الأزمة.. روسيا والغرب في زمن المتاعب

روسيا على الطريق الصعب بين التحول والانفجار

  • الصورة :
  • الصورة :
صورة
ت + ت - الحجم الطبيعي

يأتي الكتاب الصادر أخيرا ليمثل ثمرة التعاون الفكري ـ الأكاديمي بين عنصر روسي ممثلاً في الباحثة الروسية ليليا شفتسوفا وعنصر أميركي ممثلاً في الدبلوماسي المخضرم ديفيد كريمر، فيما نلاحظ ظاهرة تبادل المواقع أو الأدوار، حيث أقامت الأستاذة الروسية في مهمة أو منحة دراسية بأميركا قرابة خمس سنوات، فيما كان زميلها الأميركي مسؤولاً عن مكتب روسيا ومن بعده إدارة حقوق الإنسان في وزارة الخارجية الأميركية، وتلك أوضاع وحقائق أضفت على هذا الكتاب سمة الجمع بدوره بين رصانة البحث العلمي من ناحية مع واقعية المعايشة الميدانية من ناحية أخرى.

يتميز الكتاب أيضاً بأنه لا يقصر الشعور بالأزمة السياسية في المرحلة الراهنة على الوضع الراهن في روسيا، التي تصفها فصول الكتاب بأنها ما برحت تعيش نظاماً أقرب إلى السلطوية رغم تمتع المواطن الروسي العادي بشعور الحرية شريطة عدم تدخله في السياسات التي تتولى الحكومة أمرها، فيما يُرجع الكتاب هذه السلبية إلى تمّسك النخب السياسية والثقافية الروسية ..

ومن في حكمها من المشتغلين بقضايا الشأن العام بما سبق وحصلوه من مكاسب وأوضاع متميزة وامتيازات، وفي مقابل هذه الأزمة الروسية يسلّم مؤلفا الكتاب بأن الغرب الأوروبي - الأميركي يواجه بدوره الأزمة متمثلة في ما آلت إليه أوضاع هذا الغرب، وفي ظل الديمقراطية الليبرالية، من مشكلات وتحديات مازالت ماثلة في عالم المال والاقتصاد وفي تسيير شؤون المجتمع الليبرالي بشكل عام.

 هناك مصطلح مستجد بدأ يشق طريقه في الفترة القريبة الماضية إلى إعلاميات الميديا، وربما إلى معاجم العلوم السياسية والشؤون الدولية. المصطلح هو: البوتينيـــة. والنسبة هي بالطبع إلى رجل الكرملين القوي، رئيس الاتحاد الروسي، فلاديمير بوتين.

ويلاحظ راصدو السياسة في عالمنا أن إطلاق المصطلح المذكور يقصد به ـ عند دوائر الغرب الأوروبي الأميركي بالذات - الإشارة إلى ما تبذله موسكو حاليا من جهود متواصلة وحثيثة يقصد بها في الأساس استعادة مكانة روسيا التي سبق ونعم بها الاتحاد السوفييتي وخاصة خلال سنوات الحرب الباردة .

وفيما يتوقف راصدو التطورات السياسية عند عنصر التأثير الروسي في أوضاع الشرق الأوسط - والشأن السوري على وجه الخصوص، إلا أن هؤلاء الراصدين والمحللين لم يملكوا سوى التوقف ملياً عند تطورات الأوضاع الراهنة في أوكرانيا - البلد الذي كان عنصراً بالغ التأثير سواء من مكونات الاتحاد السوفييتي السابق، أو من ديناميات الكيان الناشط حاليا في مناطق القوقاز - القرم أو كيان الشعوب السلافية المعروف سياسياً باسم كومنولث الدول المستقلة (تفضل الأمم المتحدة أن تستعيض عن كلمة كومنولث بمصطلح رابطة تمييزاً لهذا الكيان المستجد منذ مطالع القرن الحالي، عن رابطة الكومنولث العتيدة التي تضم بداهة المملكة المتحدة ومعها حلفاؤها من الأقطار التي كانت من مستعمراتها في سالف الأيام).

منذ الأسابيع الأخيرة، وضعت أوكرانيا تحت مجهر المتابعة والرصد والتحليل بل والتنبؤات، وخاصة في ضوء ما تشهده عاصمتها كييف ومواقع أخرى من أوكرانيا من احتجاجات ومظاهرات تطالب في اتجاهها العام بمزيد من التقارب غرباً مع الاتحاد الأوروبي وعلى حساب الارتباط شرقاً مع روسيا بوتين.

وحول النقطة الأخيرة، تلك المتعلقة بمحور روسيا: حاضرها ومستقبلها تدور مقولات الكتاب الذي نعايشه في هذه السطور، وقد شارك في وضع مادته اثنان من المؤلفين المهتمين بعمق والمشتغلين احترافياً بشؤون روسيا، وخاصة من حيث علاقاتها الإقليمية والدولية على السواء.

كتاب روسي- أميركي

في تأليف هذا الكتاب تشارك كطرف أول- الدكتورة ليليا شفتسوفا أستاذة الدراسات الروسية، كما يشارك أيضاً مساعد وزير الخارجية الأميركية السابق ديفيد كريمر، وقد تعمّق بدوره في الشؤون السوفييتية خلال سنوات دراسته في جامعة هارفارد بالولايات المتحدة.

اختار المؤلفان لكتابنا العنوان التالي: الأزمة .. روسيا والغرب في زمن المتاعب.

ونلاحظ من الوهلة الأولى مدى الجهد الذي قام به كل من شفتسوفا وكريمر باعتبار أنهما قاما، منفردين ومتشاركين، في وضع فصول هذا الكتاب التي بلغت 17 فصلاً، استهلتها الأستاذة الروسية بفصل محوري رصدت فيه ما وصفته بأنه يقظة روسيا، ثم شفعت هذا الرصد بتساؤل قالت فيه: بعد هذه اليقظة: هل تنفجر روسيا أو تتحول؟

وفي سياق التحليل تعرض المؤلفة إلى ما تصفه بأنه البوتينية نهج الرئيس الروسي الحالي فلاديمير بوتين. ومرة أخرى تطرح التساؤلات التي تضم خيارات شتي ترصدها بالنسبة لمآلات سياسة الكرملين سواء في الحاضر الراهن أو في المستقبل المنظور. ومن التساؤلات ما يقول على سبيل المثال: إن البوتينية معرضة حاليا إلى حالة حصار فهي في طريق التفجر (من الداخل) أو الضمور الذاتي أو التعرض للثورة.

الأزمة مشتركة شرقاً وغرباً

ويعترف الكتاب- في لمسة نراها موضوعية من جانبنا- بأن الأزمة لا تواجه روسيا بوتين في المرحلة الراهنة، ولكن الأزمة تواجه أيضاً عالم الغرب في أوروبا وفي أميركا على السواء: صحيح أن مؤلفي كتابنا لا يتورعان عن وصف الجانب الروسي بالحكم السلطوي، فيما يصفان الجانب الغربي بالحكم الليبرالي، إلا أنهما يساويان بين الطرفين في أنهما معرضان لعواصف من التغيير الذي تجسّده أزمات سياسية واقتصادية كفيلة بأن تعصف بأنماط وأساليب الحياة التي اعتاد عالمنا أن يتعايش معها، وبما قد تستعصي معه الحلول التقليدية.

صحيح أن الأزمة المحتدمة، الحاصلة والمتوقعة مازالت مختلفة من حيث طبيعتها بين الجانبين الروسي والغربي، هكذا يوضح مؤلفا هذا الكتاب. لكن وقوع الأزمة بهذا الشكل المزدوج..

وفي وقت واحد كفيل بزيادة متاعب العالم، فما بالنا والعالم عالمنا نفسه- يكابد متاعب من قبيل المشكلات الاقتصادية، والتضخم السكاني، واندلاع الصراعات الأهلية والإقليمية والطائفية والمذهبية (تأمل مثلاً اشتعال الأتون الدموي في أفريقيا من الصومال شرقاً إلى جنوب السودان وَسَطاً إلى جمهورية أفريقيا الوسطى والكونغو إلى الغرب)، هذا فضلاً عن خطورة تغيرات المناخ الكوكبي بكل ما يتهدد عالمنا من جرائه من كوارث طبيعية لم يكن آخرها مثلاً الإعصار المدمر الذي أصاب جزر الفلبين في الآونة الأخيرة.

وفي معرض التفصيل يذهب كتابنا إلى أن النهج السلطوي في إدارة دفة الحكم أصبح معّرضاً كما يتصور المؤلفان- إلى ظاهرة الانحدار والأفول وخاصة في روسيا، فيما يعترف المؤلفان أيضاً أن نهج هذا الحكم السلطوي في الصين، حيث يقوم عليه بالطبع الحزب الحاكم الواحد، مازال يحوز مقداراً كبيراً من الموارد والإمكانات السياسية والاجتماعية بما يتيح له فرص البقاء والاستمرار، وإن بدرت علامات يراها المؤلفان أيضاً بمثابة إشارات تكاد تنبئ بأن هذا النهج السلطوي حتى في الصين الشعبية- بدأ يفقد قدراته الدينامية التي كان يتمتع بها على النماء والاستمرار.

مشكلة النهج الليبرالي

على الضفة الأخرى من الأزمة نفسها تكمن النظم فيما يطلق عليه مؤلفا هذا الكتاب الوصف التالي: "الديمقراطية الليبرالية الغربية". هنا تذهب طروحات الكتاب إلى أن هذا النهج الليبرالي يواجه أزمة من نوع جديد أو مغاير كما قد نقول

: هي أزمة التجدد في مواجهة حالة التكلس التي يرى المؤلفان أنها أصابت المؤسسات الديمقراطية- السياسية والاجتماعية التي طال عليها الأمد في أقطار الغرب الأوروبي- الأميركي، ولدرجة أن أصابتها الشيخوخة أو فلنقل ألمّت بها علّة تصلّب الشرايين. في هذا السياق أيضاً يعمد الكتاب إلى التذكير بأن أقطار الغرب سبق وأصابتها مثل هذه الآفات في عقدي الثلاثينات والسبعينات على السواء من القرن العشرين. وفي هذا الخصوص يشير المؤلفان إلى الأزمة الاقتصادية الرهيبة التي كادت تعصف بالمجتمع الأميركي ومازالت تحمل في أدبيات الاقتصاد السياسي اسمها المعروف "أزمة (كارثة) الكساد الرهيب".

وهما يعرضان في السياق نفسه إلى ما قامت به إدارة الرئيس الأميركي فرانكلين روزفلت (1882- 1945) حين اعتمدت منظوراً مخالفاً لأعراف الليبرالية الاقتصادية، وهو المنظور الذي أسند إلى الدولة دوراً كبيراً إن لم يكن رئيساً في تدوير، أو إعادة تشغيل، عجلة الاقتصاد الأميركي وتحت الشعار الذي ساد في عقد الثلاثين المذكور وهو النهج الجديد.

وفي موقع آخر من الكتاب يحذّر المؤلفان من أن حقيقة وقوع الأزمتين ـ الروسية والليبرالية في وقت واحد - وهو ببساطة الوقت الراهن - إنما تقلل من فرص النجاح في الخروج من النموذج السلطوي وهو ما يطيل ـ في تصورهما - من عمر الإدارة القائمة حاليا في الكرملين، بل ويفضي إلى تعميق نموذج البوتونية كأسلوب في حكم روسيا، خاصة وأن النماذج الغربية- الليبرالية حتى لا ننسى - ما برحت تتعرض هي نفسها لعواصف الأزمة، ومن ثم لمطالب التغيير.

من هنا تؤكد الباحثة الروسية المشارِكة في تأليف هذا الكتاب أهمية التركيز على رصد مسارات ومآلات التطورات السياسية الحاصلة في روسيا بالذات. لماذا؟ لأنها تراها نموذجاً أو درساً مستفاداً لما يمكن أن تطرحه عبرة الأزمات.

 المؤلفان في سطور

الدكتورة ليليا شفتسوفا باحثة روسية تعمل في مجال الدراسات الأكاديمية، متخصصةً بالذات في الدراسات الروسية. وقد حصلت على دكتوراه العلوم السياسية، بعد دراستها لعلوم التاريخ والصحافة على مستوى درجة الليسانس ثم الماجستير من معهد موسكو الحكومي للعلاقات الدولية. وهي تتولى حاليا الإشراف على برنامج السياسة الروسية في مركز موسكو التابع لمؤسسة كارنيجي الأميركية للبحوث، كما تقوم بتدريس علم الاقتصاد في كبرى المؤسسات التعليمية في روسيا.

وقد عملت كذلك أستاذاً زائراً في عدد من الجامعات الأميركية المرموقة، ومنها جامعة كورنيل وجامعة كاليفورنيا- بيركلي ثم جامعة جورج تاون. وأصدرت حتى الآن ما يصل إلى 15 كتاباً يأتي في مقدمتها ـ كما يقول المحللون السياسيون - كتابها بعنوان "روسيا - بوتين" الصادر عام 2005 وكتابها عن أوضاع روسيا الراهنة، وقد أصدرته بعنوان "القوة الوحيدة" (بمعنى أنها تعاني العزلة أو الوحشة) وقد صدر الكتاب المذكور عام 2010.

المؤلف المشارك في الكتاب هو الدبلوماسي الأميركي المخضرم ديفيد كريمر، الذي تولى تدريس الشؤون الروسية في الجامعات الأميركية ثم أمعن في هذا التخصص المهم بالنسبة للسياسة الخارجية الأميركية حين عمل زميلاً باحثاً في جامعة هارفارد، التي حصل منها على درجة الماجستير في الدراسات السوفييتية، مما أهّله بعد الالتحاق بالسلك الدبلوماسي إلى الارتقاء في وظائف الخارجية الأميركية، إلى أن أصبح مساعداً لوزير الخارجية في عام 2008 لشؤون الديمقراطية وحقوق الإنسان، وقبلها ظل كريمر على مدار الفترة 2005- 2008 نائباً لمساعد الخارجية ومسؤولاً عن مكتب شؤون أوروبا وأوراسيا.

 عدد الصفحات: 159 صفحة

تأليف: ليليا شفتسوفا وديفيد كريمر

عرض ومناقشة: محمد الخولي

الناشر: مركز كارنيجي- موسكو-2013

Email