا ولكن بأساليب مستجدة.

ومن ثم جاء إدراكهما للخطر الجسيم الذي يتمثل في التركيبة التي باتت تجمع ما بين عمالقة المال (الثراء الفاحش) ودهاقنة الإعلام وهو ما يهدد أساليب الحكم والحياة الديمقراطية في أميركا.

من هنا توافِق على مثل هذا التحليل كاتبة مستنيرة هي نعومي كلاين، حين تحمد لمؤلفي كتابنا دقة ما توصلا إليه من تشخيص لخطورة التحالف بين منظومة المال الفاحش ومنظومة الإعلام المؤثر، حيث تحولت ديمقراطية الحكم والحياة في أميركا لتصبح ديمقراطية الدولار.

وهو ما دعا الكاتبة نعومي كلاين إلى أن تنادي بما تصفه بأنه أجندة إصلاح جذري (راديكالي كما تسميه) يكون من شأنها انتزاع السلطة والنفوذ والتأثير من أيدي الشركات العاتية والاحتكارات والمؤسسات العملاقة إلى أيدي الناس بشكل عام.

الخطر على الديمقراطية

من جانبنا نلاحظ أن فصول الكتاب تنعي ما آلت إليه أمور الممارسة الديمقراطية التي طالما تغنّت بمديحها الأدبيات السياسية في أميركا، ولكن هذه الديمقراطية ما لبثت أن استأثرت بها واقتطفت ثمارها تلك التحالفات بين مليارديرات الثروة واحتكارات الإعلام.

وبمعنى أن بات مفتاح خزائن الثراء الفاحش يتآزر مع الريموت كونترول الذي يتحكم من خلاله دهاقنة الإعلام الأميركي في نوعية وصياغة الرسالة التي يتم بثها عبر وسائل الإعلام المطبوعة أو المرئية أو المذاعة بحيث تشكل وتوجه اتجاهات ومواقف الرأي العام.

وهي تدير دفة هذا كله تحت سلطة الدولار- إلى ما يحقق المصالح الاحتكارية للقلة الفئوية، وبما يجعل الديمقراطية تاريخاً أو تراثاً أو ممارسة شكلية أو طقسية قبل أن تكون مضموناً حقيقياً وممارسة أصيلة، تنعكس بحق وصدق على مصالح الملايين من مواطني الولايات المتحدة.

في هذا السياق لا يسع القارئ المتأمل لمقولات هذا الكتاب إلا أن يستعيد الدعوة التي سبق وأطلقها واحد من رواد أميركا الكبار، وهو المفكر والداعية السياسي توماس بين (1737- 1809) وهو في تصورنا من أوائل من نادى بتفعيل شعار حمل منذ قرنين وصف حقوق الإنسان ويومها قال توم بين: علينا أن نحوّل المعرفة إلى قوة.

وكان يقصد أن يتحول الفكر والثقافة (ومن ثم الإعلام) إلى قدرة على التأثير ولصالح أوسع قطاعات البشر، على أرض الوطن الذي يعيشون على أرضه.

المال والانتخابات

في هذا السياق يمضي مؤلفا كتابنا إلى تسليط الضوء على الجانب الأول من المجمع أو التحالف الذي يهدد بلديهما، وهو جانب المال: يقفان ملياً عند المبلغ الفادح حقاً- الذي تم إنفاقه في غمار انتخابات عام 2012 الرئاسية التي جددت ولاية باراك أوباما لحقبة رئاسية ثانية، والمبلغ هو 10 مليارات من الدولارات.

وفي معرض تبرير هذا الاتفاق غير المسبوق، كما يصفانه، يقول المؤلفان: إن السبب هو أن عمالقة المال في أميركا كانوا قد صمموا على أن يصبح صوتهم (بمعنى رأيهم- بل وقد نضيف ومصالحهم) هو العامل الأخير والحاسم في تحديد شكل وتوجهات الجهاز الحاكم في عاصمة البلاد.

من هنا يطالب كتابنا بمزيد من التفحص والتدقيق في أمر المبالغ التي تقدمها الأوساط المالية والمصالح الاقتصادية العاتية، على شكل مِنح أو تبرعات أو هبات لصالح مرشحي المجالس الجهوية فضلاً عن البرلمان القومي (الكونغرس) ولدرجة أفقدت، أو كادت تفقد، عملية الاختيار الديمقراطي الحر معناه.

، بوصفها الآلية التي تتيح للمواطن العادي البسيط أن يُعبّر عن نفسه وأن يختار مرشحيه في إطار من الحرية ومن منطلق الإحساس بالمشاركة، وهو ما يضفي على الممارسة الديمقراطية مضمونها ومغزاها في التحليل الأخير.

ينبه المؤلفان أيضاً إلى أن ما يحصل عليه المرشح أو المرشحة- لهذا الموقع النيابي أو ذاك من عطايا وأموال أو هبات من المؤسسات والشركات والاحتكارات، وهو ما يعنيه أيضاً من حيث إغراق الإنفاق بل الإغداق على ميديا الإعلان والإعلان- كل هذا يؤدي إلى تحويل ولاءات المرشحين من حيث مصلحة المواطن العادي- الناخب البسيط وهو الأمر المفترض بكل مقياس، إلى حيث يتوجه الولاء إلى السيد الآخر، وهو السيد / المال، والسيد/ الإعلام، وبالتحديد جناب السيد/ الإعلان وهو ما يؤدي في نهاية المطاف إلى تشويه العملية الديمقراطية من أساسها.

عن الإعلان وفداحته

وذلك وصف لا يطيقه بداهة خبراء وممارسو المهنة الإعلامية بحكم ما يفوح به الاقتران بين الإعلان (المصالح المادية- الفردية والفئوية) وبين السياسة (المصالح الوطنية الشعبية- الجماهيرية) وهو ما يتم، طبعاً، على حساب مصالح عموم المواطنين.

وعبر فصول هذا الكتاب نجد انتقاداً موجهاً بقدر من التلميح، الذي لا يفوت القارئ الحصيف، إلى الحكم القضائي الصادر في أميركا في عام 2010 وحمل عنوان مواطنون متحدون.

هذا الحكم كما تشير الكاتبة أنجيلا ليفي في نقدها للكتاب الذي بين أيدينا- نجمت عنه سلبيات شتى أجاد المؤلفان التعامل معها من منظور العرض والتحليل: ألغى الحكم سقف الاتفاق على الحملات الانتخابية (وهو ما لايزال يصبّ في صالح المرشح واسع الثراء أو المرشح المدعوم من دوائر المال والأعمال البزنس) وله الله إذن المرشح المحترم والمخلص لقضايا دائرته أو مواطنيه، إذا كانت موارده محدودة، ولن تنفعه بالتالي ثقته في الآلية الديمقراطية، حتى ولو كانت ثقته فيها واسعة إلى غير ما حدود.

بل ان الحكم القضائي نفسه على نحو ما ينتقد كتابنا- أباح الإنفاق بغير قيود أو حدود على الإعلانات السياسية، بكل ما تؤدي إليه من تأثيرات بالغة العمق في اتجاهات الرأي العام.

المهم أن الكتاب يوضح لقارئه أن الظاهرة ليست جديدة تماماً على المشهد السياسي الراهن في أميركا: صحيح أن عام 2012- كما أسلفنا- شهد زيادات سوبر- طائلة في إنفاق الحملات الانتخابية سجلت طبعاً في خانة المليارات.

إلا أن الكتاب يتقصى بدايات هذه الظاهرة، التي يطلق عليها وصف «الدولاركراسي» من مرحلة انتهاء الحرب العالمية الثانية في النصف الأخير من عقد الأربعينات، ويعزوها إلى تراكم ثروات الأميركيين نتيجة الصناعات العسكرية وشبه العسكرية التي كانت قد ازدهرت وقت الحرب.

وهو ما أتاح لنخبة من المليارديرات ويطلق عليهم أيضاً وصف «تايكون» أن يمتلكوا الصحف الكبرى ومحطات الإذاعة والتليفزيون التي تبث رسائلها الإعلامية على المستوى القومي في أميركا وهو ما أدى، كما يقول كتابنا في نهايات فصوله، إلى إطلاق وتكريس شعار بات سائداً ويقول: «المال هو المتكلم. وهو الصوت الوحيد المسموع».

 

 

المؤلفان في سطور

 

جون نيكولز عمل مراسلاً في واشنطن لدى مجلة «ذي نيشن» الأميركية منذ عام 1999، كما شغل مواقع إشرافية عديدة في العديد من الصحف والمجلات الأميركية، ونشر مقالاته في كبرى هذه المؤسسات، ومنها مثلاً جريدة «نيويورك تايمز» في نيويورك وجريدة «شيكاغو تريبيون» في شيكاغو.

ومازال جون نيكولز يواصل أنشطته الإعلامية، حيث يشارك كذلك في البرامج المذاعة والمتلفزة، باعتباره مُعلقاً على الأحداث السياسية ومهتماً بالقضايا الإعلامية على وجه الخصوص.

روبرت ماكشسني يعمل أستاذاً لعلوم الاتصال في جامعة إيلينوي، وقد أصدر في هذا التخصص 23 كتاباً فضلاً عن اهتمامه بقضايا الشأن العام في الولايات المتحدة، وبلغ من أهمية الدراسات التي أصدرها أن تمت ترجمة أعماله إلى 30 لغة.

فيما دفعته اهتماماته بحرية الإعلام واستقلاليته إلى أن شارك في إنشاء مؤسسة «فري برس» الداعية من واقع اسمها إلى تكريس وحماية الحرية الإعلامية سواء بعيداً عن هيمنة أدوات السلطة الحاكمة أو عن سطوة المال الذي تمارسه الاحتكارات والمؤسسات العملاقة في عالم التجارة ودنيا الأعمال.

وقد أدى اهتمام المؤلفيْن إلى أن عكفا في الآونة الأخيرة على التنبيه إلى خطورة ما يمارسه المال، فضلاً عما يمارسه تحالف الثروة مع مؤسسات الإعلان والإعلام من خطورة على الديمقراطية. ولهذا أصدرا قبل كتابهما الأخير دراستين مهمتين بعنوان «وفاة وحياة الصحافة الأميركية» ثم بعنوان «كيف تؤدي الرأسمالية إلى تحويل شبكة الإنترنت ضد الديمقراطية».

 

عدد الصفحات: 368 صفحة

تأليف: جون نيكولز وروبرت ماكشسني

عرض ومناقشة: محمد الخولي

الناشر: مؤسسة نيشن بوكس، نيويورك،

Email