بعد أن تتوقف الموسيقى

مشكلات أميركا تعبر الأطلسي بحكم الاعتماد المتبادل

صورة
ت + ت - الحجم الطبيعي

تتناول طروحات هذا الكتاب النتائج التي أسفرت عنها، وربما لاتزال تسفر عنها، الأزمة المالية- الاقتصادية في عالم اليوم.

ويوضح الكتاب كيف يتحرك هذا العالم على أساس نظرية التكافل أو الاعتماد المتبادل بين سائر أطراف المنظومة الدولية، وخاصة في ميدان النشاط الاقتصادي، وهو ما أدى إلى انتقال عواقب الأزمة المالية- الاقتصادية من منشئها الأول وهو الولايات المتحدة في عام 2008 إلى حيث عبرت مياه الأطلسي لتصيب اقتصادات غرب أوروبا، وتودي ببعضها إلى حافة الإفلاس أو إلى الضنك الاقتصادي، تجسيداً لواحدة من الأزمات الدورية التي يعرف الأكاديميون أنها لا تفتأ تصيب الاقتصاد الرأسمالي.

وهنا يركز الكتاب على أهمية إسناد دور فعال ومهم، بل ودور قيادي ملموس إلى مؤسسة الدولة التي يمكنها التعامل الإيجابي مع مثل هذه الأزمات الاقتصادية، شريطة إشراك الجماهير في فهم أبعاد الأزمة ومن ثم في فعالية إدارتها وصولاً إلى إمكانية الخروج منها.

والكتاب يسوق في هذا الصدد أنموذجاً شهدته أميركا نفسها خلال أزمة الكساد الكبير التي أصابت اقتصادها القومي مع عقد الثلاثينات من القرن العشرين، وخاصة من خلال أحاديث المدفأة، حيث حرص وقتها الرئيس الأميركي روزفلت على مصارحة جماهير شعبه بأبعاد شرح سياساته في الاعتماد على الدولة لمواجهة الأزمة، وهو ما تمت ترجمته أكاديمياً في أفكار ودعوات الاقتصادي الإنجليزي جون كينز.

في 12 مارس من عام 1933 استمع الأميركيون إلى الحلقة الأولى من سلسلة أحاديث كانت نمطاً مبتكراً في تلك الأيام من أنماط الحوار الصريح إلى حد الفضفضة السياسية، كما قد نقول، بين الحاكم وجماهير ملايين المحكومين.

وحملت هذه السلسلة عنواناً أصبح ذائعاً في معاجم العلوم السياسية في طول العالم وعرضه، والعنوان هو» أحاديث المدفأة».

وبديهي أن تلك الأيام الأولى من شهر مارس كانت أياماً تسودها برودة الطقس، وأن كانت جماهير الشعب الأميركي وقتها قد عانت ظاهرة أخرى من ظواهر البرودة القارسة، بكل تأكيد، وكانت برودة تنبعث من غيوم المستقبل بعد أن تكاثفت سُحب الأزمة الاقتصادية الطاحنة التي أطلت برأسها منذ الأشهر الأخيرة من عقد العشرينات من القرن الماضي، وتجلت مأساتها في إفلاس البنوك وإغلاق المصانع وتحويل ملايين الأميركيين من مجال الاشتغال بالعمل وكسب الرزق إلى هدة البطالة والتهديد بالجوع والوقوع في براثن الضياع.

هذه الظواهر الرهيبة الناجمة عن تلك الأزمة دخلت بدورها سجلات تاريخ الاقتصاد السياسي المعاصر، تحت عنوان شهير هو «الكساد الكبير» بمعنى الأزمة الاقتصادية الفادحة أو الرهيبة.

وإذ إختار الناخبون الأميركيون رئيسهم الجديد فرانكلين ديلانو روزفلت خلفاً لسابقه الرئيس هوفر الذي وقعت نذر الأزمة في أواخر ولايته، فقد انعقدت وقتها آمالهم على الرئيس الجديد، المنتمي إلى الحزب الديمقراطي كي يتعامل مع خطورة الأزمة ويعمل على إنقاذ بلاده من براثنها.

سباحة ضد التيار

والحاصل أن كانت بداية التعامل الإيجابي مع أزمة اقتصادية طاحنة بكل معنى يتمثل في رؤية مبتكرة وغير مسبوقة انطلق منها رئيس أكبر بلد رأسمالي في العالم.

واستندت الرؤية إلى إسناد أكبر دور في الاقتصاد القومي الأميركي إلى الدولة: منتجاً وشريكاً وصاحب عمل وعنصراً جوهرياً في تنظيم المشاريع.

لهذا كان روزفلت يسبح ضد التيار حيث يقضي النظام الرأسمالي، أي نظام رأسمالي، بإطلاق العنان لكل الفاعليات الخاصة مع تكريس نشاط القطاع الخاص، حسب قوانين وآليات سوق العرض والطلب، واكتفاء الدولة بدور المراقب عن بُعد، وهو دور أقرب إلى دور حَكَم المباراة في دنيا الألعاب الرياضية .

لهذا كان على روزفلت أن يشرح فكرته المبتكرة، ويوضّح رؤيته المستجدة، لا لفئات الصفوة من المفكرين والتكنوقراط، بل لجماهير الشعب العادي البسيط بشكل عام .

ولهذا استخدم الراديو، وكان بدوره وسيلة مستجدة ومبتكرة وجذابة في تلك الفترة ، فيما عمد الرئيس الأميركي المذكور إلى اتباع اسلوب بالغ البساطة بعيداً عن النظريات والمصطلحات حيث أطلق على بياناته وصف أحاديث إلى جوار المدفأة، بمعنى أنها أقرب إلى المصارحة الحميمة، البسيطة، والودودة وكأنما تقبع أطرافها إلى ركن هادئ، متواضع ودافئ من أركان مسكن عائلي يرنو أفراده بدورهم إلى تحسين الأحوال.

وكانت تلك أقرب إلى نغمة موسيقية غير مسبوقة في تاريخ ممارسة السياسة ومعالجة قضايا الاقتصاد.

وربما لهذا اختار الكاتب الأميركي أَلَان بلندر عنواناً مستوحى من هذا المعنى، الموسيقى ليضفيه على الكتاب الذي نتعايش مع طروحاته في هذه السطور، والعنوان الرئيسي للكتاب هو بعد أن توقفت الموسيقى.

ثم يبادر مؤلف الكتاب إلى توضيح موجز للموضوع حين يثبت عنواناً فرعياً يقول فيه: الأزمة الاقتصادية: الاستجابات والعمل المطلوب إنجازه.

وإذ يتابع المؤلف أولى ثرثرات الرئيس روزفلت التي بدأت كما أسلفنا- في مارس 1933 وأكد فيها روزفلت أنه يوّد من خلالها أن يفسر الأمور أمام المواطن العادي البسيط، يمضي مؤلف هذا الكتاب مضيفاً إن الرئيس الأميركي أذاع خمس حلقات أخرى من سلسلة أحاديث المدفأة التي أتاحت له أن يكسب الجمهور إلى صفه، فيما كانت حكومته تعمل على انتشال الاقتصاد (المهيض) من آتون الكساد العظيم، على نحو ما يقول الكاتب الصحافي ماثيو بيشوب في تحليله النقدي لهذا الكتاب.

وعي الدروس المستفادة

مع ذلك، فالكتاب الذي نحن بصدده ليس كتاباً في التاريخ الاقتصادي، بقدر ما إنه يحاول استيعاب بعض الدروس المستفادة من خبرة الماضي، حتي يمكن الانتفاع من عبرتها في التعامل مع الأزمات المالية الاقتصادية، التي ما برحت تأخذ بخناق عالمنا في الفترة الراهنة منذ نشوب تلك الأزمات كما هو معروف- في عام 2008.

وأهم درس مستفاد كما يقول مؤلف كتابنا يتمثل فيما يلي: على الإدارات الحاكمة، وزرائها، ومسؤوليها ومخططيها أن يدركوا أن مفتاح الحل لأي أزمة قومية إنما يتمثل في أمر جوهري هو مشاركة جماهير الشعب، بشرط أن تفهم هذه الجماهير بصراحة وموضوعية- أبعاد الأزمة وتصورات الخروج منها.

وفي هذا الصدد يذهب مؤلف هذا الكتاب موضحاً أن أزمة عام 2008 بدأت تطل بسحنتها المخيفة عندما انهارت مؤسسة ليمان برذرز، وهي من أكبر بيوتات التمويل في طول الولايات المتحدة وعرضها، وكان ذلك نذيراً بما يصفه المؤلف أيضاً بأنه ذوبان أو انصهار الكيانات- المؤسسات المالية العملاقة في وول ستريت.

وفيما يسلّم المؤلف في هذا السياق بأن الإدارات الأميركية في واشنطن لم تقصّر في التعلم من تجربة روزفلت (وخاصة ما يتعلق بدور الدولة الفعال من التدخل المباشر في إنقاذ الاقتصاد) إلا أن هذه الحكومات فشلت كما يوضح المؤلف في السياق نفسه- في التعلم من أهمية الدرس البليغ الذي يقضي بالتواصل مع أوسع قطاعات الجماهير لاطلاعها على ما يحدث من مشكلات وعلى ما تبذله حكومتها من جهود للتعامل مع تلك المشكلات.

هنا أيضاً يوجّه مؤلف هذا الكتاب انتقاداته إلى الرئيس الأميركي أوباما الذي يتهمه قائلاً: أنه قَلّما خصّص من وقته حيزاً معقولاً يلقي فيه خطاباً لشرح ما كان يجري، رغم أن جماهير الأميركيين كانت بحاجة ماسّة إلى الكثير من جهود الشرح والتفسير، فما بالنا يضيف مؤلف الكتاب- وقد كان هذا أيضاً دأب جورج بوش الابن الذي أورث أوباما كارثة الأزمة الاقتصادية والعواقب الوخيمة التي أسفرت عنها.

جذور الأزمــة

المؤلف يفيد قارئيه أكثر عندما يتحول من انتقاد الإدارات الحاكمة وكبار رموزها إلى تفسير الأسباب التي تؤدي إلى وقوع مثل هذه الأزمات المالية- الاقتصادية. ومن بين هذه الأسباب ما يلي: الثقة المبالَغ فيها بالنسبة لما يطرحه الأكاديميون من افتراضات نظرية، وبعضها لا يتفق مع ما تجيش به ديناميات الواقع الحي المُعاش.

التساهل المفرط إلى حد التجاوز ومن ثم التهاون والإهمال في منح القروض إلى جموع المستدينين، الذين بالغوا بدورهم في الاقتراض فيما بالغ المصرفيون في المَنْح في إسراف غير مسؤول. وعندما عجز المَدين عن السداد، عجزت شرايين المنظومة المصرفية عن أداء وظائفها، فكان انسداد الدورة الحيوية للنظام الاقتصادي.

والطريف أن نكتشف من واقع معايشتنا لسطور الكتاب أن المؤلف، استقى عنوانه أيضاً من تصريح كان قد أدلى به خلال الإرهاصات المنذرة الأولى للأزمة الاقتصادية واحد من أعمدة الجهاز التمويلي المصرفي في أميركا والعالم، وحاول فيه بث شعور أي شعور بالاطمئنان في دوائر وول ستريت وكأنما يوحي بأن كل شيء على ما يرام، وأن العجلة لاتزال تدور وأن المسألة هي مجرد أزمة عابرة، وما علينا- في تصوّره- سوى أن نستمر.. إلخ.

المهم أن المصرفي الكبير حاول تبرير القواعد المتراخية- غير المسؤولة التي كان يطبقها في عمليات الإقراض فقال بالحرف: ما دامت الموسيقى تعزف أنغامها، فما عليك سوى أن تنهض من مكانك وترقص على إيقاعها، ونحن لانزال نرقص على تلك الأنغام:

والحاصل طبعاً أن انتهي العزف ونفد الرصيد- وحلت الأزمة الكارثة، ولاحت نذر الخراب على رؤوس من أعطوا القروض ومن أخذوها، حيث كانت المبالغ بالمليارات.

عن إنجازات حكومة واشنطن

مع هذا كله فالمؤلف لا يتردد في النظر بعين التقدير إلى ما اتخذته حكومة واشنطن من إجراءات، كان في مقدمتها رصد مبالغ طائلة من أجل ما وصفته إدارة أوباما بأنه تحفيز الاقتصاد بمعنى العمل على تعويم الكيانات المصرفية الغارقة في دوامات الأزمة من أجل أن تطفو على السطح من جديد، وهو ما حال دون وقوع الأسوأ على نحو ما يقول مؤلف الكتاب حيث كان الأسوأ ببساطة هو إعلان إفلاس قومي، كان جديراً بأن يشكل مأساة أكثر فداحة من الكساد الكبير الذي شهدته أميركا في عقد الثلاثينات من القرن العشرين.

وهنا لا ينسى المؤلف، وهو أستاذ ضليع في علم الاقتصاد، فضلاً عن تولّيه عدة مسؤوليات عند قمة الجهاز الحاكم في حقبة الرئيس بيل كلينتون- أن ينعى على إدارة بوش إحجامها عن مد يد الإنقاذ لانتشال مؤسسة ليمان برذرز ،التي ألمحنا إليها من كارثة الانهيار والإفلاس، وهو ما أدي - كما أصبح معروفاً إلى أن دارت عجلة الأزمة الطاحنة التي لم تكن لتقتصر على أميركا كما هو معروف، ولكن امتدت عقابيلها السلبية كي تصيب أقطاراً غربية أخرى منها ما وصل إلى حالة الإفلاس (أيسلندا مثلاً) أو إلى حالة الضنك الاقتصادي «اليونان مثلاً آخر».

حكاية تارب

من ناحية أخرى نلاحظ أن المؤلف يخصص جانباً كبيراً من طروحاته لكي يثني على تدخل حكومة أوباما لمعالجة الأزمة الاقتصادية من خلال إجراءات تارب.

وتارب هو برنامج إغاثة الأصول الاقتصادية المضطربة وكان قوامه 700 مليار دولار رصدوها في الميزانية القومية الأميركية للحيلولة دون غرق الاقتصاد في بحار الأزمة.

ومرة أخرى يؤكد المؤلف في هذه السياقات أنه كينزي النزعة على نحو ما يصفه ناقد «وول ستريت جورنال» ديد هندرسون بمعنى أنه ينتمي إلى المدرسة الاقتصادية التي تدعو إلى أن يكون للدولة دورها الفعال سواء في إدارة عجلة الاقتصاد أو في إقالته من عثراته وخاصة في وقت الأزمات والمشكلات العاتية، ومنها مثلاً الحروب أو الأوبئة أو الصراعات الطائفية التي لا تفتأ تصيب نظم الاقتصاد الرأسمالي، وبديهي أن الصفة المذكورة منسوبة إلى المفكر الاقتصادي الإنجليزي جون ماينارد كينز (1883-1946) صاحب أطروحة النظرية العامة، التي تكرس دور الدولة حتي في داخل النظام الرأسمالي القائم على أساس قوانين السوق.

ومن نقّاد هذا الكتاب أيضاً من يذهب إلى أن المؤلف يثني على ما وصلت إليه الأمور خلال حقبتي أوباما السابقة والراهنة، لا بحكم أشواط التحسن التي قطعها الاقتصاد الأميركي، بل لمجرد أن الأمور والأوضاع لم تتخذ طريقاً أسوأ مما كانت عليه، ومن المحللين أيضاً من يكاد يرجو اندلاع حرب شاملة ضروس- عالمية إن شئت - كوسيلة تؤدي إلى جرعة زائدة وفعالة لتنشيط الاقتصاد الأميركي أسوة بما فعلته الحرب العالمية الثانية التي أعادت العافية إلى أوصال وشرايين اقتصاد أميركا، وهي بسبيل التعافي مع ما أصابها من أدواء وعلل خلال آفة الكساد الكبير.

ثم يصل كتابنا إلى تأكيد ما أصبح يعرف دولياً بظاهرة الاعتماد المتبادل، أو هو التكافل على نحو ما يقول مصطلح الفقه الإسلامي، بمعنى أن لم يعد ثمة مجال لعزلة يمكن أن يعيشها أي اقتصاد قطري في عالمنا الراهن، وهو عالَم التقدم المذهل في تكنولوجيا المعلومات والاتصال وهو من ثم عالم ظاهرة الدومينو التي تنقل التأثير اللحظي من موقع إلى الموقع الآخر وخاصة ما يتعلق بالمصالح القومية والتطورات التي تستجد عند مطلع كل شمس على آفاق النشاط الاقتصادي المحتدم على صعيد الكرة الأرضية.

 

المؤلف في سطور

يعمل البروفيسور ألان س.

بلندر أستاذاً لعلم الاقتصاد والشؤون العامة في واحدة من أهم جامعات أميركا وهي جامعة برنستون وفيما يمثل موقعه الأكاديمي أساساً لمهنته، إلا أن اهتمامات الدكتور بلندر شملت كذلك نشر عموده المنتظم في قضايا الاقتصاد السياسي على صفحات جريدة "وول ستريت جورنال"، فيما توسعت اهتماماته أيضاً حيث شغل موقعاً تنفيذياً مهماً خلال حقبة الرئيس الأميركي الأسبق بيل كلينتون، وكان عضواً بالمجلس الرئاسي في البيت الأبيض المؤلَّف من المستشارين الاقتصاديين لرئيس الدولة.

يبلغ المؤلف من العمر 78 عاماً، وقد نال شهادته الأكاديمية من مؤسسات جامعية رفيعة في تخصص الاقتصاد ما بين جامعة برنستون إلى مدرسة لندن للاقتصاد ثم معهد ماساشوستس للتكنولوجيا في الولايات المتحدة.

وقد صدر للمؤلف نحو 20 كتابا، ومن أهمها كتابه الصادر بمشاركة زميله وليام بومول بعنوان "الاقتصاد: المبادئ والسياسة"، وقد صدرت منه حتى الآن 12 طبعة بفضل رواجه بين الدارسين إذ يمثل في رأي النقّاد- أفضل مدخل أكاديمي لدراسة علم الاقتصاد.

عدد الصفحات: 496 صفحة

تأليف: أَلَان بلندر

عرض ومناقشة: محمد الخولي

الناشر: بنغوين برس، نيويورك،

Email