الصين وإفريقيا.. قرن من التواصل

الصين تغزو «القارة العذراء» بـ4600 شركة

صورة
ت + ت - الحجم الطبيعي

ميزة الكتاب تتمثل في حقيقية أنه شارك في تجميع وصياغة وتحليل مادته العلمية اثنان من المؤلفين، كل منهما كان عنصراً مكملاً للآخر؛ فالأول سفير أميركي أمضى سنوات من العمل الدبلوماسي والمعايشة المباشرة لإفريقيا ومشكلاتها وقضاياها ما بين إثيوبيا في شرق القارة وبوركينافاسو في غربها.

أما المؤلف المشارك فهو زميل أقدم من مخضرمي الباحثين في واحدة من المؤسسات العلمية المرموقة والعاملة في مضمار بحوث السياسة الخارجية بأميركا، من هنا فلم يكن غريباً أن يتميز الكتاب من حيث متابعته للسياق التاريخي لعلاقات الصين مع القارة الإفريقية، حيث بدأت هذه العلاقات منذ قرون عديدة، إضافة إلى ما تحتويه الصفحات من جداول علمية وإحصاءات رياضية تدعم ما يذهب إليه المؤلفان بشأن هذه العلاقات: ما بين جذورها إلى تطوراتها في الحقبة الزمنية الراهنة التي أفضت إلى عشرات، ومن ثم مئات المليارات من الدولارات، التي باتت توظفها بكين على شكل استثمارات في شتى ربوع القارة الإفريقية، فضلاً عما تكشف عنه فصول الكتاب من وفود الملايين من المواطنين الصينيين للعمل في مجالات النشاط الزراعي والصناعي المختلفة وتحت لواء الشعار الجاذب للأفارقة، وهو "المشاريع المشتركة".

في سنة 1405 للميلاد، جاءت الصين إلى إفريقيا في أول زيارة قام بها الأسطول الصيني إلى الساحل الشرقي من القارة الإفريقية المطلّ على المحيط الهندي. بعدها بخمسين سنة، جاءت أساطيل وجحافل الأوروبيين إلى القارة السمراء. وهنا يقول الباحث البريطاني ريتشارد داودن (في كتابه عن إفريقيا) إن سكان القارة السمراء أدركوا يومها الفارق بين الصينيين والأوروبيين، وكان فارقاً شاسعاً بكل مقياس.

لقد جاء أسطول الصين في زيارة عابرة. وبعدها عاد الصينيون إلى بلادهم. ولكن جاء الأوروبيون في زيارة عدائية. استوطنوا أرض القارة من الشرق إلى الغرب. وكان استيطاناً استعمارياً بدأ بالبرتغاليين، وتلتهم بعد ذلك جحافل الإنجليز والفرنسيين وغيرهم، فيما أصبح يعرف يوماً بالعصر الكولونيالي، الذي ظل يستنزف موارد القارة التعسة على مدار قرون امتدت، كما هو معروف، إلى عقد الستينات من القرن العشرين.

من هنا ظلت صورة الصين في عيون الأفارقة ترتبط بالهدوء، وربما بالتهذيب ورقة الحاشية على الطريقة الآسيوية، والبعد عن العنف، مقابل مواقف الاستعلاء إلى حد الاستفزاز، على نحو ما عهده الأفارقة لدى رموز وأعوان الإمبريالية الغرب- أوروبية.

قرن من التواصل

وفي تصورنا أن الصين وعت جيداً درس الاستعمار الأوروبي، وما نجم عنه من كراهية عميقة وبغضاء بغير حدود في نفوس الأفارقة نحو الأوروبيين. ومن ثم كان تعاطى الصين مع إفريقيا أمراً يصدق عليه مبدأ: التعاون مع إفريقيا، وليس استعداء إفريقيا أو إشعارها بأنها ضحية للآخرين. هو إذاً هدف "التواصل مع إفريقيا"، وهو أيضاً عنوان الكتاب الذي نعايش أفكاره وطروحاته فيما يلي من سطور. والعنوان الحرفي هو: "الصين وإفريقيا: قرن من التواصل".

والكتاب من وضع اثنين من المؤلفين، وهي مصادفة سعيدة في رأينا من الناحية الفكرية العلمية، بطبيعة الحال:

أولهما جاء إلى سطور الكتاب بخبرة ميدانية واسعة وعميقة، وهو دفيد شن، الذي عمل سفيراً للولايات المتحدة على مدار سنوات عدة لدى عدد من أقطار إفريقيا، وكان آخرها إثيوبيا في شرق القارة وبوركينافاسو في غربها.

والمؤلف الثاني هو جوشيا إيزمان، وهو باحث مخضرم واختصاصي في الدراسات الصينية لدى مجلس السياسة الخارجية الأميركية.

من هنا جاء اهتمامنا، واهتمام النقاد المحللين بهذا الكتاب، باعتباره يضم، في رأي الناقد إليكس وودسون، وصفاً موضوعياً للصين باعتبارها قوة عالمية ذات أهمية متنامية، وتتخذ طريقها نحو النضج كي تضع لنفسها دوراً (مؤثراً بالطبع) على صعيد العالم كله.

وبحكم الطابع الموسوعي لهذا الكتاب، فقد عمد المؤلفان إلى توسيع المنظور الذي أطلاّ منه على دور الصين في إفريقيا.

وهذا الدور من حيث الزمان جاء ليغطي كل أنحاء إفريقيا سواء من شمالها (مصر والجزائر والمغرب) أو في ساحاتها الممتدة جنوبي الصحراء الكبرى إلى أصقاع الجنوب الإفريقي، أو إنه دور على نحو ما يسميه المؤلفان يبدأ مع أصدقاء الصين القدامى في الشمال (مصر- عبد الناصر، أو جزائر- بن بيللا وبومدين) ويمتد إلى المواقع النفطية الناشئة أو البازغة في عصرنا الراهن ومنها كما يقول الكتاب- غينيا الاستوائية وغابون، فضلاً عن الدول التي ما زالت تسبب صداعاً للسياسة الأميركية الراهنة، ويحددها المؤلفان كذلك في كل من إثيوبيا والسودان.

الخلط بين الصين وتايوان

والطريف أن ثمة جهات في إفريقيا على نحو ما يوضح الكتاب- لاتزال تخلط الأمور في تعاملها مع الصين، على مستوى قواعدها الشعبية على الأقل، حيث ما برح الأفارقة، أو بعضهم يتصور أن الصين هي تايوان- الجزيرة الصينية الناشطة، والمشاغبة أيضاً.

وفيما يؤرخ كتابنا لجذور الاهتمام الصيني بإفريقيا من خلال زيارات التجار الصينيين لسواحل القارة منذ 1200 سنة أو نحوها من العصر الحديث، إلا أن التركيز الأساسي للكتاب يكاد ينحصر أو يتركز في سنوات العقد الأخير، حيث انشغل الغرب بمشكلاته التي تمثلت في أزمة اليورو التي مازال يعانيها الاتحاد الأوروبي.

وتوازت معها انشغالات أميركا بمشكلات وتبعات الحرب في العراق، ثم في أفغانستان، على وجه الخصوص، وحتى الوقت الحاضر. ولهذا انفسح المجال أمام الصين كي تعاود اهتماماتها الاقتصادية بالذات، بالقارة الإفريقية، ولكن من منطلق الوعي بالدروس المستفادة، والمريرة أيضاً المتخلفة عن عصر الاستعمار.

من هنا تتابع فصول الكتاب أبعاد الظاهرة الاقتصادية الصينية المستجدة على أراضي القارة، وعلى حكوماتها وشعوبها، وتتمثل فيما يلي:

أولاً: ضخ استثمارات مالية طائلة من جانب الشركات الصينية التي تسيطر عليها الدولة من أجل توظيفها في مشاريع كبرى، عملاقة في بعض الأحيان، وخاصة في مجالات زراعة المحاصيل ومشاريع الصناعات الاستخراجية، ومن بينها مشروع سد النهضة في إثيوبيا، الذي يعد المشروع الأكثر إثارة للجدل من جانب الصين في إفريقيا.

ثانياً: وصول ملايين، نعم ملايين، من المواطنين الصينيين للعمل في إفريقيا في مختلف مجالات النشاط الاقتصادي.

المشاريع المشتركة

وهنا يلاحظ مؤلفا الكتاب كيف أن هاتين الظاهرتين كانتا محفوفتين بمبادرات سياسية وأنشطة دبلوماسية بالغة الأهمية، وتجسدت المبادرات في زيارات قام بها المسؤولون الصينيون لأقطار إفريقيا، وعلى أرفع مستوى، ورفعوا من خلالها شعاراً بات محبباً وجاذباً بالنسبة للجماهير والحكام في إفريقيا، وهو المشاريع المشتركة.

والمعنى هو أننا نتعاون، نتشارك، نتقاسم المنفعة، أين هذا المبدأ الذكي اللماع من أيام مشاريع الاستعمار الأوروبي التي كانت تجسد على نحو أو آخر علاقة السيد الأوروبي مع التابع الإفريقي، رغم أنه مالك الأرض وصاحب البلاد.

في هذا السياق يحرص مؤلفا الكتاب، السفير المجرِّب والباحث المتعمق على تزويدنا كقارئين بحشد من الإحصاءات التي تسند ما يذهبان إليه من تصورات وما يصوغانه من أفكار وآراء. وعلى سبيل المثال:

في عام 2006، كانت هناك 800 شركة صينية تعمل في قارة إفريقيا. لكن في عام 2009، زاد العدد خلال هذه السنوات الثلاث ليصبح 2000 شركة.

لكن ها هي صفحة 129 من هذا الكتاب الضخم (544 صفحة) تحيطنا علماً بأن عام 2011 جاء ليشهد حجم الشركات الصينية الناشطة في جنبات الاقتصاد الإفريقي وقد تضخم ليصبح 4600 شركة بالتمام والكمال، وأغلبها لا يعمل بداهة في صناعات العلكة أو منتوجات البطاطا المقلية، ولكنها تبذل أنشطتها وتشارك الأفارقة في مجالات الصناعات الثقيلة وبناء المرافق الحيوية الأساسية وفى صناعات التعدين.

إنفاق المبالغ الطائلة

وعلى مستوى مبالغ الإنفاق، يعجَب قارئ الكتاب حين يعرف أن بكين بدأت في إفريقيا بمبلغ لا يزيد على 49 مليون دولار، وكان ذلك في عام 1990. أما المبلغ المحسوب في عام 2012 (ص 132 من الكتاب) فقد ارتفع ليصل إلى 30 ملياراً من الدولارات، ولنا أن نتخيل حين نحسب ما طرأ خلال العامين الماضيين، وبأسلوب الإسقاط الرياضي، ما وصل إليه هذا المبلغ الآن من زيادات ربما تكون فلكية في بعض الأحيان.

لا عجب أن يثبت مؤلفا الكتاب تلك العبارة التي يؤكدان أنها باتت مستخدمة في حوليات السياسة الخارجية الأميركية الراهنة. والعبارة تجسدها الكلمات التالية: "نظرية التهديد الصيني".

ولا عجب أيضاً أن بدرت عن هيلاري كلينتون وزيرة الخارجية الأميركية السابقة في زيارة قامت بها إلى السنغال في أغسطس من عام 2012 عبارة تغمز فيها كما ألمح المحللون السياسيون- من قناة الصين وأنشطتها الحالية في إفريقيا قائلة: إن أميركا تتبع نموذجاً من الشراكة المستدامة مع إفريقيا ويفضي إلى قيمة مضافة بدلاً من أن يعمل الآخرون على استخراج هذه القيمة إلى خارج إفريقيا.

هنا يتابع كتابنا حرص الصين على تأصيل علاقتها الراهنة مع القارة السمراء. وليس صدفة أن تعمد الصين في هذا التأصيل إلى الرجوع إلى مبادئ "باندونغ" العشرة التي صدرت تاريخياً عن أول مؤتمر عقد في عام 1955، ليمهد السبيل أمام إعلان سياسة الحياد الإيجابي والتعايش السلمي وعدم الانحياز، ويبشر بنشوء وتبلور كيان دولي مستجد منذ تلك الفترة حمل ولايزال اسم "العالم الثالث".

والمعروف أن العرب كان لهم حضورهم القوي في المؤتمر المذكور، من خلال مشاركة زعيم عربي شاب وقتها هو جمال عبد الناصر، وهو ما استطاعت الصين استثماره منذ ذلك الحين، وربما حتى الآن حين طرحت نفسها بديلاً إيجابياً عن قوى الاستعمار القديم، وبحكم أن ليس لها "سوابق" بوصفها قوة إمبريالية استغلالية لشعوب هذا العالم الثالث، التي كانت منذ تلك الفترة تطمح إلى تصفية تَرِكة الاستعمار الأوروبي، وإلى بناء كياناتها الطالعة على دعائم السيادة الوطنية والاستقلال.

مراحل تطور الاتصال

من هنا بدأت بواكير التواصل بين صين- ماوتسي تونغ (منذ الخمسينات وعبر الستينات) وبين حركات التحرر والاستقلال في إفريقيا ضد بقايا وفلول الاستعمار الأوروبي، وهو ما يحرص كتابنا على متابعته عبر الصفحات التي استقصت أبعاد هذه العلاقة المستجدة، التي تمثلت بالذات في تزويد حركات التحرر في أقطار إفريقية، ومنها تنزانيا مثلاً بالأسلحة اللازمة للمقاومة الوطنية ضد الاستعمار، وهو ما وضع الصين، كما يقول المؤلفان - في المرتبة رقم 7 بعد "تشيكوسلوفاكيا" بوصفها مورّد السلاح إلى أطراف شتى من إفريقيا جنوبي الصحراء الكبرى.

هكذا تلخصت علاقة الصين مع إفريقيا كما يقول الكتاب في كلمة واحدة هي: الصديق.

وربما أوغل الطرفان الصيني والإفريقي خلال حقبة "ماو" في هذا السبيل، مما أفضى إلى شعار آخر كان رائجاً في تلك الفترة وهو: أشقاء الاشتراكية، وهو الشعار الذى حرصت صين- الستينات إلى منتصف السبعينات على أن يكون شاملاً بحيث يضم كذلك كلاً من كوبا في أميركا الوسطى وألبانيا في جنوبي أوروبا.

على أن كتابنا يلمح أيضاً إلى أن الطرفين، الصيني والإفريقي، كانا يفهمان بصورة أو بأخرى أن لفظة "صديق" كانت تنصرف بداهة إلى معان أبعد من مجرد عواطف الصداقة، إلى حيث تتجاوز عملياً إلى لغة المصالح.. والأموال والاستثمارات.

ومن هنا بدأت الأدبيات السياسية في الصين المعاصرة، تتباعد منذ أيام الزعيم البراغماتي الإصلاحي الشهير دنغ شياو بنغ عن حكاية الصداقة والعواطف الجياشة، أو الطرح الأيديولوجي وأخوّة الاشتراكية وما إليها، إلى حيث أصبح شعار القادة المحدثين في صين اليوم هو على نحو ما يقول هذا الكتاب: "نحن نتبع سياسة المكسب للطرفين".

في كل حال هناك من محللي هذا الكتاب من ينصح أهل السياسة وصانعي القرارات باستيعاب طروحاته، لأنه في تصورهم يحاول أن يرسم صورة أوضح مزودة بمعلومات وإحصاءات عن كيانين لا يزالان محلاً لسوء الفهم على مستوى خارطة العالم، وهما الصين وإفريقيا.

بل تزيد أهمية هذا المعنى حقيقتان أولاهما: أن الصين تزداد أهميتها بحكم انتشار مصنوعاتها ومنتجاتها في أسواق السلع الاستهلاكية في طول العالم وعرضه، فيما تزداد أهمية إفريقيا على الضفة الأخرى من هذه المعادلة بوصفها قارة واعدة بكل معنى، حيث لايزال وصف "القارة العذراء" يلاحقها لا من باب التغني الرومانسي بجمالها أو نقائها بقدر ما أنه التوصيف الموضوعي لما تحويه إفريقيا من ركازات معدنية ثمينة، ما بين البترول إلى الالماس، وما بين اليورانيوم إلى النحاس، وما بين المنغنيز إلى الموارد المائية الثرية بمناسيب الأمطار الهاطلة على مدار العام إلى ساحات الأراضي الخصيبة الصالحة لزراعة مختلف المحاصيل.

 

المؤلف في سطور

الدبلوماسي ديفيد شن عمل في السابق سفيراً لأميركا لدى بلدان شتى في إفريقيا، كان آخرها في كل من إثيوبيا وبوركينافاسو، وهو يبلغ من العمر 73 عاماً، ويقوم حالياً بالتدريس في كلية إليوت للشؤون الدولية بجامعة جورج واشنطن.

وبحكم خبرته الطويلة في العمل الدبلوماسي، وخاصة على صعيد القارة الإفريقية، فهو يعد من ثقات المحللين والمعلقين السياسيين الاختصاصيين في شؤون وقضايا شرق إفريقيا، ومن ثم توجه إليه الدعوة في كثير من الأحيان للإدلاء بشهادته أمام لجان الكونغرس البرلمانية المعنية على وجه الخصوص بقضايا منطقة القرن الإفريقي، بكل ما تضمه حالياً من مشكلات، ومنها بالذات الصراع المحتدم حالياً في الصومال.

يحمل السفير ديفيد شن، درجة الدكتوراه من جامعة جورج واشنطن إلى جانب شهاداته التي حصل عليها من جامعة كاليفورنيا وجامعة لويزيانا اختصاصياً في الشؤون الإفريقية، وقد أمضى 37 عاماً في السلك الدبلوماسي الأميركي، حيث خدم في لبنان وموريتانيا، إضافة إلى عواصم عدة من القارة الإفريقية.

أما زميله جوشيا إيزمان، فهو زميل باحث أقدم اختصاصي في الدراسات الصينية، وقد جمع في دراساته الأكاديمية بين مجالي الصين وإفريقيا، ثم أمعن في تخصصه في قضايا الصين، لدرجة أن أصبح يجيد اللغة الصينية (الماندارين)، وبعدها أصبح محللاً ومرجعاً في شؤون العلاقات الأميركية- الصينية، كما جاءت الكتب العديدة التي أصدرها، والمناسبات التي تواصل فيها مع أجهزة الإعلام متعلقة في مجموعها بالصين حاضرها ومستقبلها لتجعله مرجعية موثوقة في شؤون الصين.

عدد الصفحات: 544 صفحة

تأليف: ديفيد شن وجوشيا إيزمان

عرض ومناقشة: محمد الخولي الناشر : مطبعة جامعة بنسلفانيا، نيويورك،

Email