الاستراتيجية.. تاريخ

دولة المُواطَنة تجسد لاستراتيجية قرينة للنجاح

  • الصورة :
  • الصورة :
  • الصورة :
  • الصورة :
صورة
ت + ت - الحجم الطبيعي

باعتبار أن مصطلح «استراتيجية» يشكل محوراً بالغ الأهمية في الفكر الإنساني المعاصر، سواء على المستوى العسكري أو على المستوى السياسي أو الاقتصادي أو الاجتماعي، فإن هذا الكتاب يستمد أهميته بفضل الجهد الشاق، واسع النطاق الذي بذله مؤلفه، وهو في طليعة الخبراء الأكاديميين الثقات في هذا البحث بالذات.

فيما أدى هذا الجهد إلى إنتاج الكتاب، الذي يشهد له النقاد والمحللون بأنه جاء أقرب إلى الموسوعة الشاملة لكل ما يرتبط مع فكرة وتطبيقات وتطورات الاستراتيجية عبر العصور والحضارات والمفاهيم التي عاشها التطور البشري، خاصة وقد عمد المؤلف عبر الصفحات التي قاربت على السبعمائة صفحة، إلى الاستهلال من حضارات الإغريق والصين، وصولاً إلى ميكافيللي، ومن بعده نابليون بونابرت في القرن 19، ومن ثم إلى الأحداث المحورية التي شهدها القرن العشرون.

وعلى مدار هذه المتابعة التاريخية بكل ما ارتبط بها من دروس مستفادة يوضح المؤلف كل ما توازى مع الاستراتيجية فكراً وممارسة، اجتهاداً وسلبيات من وقائع ومن انتصارات وانتكاسات وصولاً إلى ما أصبح يسمى في القاموس العسكري باسم الحرب الرابعة، وتحولاً في الفصول الأخيرة من الكتاب إلى المجالات غير العسكرية.

حيث يتم استخدام الرؤى والمخططات والأساليب الاستراتيجية في إدارة الكيانات الاقتصادية والنظم والمشاريع الاجتماعية الكبرى، فضلاً عن الحاجة إلى قادة استراتيجيين يتولون زمام إدارة المؤسسات العملاقة والشركات متعددة الجنسية والكيانات والاحتكارات عبر الوطنية، وهي التي تمس في الصميم حياة الشعوب وسكانها في كل أنحاء العالم.

 

الاستراتيجية كلمة ما برحت تتردد في تكرار لافت وغريب على ألسنة المشتغلين بقضايا الشأن العام، ولاسيما أهل النخبة من صنف السياسيين أو أهل الصفوة المثقفة ممن يعرفون في قواميس عصرنا باسم الأنتلجنسيا، ناهيك بالطبع عن كبار القادة والاختصاصيين في الشأن العسكري علماً وفناً وممارسة بطبيعة الحال.

ولأن الكتاب الذي نوشك أن نقلب صفحاته، فيما يلي من سطور، يمكن تصنيفه في ثقة واطمئنان علمي في خانة المراجع الموسوعية، فقد يكون مناسباً في هذا السياق أن نبدأ سطورنا مع المصطلح المحوري الذي تدور عليه مقولات هذا الكتاب، والمصطلح بداهة هو «استراتيجية».

والسؤال بداهة كذلك هو: من أين جاء المصطلح؟ وما هي أصوله اللغوية ومن ثم مسارات تطوره عبر تاريخ الحضارات ومع اختلاف الرؤى وتعدد الاجتهادات؟

وباختصار شديد فكلمة استراتيجية أصلها يوناني إغريقي بالذات، وهي تنقسم إلى مقطعين:

الأول هو: استراتوس ومعناه الجيش.

الثاني هو: آجو وينصرف إلى معنى القيادة.

ومن هذا الجذر اليوناني العتيق استمد قدماء الإغريق لفظة استراتيجيو، ومعناها ببساطة أن تكون جنرالاً، أن تكون قائداً.

ثم كان طبيعياً أن يصاغ لفظ استراتيجيا ومعناه فن القيادة أي فن تحريك واستخدام الجيوش، وهو فن إدارة الحرب بشكل عام.

تاريخ حافل

من هذا المهاد التاريخي كان لابد وأن تنطلق صفحات كتابنا، الذي صدر أخيراً تحت العنوان التالي «الاستراتيجية.. تاريــخ».

وقد صدر الكتاب من تصنيف وتحليل وإعداد واحد من أهم الخبراء الثقات في هذا المضمار، وهو المؤرخ الإنجليزي سير لورنس فريدمان الذي اختار أن يبحر خلال صفحات هذا الكتاب عبر مختلف العصور والحضارات والمعارك والنظريات السياسية - الاجتماعية التي اتخذت لنفسها على طول الخط محوراً جوهرياً رفع بدوره لافتة الاستراتيجية بطبيعة الحال.

من هنا تعددت معالم الطريق عبر رحلة البحث العلمي التي تجسدت في فصول الكتاب: ما بين صولات البطل الإغريقي أخيل في ساحات حرب طروادة التي صورتها إلياذة هوميروس، إلى النصائح الاستراتيجية على نحو ما يصفها مؤلفنا وهي منسوبة إلى حكيم الصين القديم صن تزو إلى الاستراتيجية السياسية الحافلة بحبائل المراوغة أو فلنقل فنون التكتيك على نحو ما يعبر عنه نيكولو ميكافيللي (1467- 1527) في كتابه الشهير بعنوان «الأمير» وصولاً في العصر الحديث إلى المفكر العسكري البروسي كارل فون كلاوزفيتز (1780- 1831) في كتابه «عن الحرب»، فضلاً عن كتابات كارل ماركس (1818- 1883) عن الصراعات الطبقية وسبل التعامل الاستراتيجي معها.

وثمة خط مشترك لا يفتأ مؤلف كتابنا يضعه بكل وضوح تحت كل من هذه المراحل التي استعرضها أو المقولات التي قام بتحليلها والخط المشترك تلخصه عبارات تقول بإيجاز شديد ما يلي: إن جوهر الاستراتيجية يتمثل فيما إذا كان ممكناً لنا أن نستخدم مهاراتنا ومعلوماتنا كي نصوغ معالم البيئة المحيطة بنا بدلاً من أن نستسلم ببساطة لما تقضي به هذه البيئة على اختلاف الظروف وتباين الملابسات، فإذا بنا وقد أصبحنا ضحية لتلك البيئة بدلاً من أن نكون مسيطرين عليها.

يلفت نظر المحلل لدى مطالعة المقولات الاستهلالية للكتاب أن المؤلف يعترف بداية بأن ليس هناك تعريف متفق عليه لمعنى ودلالات الاستراتيجية، خاصة وأن هناك من لا يتورعون عن استخدامها في مجالات ولأغراض شتى، ما بين ظروف الحرب وقضايا السياسة إلى ملابسات الحياة اليومية والشواغل الشخصية.

مع ذلك فقد شهد تاريخ الاستراتيجية سلوكيات وأفعالاً وأحداثاً يمكن أن تغطي هذا كله: ألم يستخدم الإغريق في حرب طروادة لعبة تبدو ساذجة وكانت حصاناً من خشب لهزيمة أعدائهم؟ ألم ينصح حكيم الصين بأن تبادر في أتون الصراع، أي صراع، إلى أن تفاجئ الخصم بأن تفعل من جانبك عكس ما يتوقعه هذا الخصم؟ ألم يؤكد أستاذ الاستراتيجية المعاصرة فون كلاوزفيتز إلى القول إن التهديد باستخدام القوة يمكن أن يتساوى في نتائجه مع المبادرة الفعلية - المادية إلى استخدام القوة، طبعاً شريطة أن تنجح في إقناع عدوك بجدية هذا التهديد؟

أمثولة نابليون

بيد أن التاريخ - الحديث على الأقل - مازال يحفل بنماذج على نجاح وفشل الرؤى الاستراتيجية، هكذا يحكي مؤلف كتابنا موضحاً أن تغيير النظرة وتبديل الرؤية والاستعداد وأنماط الحركة حيث التاريخ لا يكرر نفسه، وهو أن أقدم على فعلة التكرار تصبح النتيجة أقرب إلى الملهاة المفعمة بالسخرية والمؤذِنة بالفشل في أرجح الأحوال.

في هذا الخصوص يسوق المؤلف نموذجاً عن نابليون بونابرت نفسه (1769- 1821)، في معاركه على الجبهة الأوروبية وكان ذلك عام 1797.

كان بونابرت قائداً شاباً مفعماً بالطموح، ومن ثم هدته رؤيته الاستراتيجية إلى حشد كل ما كان تحت يده من إمكانات، ومنها كما يقول المؤلف إدراك العلاقات التي تربط ما بين دقة التوقيت وحشد الوسائل وإدراك المصالح المتشابكة وخاصة على جبهة العدو، ثم ربط هذا كله بالمواقف التي يتخذها جيش بونابرت والمواقع التي يخطط لاحتلالها، وكان أن تحقق النصر.

لكن بعد هذا التاريخ الذي سجل انتصارات نابليون، دارت معارك من نوع آخر، وكان الفاصل الزمني قوامه 15 سنة، بدا فيها بونابرت وقد فقد رؤيته الثاقبة التي طالما تمتع بها في شرخ الشباب، وكان ذلك عام 1812، وهو العام الذي شهد حملة بونابرت على روسيا، التي انتهت بفشل ذريع وهزيمة صاعقة وخسائر أكثر من فادحة للغازي الفرنسي الشهير.

دروس من فابيوس

هنا يعزو كتابنا أسباب هزيمة بونابرت في روسيا إلى أن الروس استخدموا للمقاومة رؤية استراتيجية كانت ناجحة بكل المقاييس، هذه الاستراتيجية مازالت تحمل اسماً شهيراً في عالم الحرب وعالم السياسة على السواء وهو: الفابيّــــــــــة.

والمصطلح منسوب في أصله التاريخي إلى القائد الروماني القديم فابيوس ماكسيموس الذي عاش في القرن الثالث قبل الميلاد واشتهر بأنه كسب معاركه وقتها باعتماد استراتيجية تقوم على أساس التمهل وتجنب المواجهة المباشرة مع العدو، وإجادة فنون التمويه والخداع والاختفاء عن أعين العدو بقصد إنهاك قواه وتبديد اندفاعاته وإصابة قواته بعلّة الإرهاق والملل وربما إلياس والانصراف عن تحقيق الأهداف.

من هنا يتوقف كتابنا عند ما يصفه بأنه الاستراتيجية الفابية التي اتبعها الجنرال الروسي كوتوزوف في مواجهة غزو نابليون لروسيا، وتمثلت محاورها كما يوضح المؤلف أيضاً - في التأخير المتعمد عن المواجهة + تكرار عمليات الانسحاب + المواجهة غير المباشرة مع العدو.

ثم تمضي فصول هذا الكتاب الحافل إلى حيث يقف مؤلفه، سير لورنس فريدمان، ملياً عند زماننا المعاصر موضحاً أن أهم ما شهده عصرنا وخاصة من زاوية المقولات الاستراتيجية يتمثل في عامل بالغ الخطورة وهو الأسلحة النووية.

هنا كان لابد وأن تتحول المفاهيم الاستراتيجية عما كانت عليه، أو درجت عليه على امتداد عصور خلت من عمر البشرية، وقد تجسد هذا التحول في اعتبارات مستجدة تقول بما يلي: إن البعد الاستراتيجي السائد (منذ منتصف القرن العشرين) أصبح يقضي بإعلان التهديد بالحرب من أجل تفادي نشوب هذه الحرب.

نحن إذن أمام ميزان الرعب النووي كما يقول التعبير السياسي، ودلالته تتمثل في أن لا يجوز لأي طرف عالمي كائناً من كان أن يمتلك منفرداً وبالطبع محتكراً هذا السلاح النووي، وكانت النتيجة مثلاً هي إعلان امتلاك روسيا - السوفييتية مع أواخر الأربعينيات الماضية قنبلتها الذرية مما أنهى احتكار أميركا لهذه القنبلة التي لم تتورع واشنطن ترومان عن استخدامها في هيروشيما وناغازاكي لتحقيق هزيمة اليابان وإعلان استسلامها دون قيد أو شرط، وبالتالي وضع نهاية الحرب العالمية الثانية.

وثمة وصف طريف وغريب أيضاً يطلقه المؤلف على هذا الوضع الذي يحقق ولو نسبياً سلام العالم وأمنه من الغائلة النووية من خلال ميزان الرعب النووي، وهو ما أدى إلى مفهوم يمكن ترجمته لغوياً كما يلي: «معقوليـــة اللامعقــــــــول».

أما الترجمة الفعلية - اللوجستية كما أوضحها مؤلف كتابنا - فتقول إن هذا المفهوم الغريب أدى بدوره إلى أن انقلبت معادلات الاستراتيجية رأساً على عقب، لقد أدى إلى سيادة فكرة تقول إن تحقيق المزايا الاستراتيجية إنما يتم إذا ما كان الطرف المعني مستعداً للقبول بحالة من العجز والانكشاف أمام أي هجوم بالصواريخ القذائف النووية.

(وهذا ما قبلته أميركا خلال الحرب الباردة) شريطة أن يقبل الاتحاد السوفييتي وهو الخصم وقتها بمبدأ الانكشاف نفسه، وبحيث يتحقق التوازن بين الطرفين.

معنى استعادة كلاوزفيتز

نلاحظ أيضاً في هذا الخصوص أن المؤلف، بكل ما يتمتع به من سعة في العلم وغزارة في المعلومات وتعمق في قراءة وتحليل الأحداث، مازال متمسكاً في تصورنا بالمقولة المحورية التي سبق إلى طرحها مفكر الاستراتيجية الألماني - البروسي الذي أسلفنا عنه القول ومنها عبارات فون كلاوزفيتز التي قال فيها: إن الحرب ليست مجرد عمل من أعمال الاشتباك.

ولكن الحرب هي أداة حقيقية من أدوات العمل السياسي، الحرب هي استمرار للخطاب السياسي ولكن بوسائل مغايرة.

في السياق نفسه، يذهب مؤلفنا أن لم يعد في زماننا شيء اسمه النصر الحاسم في المعارك وبمعنى الفوز المؤزر المبين، كما يقول أهل البلاغة. لقد انقضى عهد الضربة القاضية في حروب عصرنا الحديث أو لحظتنا الزمانية الراهنة.

لم تعد ظروف العصر ولا موازين القوة على صعيده تسمح بانتصارات الحسم النهائي للمنتصر أو الاندحار النهائي للمهزوم، على نحو ما حققه بونابرت مثلاً في معركة واغرام بالنمسا في عام 1809 ولا عاد زماننا يسمح بالضربة الصاعقة بلتزكريغ التي سددها هتلر حين اخترقت جيوشه النازية تخوم الأراضي الفرنسية عام 1940 .

كما تخترق السكين قالب الزبد، على نحو ما شاع من تعبيرات تلك الفترة، بل لم يعد الزمن يسمح بتحقيق انتصار سريع على نحو ما فعلت قوات جورج بوش الأميركية في العراق العربي عام 2003، والسبب في هذا كله وعلى نحو ما يؤكد مؤلفنا لورنس فريدمان أن هذه المعارك هذه الضربات العسكرية القاضية أدت، كما تسجل تواريخها، إلى نشوب صراعات مطولة على شكل حروب استنزاف اندلعت بدورها لأن الجانب المهزوم لم يرض التسليم بهزيمته، وإنما عاود استجماع أطراف قوته رغم الجراحات والإصابات لكي يتحرك من جديد.

ثم أن المفاهيم الاستراتيجية المعاصرة، وخاصة منذ آخر عقود القرن العشرين ومع الفترة الراهنة من مطلع الألفية الثالثة، أصبحت تنطوي على تفاعلات وعناصر مستجدة، منها ما يتمثل في حروب العصابات وعمليات المقاومة الجماهيرية ومخططات التخريب ومعارك الحروب الإلكترونية.

وفي مقدمتها وقائع الدعاية السوداء وحروب الشائعات وعمليات التجسس التي أصبحت تقتحم كما بات معروفاً في الآونة الأخيرة - كل أغوار الأسرار وأستار الخصوصية وهو ما أصبح يطلق عليه في زماننا الوصف التالي «حروب الجيل الرابع».

ويصفها كتابنا بأنها المفهوم المستجد للحرب، وهو المفهوم الذي نشأ في ظل الثورة التي طرأت على الشؤون العسكرية على نحو ما يقول الكاتب تشارلز هِل في مقالته التحليلية المسهبة التي نشرها في نقد هذا الكتاب، وبمعنى أن أصبح بالإمكان خوض الحروب بعدد أقل من الأفراد فضلاً عن استغلال فكرة الصدمة والرعب، ثم هناك ذلك التراث الحافل والعميق من الفكر الاستراتيجي الذي يتعدى لحسن الحظ - عمليات الحرب وتحركات الجيوش وأفعالها، وأحياناً أفعال القادة والجنرالات.

هناك، كما يوضح الكتاب آفاق الاستراتيجية الاجتماعية، حيث تلمع أسماء الأعلام الكبار: مثل الفيلسوف الألماني ماكس فيبر (1864- 1920) الذي وضع نظريات الزعامة السياسية، الاجتماعية وتجلت منها فكرة الكاريزما، بمعنى الشخصية القيادية الآسرة، وهناك أيضاً فكرة البرغماتية أو النزعة العملية - الواقعية - المصلحية في رسم وتفعيل استراتيجيات العمل الاجتماعي وسط الجماهير وقد تجلت بدورها في مقولات الفيلسوف الأميركي جون ديوي (1859- 1952).

جنرالات المال والأعمال

وعلى هذا الصعيد، تناقش فصول الكتاب معالم وتطبيقات الاستراتيجية بعيداً عن مسارح العمليات وقعقعة السلاح، وإنما ينصبّ تركيز المؤلف في هذا المضمار على دور الفكر والتنفيذ، ومن قبلهما التصور الاستراتيجي من خلال الدور الذي تضطلع به هذه الاستراتيجية في دنيا المال والاستثمار وإدارة الأعمال وتنظيم المشاريع.

وفي هذا المضمار أيضاً لا يتورع المحللون عن إضفاء وصف القائد أو رتبة الجنرال على رؤساء مجالس إدارة المؤسسات الكبرى، وعلى الكيانات العملاقة في دنيا المصارف والاستثمار، وعلى الشركات المتعددة الجنسية والمؤسسات عبر الوطنية وما في حكمها من كيانات محورية في عالم المال والأعمال، وباعتبار أن هؤلاء القادة الكبار من جنرالات الاقتصاد على المستويات القطرية ثم المستويات الإقليمية والعالمية، إنما يشكلون في التحليل الأخير أعمدة للاستراتيجية فكراً وتنفيذاً ومتابعة ومحّصلات على السواء.

على الجانب الآخر من هذه القضية، يسجل الكتاب حقيقة أن من الاستراتيجيات الاجتماعية الاقتصادية الكبرى ما لا يصادف النجاح الحقيقي في نهاية المطاف.

وهنا يضرب المؤلف مثلاً يراه فصيح الدلالة على ما يذهب إليه في هذا الصدد: أنه المثل المستقي من الاستراتيجية الاجتماعية - الاقتصادية التي قال بها كارل ماركس وزميله المفكر الإنجليزي فردريك أنغلز (1820- 1895) منذ أواسط القرن التاسع عشر، ثم وجدت تطبيقاتها في أقطار مختلفة من عالم القرن العشرين وكان نموذجها الدال هو التجربة التي وضع أسسها فلاديمير إيليتش لينين (1870- 1924) في أعقاب الثورة البلشفية التي قادها في أكتوبر من عام 1917.

وفي رأي المؤلف أن الاستراتيجيات الاقتصادية الاجتماعية التي أقامها ماركس على أساس مقولات الصراع الطبقي وديكتاتورية البروليتاريا ودولة التطبيق الشيوعي، إلخ. إنما آلت موضوعياً وتجريبياً وتاريخياً إلى فشل تَجسّد في أبرز تجلياته بسقوط وزوال أكبر وأوسع وأقدم تلك التطبيقات على نحو ما حدث في الاتحاد السوفييتي مع مطلع التسعينيات من القرن العشرين.

مع هذا كله، فثمة منظومة استراتيجية جوهرية يدعو الكتاب إلى أن نتمسك بها ونعضّ عليها بالنواجذ كما قد نقول: إنها منظومة الدولة الحديثة الدولة المدنية الديمقراطية - التي يشعر فيها المواطن بحقه المتكافئ والمكفول باستمرار، هي دولة المواطنة كما نسميها بكل تأكيد.

 

 

 

المؤلف في سطور

سير لورنس ديفيد فريدمان من مواليد ديسمبر من عام 1948 وقد تعلم في عدد من الجامعات البريطانية، كانت على رأسها جامعة أكسفورد التي درس فيها العلوم الاجتماعية، وقدم من ثم أطروحته للدكتوراه في عام 1975، وحرص خلال بحثها على تتبع مراحل الحرب الباردة بين معسكري الشرق السوفييتي والغرب الأوروبي - الأميركي.

وخاصة ما يتعلق بالصراع العسكري وموازين الرعب النووي، ومن ثم اختار لرسالته العلمية العنوان التالي: تعريف التهديد السوفييتي في قرارات الولايات المتحدة الاستراتيجية بشأن الأسلحة 1961- 1974.

يعمل البروفيسور فريدمان أستاذاً لدراسات الحرب في كلية كنغز كوليج في لندن، فيما سبق له العمل مستشاراً للشؤون الخارجية مع رئيس وزراء بريطانيا الأسبق توني بلير، ونال رتبة سير الرفيعة في عام 2003، وقد اضطلع أيضاً بمهمة المؤرخ الرسمي لبريطانيا خلال حملة جزر فوكلاند (الأرجنتين)، وأصدر عن هذه المهمة تأريخاً مهماً ومسهباً من مجلدين في عام 2006.

ومازال الدكتور لورنس فريدمان معروفاً باهتماماته، التي تدور بالذات حول مسائل الأمن وتطورات الحروب والاستراتيجية المعاصرة وقضايا الدفاع والسياسة الخارجية، ومن ثم جاءت المقالات العلمية والدراسات التفصيلية التي نشرها في مواعيد متفرقة بشأن تطورات الحرب الباردة وصراعات عقد الستينات في كوبا وبرلين وفيتنام، حيث أخضع للتحليل العلمي سياسات بريطانيا في تلك الفترة فضلاً عن سياسة الرئيس الأميركي الأسبق جون كيندي.

وفي عام 2008 فاز بجائزة رفيعة عن واحد من أحدث كتبه، وقد صدر بعنوان «اختيار الأعداء: أميركا تجابه الشرق الأوسط».

 

عدد الصفحات: 752 صفحة

تأليف: سير لورنس فريدمان

عرض ومناقشة: محمد الخولي

الناشر: مطبعة جامعة أكسفورد، لندن، 2013

Email