روبرت أوبنهايمر صانع القنبلة الذرية

صانع القنبلة النووية ظلّ تحت المراقبة 9 سنوات

صورة
ت + ت - الحجم الطبيعي

يتناول هذا الكتاب السيرة الشخصية لواحد من أهم علماء القرن العشرين، وهو العالِم الأميركي ،الألماني الأصل، روبرت أوبنهايمر، الذى يعرف في حوليات التاريخ الأميركي بأنه «أبو القنبلة الذرية» باعتبار أنه أشرف من موقع المدير في مختبر لوس ألاموس على «مشروع مانهاتن» السرّى، الذى أسفر عن صنع أول قنبلة ذرية في التاريخ.

ثم جاء إلقاء القنبلة على هيروشيما في 6 أغسطس 1945، وعلى نغازاكي عقب ذلك، وبعد أيام من ذلك التاريخ انتهت الحرب العالمية الثانية. ولكن بدأت مع هذا التاريخ أيضاً مشاعر الندم تساور بطل هذا الكتاب، لأنه تسبب في مصرع عشرات الألوف من ضحايا هذين التفجيرين النوويين في اليابان.

وفى هذا السياق يصور الكتاب وقائع اللقاء المشهود الذي جمع أوبنهايمر مع الرئيس الأميركي الأسبق هاري ترومان، وهو لقاء بين صانع القنبلة وصاحب قرار استخدامها، حيث أعرب أوبنهايمر للرئيس عن أسفه لأنه يشعر بيديه ملطختين بالدماء، وهو ما جلب عليه سخط الإدارة الأميركية، وخاصة مع الحقبة المكارثية في مطالع الخمسينات، حيث اتهموه بالخيانة العظمى والجاسوسية، فكان أن وضعوه تحت المراقبة على مدار تسع سنوات، انتهت بوفاته في عام 1967.

ولهذا يحرص الكتاب من خلال بحوث مؤلفه على تبرئة ساحة الرجل، الذي جاء ندمه بفعل يقظة ضميره كعالم ومفكر وإنسان.

القنبلة الذرية، الطاقة النووية، قضية بالغة الخطورة في زماننا الراهن لدرجة أنها ما برحت كما يقول المثل العربي المتواتر- تملأ الدنيا وتشغل الناس. وما كان الناس يلقون بالاً إلى حكاية الذرية أو النووية لولا الصدمة التي انتابت عالم الأربعينات من القرن العشرين ،عندما جاءهم يوم السادس من أغسطس من عام 1945 نبأ مرعب يقول: دُمرت هيروشيما بأول قنبلة ذرية أميركية في التاريخ.

وهيروشيما مرفأ ياباني على البحر الداخلي من بلاد الشمس المشرقة، التي لم تعد مشرقة على الإطلاق ، بعد أن اجتاحت هيروشيما نيران القنبلة كي يذهب ضحيتها 160 ألف إنسان، وربما يزيد. ولم تمض سوى ثلاثة أيام حتى أصابت القنبلة الذرية مدينة يابانية أخرى هي نغازاكي، فدمرت نصفها تماماً. وكان أن انهت بهذه التراجيديا الذرية مآسي الحرب العالمية الثانية.

وعندما حل عقد الخمسينات من القرن الماضي، كان احتكار القنبلة الذرية قد تم تحطيمه، بعد أن توصّل إلى إنتاجها الاتحاد السوفييتى في عهد جوزيف ستالين، مما أوجد ما لايزال يوصف بأنه «ميزان الرعب النووي» الذى كان يحرص عليه طرفا الحرب الباردة من الشرق الروسي إلى الغرب الأميركي، وخاصة بعد أن توسعت عضوية هذا النادي النووي لتضم دولاً من غرب أوروبا ومعها دول من آسيا ما بين الهند إلى باكستان، وما بين الصين إلى كوريا الشمالية.

روبرت أوبنهايمر

وبصرف النظر عن أبعاد الصراع الدولي بشأن حيازة الطاقة النووية. فقد كان مهماً أن يُعنى بهذه القضية الكاتب الإنجليزي «راى مونك» وهو بدوره مؤرخ محقق ومتعمق في سير وتواريخ مشاهير الرجال، ومنهم مثلاً الفيلسوف البريطاني الشهير «برتراند راسل» (1872- 1970).

ولقد جاء تركيز مونك على تقصّى بدايات وتطورات و مآلات سيرة الشخصية المحورية التي كانت وراء التوصل إلى القنبلة الذرية، ومن ثم إلى إدخال العالم تلك الحقبة النووية التي ما زالت كوابيسها تلاحق البشرية آناء الليل وأطراف النهار. هذه الشخصية هي محور الكتاب الذى نعايش سطوره في هذا المقام.

روبرت أوبنهايمر، هذا هو موضوع وعنوان الكتاب الذي حرص مؤلفه على أن يشفعه بعنوان فرعى هو: حياة في داخل المركز. ويقصد به سيرة ومهنة وعمل واهتمامات تمت وتفاعلت داخل أهم وأخطر محور الدوائر الحاكمة والمؤثرة على الحياة في عصره، وعلى صعيد الولايات المتحدة بالذات.

روبرت أوبنهايمر يطلقون عليه في حوليات التاريخ الأميركي اللقب التالي: أبو القنبلة الذرية. وهو لقب تكريمي، كما يبدو من الوهلة الأولى. لكننا نحترس حين نضيف أن هناك في حوليات هذا التاريخ الأميركي نفسها من يشفع ذلك بلقب آخر يخلعه على الشخص نفسه وهو: الشيوعى .. الخائن. !

وهذا هو السبب كما يوضح مؤلف كتابنا- في أن الناس بعد عقود عدة من رحيل أوبنهايمر في عام 1967 (عن 63 عاماً) لا يزالون مختلفين حول سيرة هذا الرجل. عالِم الفيزياء العبقري الذى قدّم لأميركا أول سلاح نووي حاسم ورهيب في التاريخ.

ولكن لاحقته بعد ذلك الاتهامات بالتواطؤ والتجسس، بل والخيانة، خلال الحقبة المكارثية التي اجتاحت ساحة الشأن العام في الولايات المتحدة مع مطالع عقد الخمسينات، وكان رجلها الأول هو السناتور الجمهوري «يوجين مكارثى» (1901 1957) الذي شنّ أيامها ما يمكن وصفه بأنه حرب صليبية على صفوة علماء أميركا وكوكبة مثقفيها و فنانيها ومبدعيها، متهماً إياهم بأنهم شيوعيون، و ممالئون لروسيا السوفييتية، ويساريون لا يعرفون من الألوان سوى اللون الأحمر القاني، رمزاً لفكرهم الماركسي، إلخ.

عن الأصل الألماني

وحين يتقصّى مؤلف كتابنا جذور ونشأة بطل الكتاب، يوضّح أن أوبنهايمر نشأ ابنا لعائلة يهودية هاجرت من ألمانيا إلى أميركا، وتوسمت في فتاها روبرت إمارات النجابة وربما العبقرية في مضمار التحصيل الدراسي.

والمشكلة أن هذه الجذور المهاجِرة- الوافدة ظلت أشباحها تلاحق الفتى روبرت، فكان يشعر أنه دخيل يقتحم مجالات المجتمع الأميركي، وهو ما دفعه أيضاً إلى التفوق في دراسته على سبيل التعويض عن هذا الشعور، بل إن هذا التفوق حمله كذلك إلى اقتحام الدوائر الفاعلة والمهمة وربما الحساسة في المجتمع الأميركي ، على مستوى الحياة الاجتماعية أو الحياة السياسية على السواء.

هكذا دفعه نبوغه المبكر وكان لايزال في شرخ الشباب- إلى دخول الدائرة المرموقة التي كانت تضم نفراً من أكبر العلماء الأعلام في أميركا مثل ألبرت أينشتاين، مكتشف نظرية النسبية، ونيلز بوهر، رائد الطاقة النووية الحاصل بدوره على جائزة نوبل في الفيزياء، وبول ديراك، وكان في طليعة مكتشفي أساليب تحطيم الذرّة.

ويتابع المؤلف سلوكيات بطل الكتاب وهو يتفاعل مع هذه العقليات العبقريات ، موضحاً كيف ظلوا عاكفين خلال الثلاثينات والأربعينات بالذات - على مقولة كشف أسرار الكون، فيما كان عالَم ذلك الزمان قد شارف على هاوية، أو أحدقت به كارثة الصراع الدولي الذي اندلع عام 1939 تحت اسم الحرب العالمية الثانية.

الكتاب يصوّر أوبنهايمر على أنه كان إنساناً يجمع بين رقة تصل إلى درجة الهشاشة وذكاء يرقى إلى درجة العبقرية وبين شخصية يكتنفها قدر عجيب من التعقيد.

يضيف المؤرخ مؤلف الكتاب أن هذا العالم الفيزيائي المتميز لم يقصر في تحصيله الفكري على تخصصات العلوم البحتة أو الدراسات التطبيقية أو الإحصاءات الرياضية والمعادلات الجامدة: لقد كان أوبنهايمر شغوفاً كذلك بالتأملات في العالم الروحي، قارئاً وراوياً للشعر ومسترسلاً في التأمل الواسع المتعمق في عبقرية الخلق وآلاء الطبيعة.

وفى هذا السياق ينقل مؤلفنا عن هانز بليث، وكان عالِماً زميلاً لبطل كتابنا حين قال: لقد كان روبرت شغوفاً بالفلسفة قبل أي شيء، وأرى أنه اشتغل بالفيزياء وكأنها طريق يوّصله إلى تعاطى الفلسفة بكل قضاياها ومنطقها وتأملاتها .

درس أوبنهايمر في كبرى جامعات أميركا، هارفارد وبيركلي. ولم تكن هذه الجامعات المرموقة ترحب بأن تضم عدداً كبيراً من الطلاب اليساريين. ورغم أنه كان يقيم بشقة في نيويورك جهزها له والداه، وكانا من ميسوري الحال، إلا أنه تحّول في التدريس إلى أصقاع الغرب الأميركي، حيث عمل أستاذاً في جامعة كاليفورنيا.

التحول الجذري

أما التحول الجذري الخطير في حياة بطل كتابنا، بل في حياة أميركا وربما في مسارات الأمور في عالمنا، فقد انطوى عليه القرار الصادر في عام 1942 بتعيين البروفيسور روبرت أوبنهايمر مديراً لمختبر لوس ألَاَموس في نيومكسيكو.

هنالك عكف أوبنهايمر ومساعدوه من كبار علماء الطبيعيات والكيمياء على خدمة مجهود حربى ،كانوا يعملون فيه تحت ستار كثيف من السرية الكاملة. وكان يحمل العنوان التالي: مشروع مانهاتن.

يوضح مؤلف الكتاب كيف كان هدف هذا المشروع هو اكتشاف وتصنيع أول مجموعة في التاريخ من الأسلحة النووية، وبتكلفة كانت فلكية في تلك الفترة من مطالع عقد الأربعينات، وهى 2 مليار من الدولارات.

في إطار هذا كله، كان بطل كتابنا هو العقل المدّبر والعالم المفكر والمدير المسؤول، خاصة وقد كان العمل السرّى والجهد الابتكاري العلمي يتوازى كما يقول محللو كتابنا- مع ما كان يتمتع به أوبنهايمر من مهارات متنوعة، فضلاً عما كان يراوده خلال إنجاز ما هو مطلوب من شعور بالفخر والاعتزاز.

ورغم أنه لم يسبق له أن ترأسّ واحداً من أقسام الدرس أو البحث العلمي في جامعة من الجامعات، إلا أن الدكتور أوبنهايمر، مدير مشروع مانهاتن النووي فى لوس ألاموس، حقق كل نجاح بفضل قدرته على استيعاب جميع التفاصيل وبسرعة شهد بها خصومه ومنافسوه، فضلاً عن قدراته في الإقناع والتأثير الإيجابي على زملائه ومساعديه، الذين كانوا يعجبون بهذا العالم الفيزيائي الذى كان لا يفتأ يرفع رأسه ويحوّل اهتمامه من معادلات الفيزياء النووية بكل خطورتها، إلى حيث يخلد إلى دواوين الشعر، وخاصة ديوان «أزهار الشر» للمبدع الفرنسي «شارل بودلير».

16 يوليو 1945

وجاء يوم 16 يوليو عام 1945، وكان موعداً حاسماً وفى غاية الخطورة.

في هذا اليوم أجروا أول اختبار لتفجير قذيفة البلوتونيوم في صحراء منطقة «الأموغوردو» في ولاية نيومكسيكو. وفى ضوء نجاح التجربة جاء قرار الرئيس الأميركي الأسبق هاري ترومان بإسقاط قنبلة اليورانيوم على هيروشيما، ثم قنبلة البلوتونيوم على نغازاكي، وكان الفرق بين التفجيرين لا يزيد كما أسلفنا على 3 أيام فقط لا غير. بعدها، ما كان أسرع ذلك الإحساس بالندم الذى يوضّح كتابنا أنه راود روبرت أوبنهايمر.

يحاول مؤلف كتابنا، بقدر ما سبق إلى المحاولة مفكرون ومحللون كثيرون، منهم مثلاً ريتشارد رودس في كتابه الموسوعي بعنوان «صنع القنبلة النووية»، أن يتابعوا ويتفهموا ويحللوا سلوكيات ومواقف أوبنهايمر، رغم أن شهرته في تلك الفترة طبّقت الآفاق بوصفه صانع أخطر سلاح على مر التاريخ.

ربما شعر بالمرارة أو بالأسف على سقوط ألوف الأبرياء من الضحايا ،الذين رحلوا عن الدنيا أو لحقت بهم إصابات جسدية ونفسية، وبعضهم لايزال على قيد حياة من المعاناة والعذاب حتى كتابة هذه السطور.

لقاء مع الرئيس

هنالك يقف كتابنا ملياً عند مشهد تاريخي بكل مقياس دار بعد فترة قصيرة من انتهاء الحرب العالمية الثانية.

يضم المشهد كلاً من العالِم النووي روبرت أوبنهايمر والرئيس الأميركي هاري ترومان. الأول هو صانع القنبلة الذرية، والثاني هو صاحب قرار استخدامها على أرض اليابان تحت شعار إنهاء الحرب.

دخل «أوبنهايمر» على رئيس البلاد قائلاً:

- سيادة الرئيس، أشعر أن يدي ملطختان بالدماء.

انتفض «ترومان» كما يصور كتابنا- فقال:

- بل الدم يلطخ يدي أنا، ولذلك دعك من القلق.

وخرج أوبنهايمر. وبادر ترومان إلى استدعاء وكيل وزارة خارجيته وهو دين أتشيسون (وقد أصبح وزيرا فيما بعد) وساعتها قال ترومان:

- لا أريد أن أرى «ابن الكلـ ...» هذا في مكتبي بعد الآن، مفهوم؟

وكانت هذه بداية النهاية لبطل كتابنا.. روبرت أوبنهايمر.

صحيح أنه بقى عضواً في اللجنة الأميركية للطاقة الذرية، إلا أنهم أفهموه في عام 1949 بأن له اتصالات شيوعية، وسحبوا منه تصريح الأمن، وهو ما أشعل غضب الدوائر العلمية في الولايات المتحدة.

والحق أن هذا العالم المفكر لم يكن يشكل خطراً أمنياً (على نحو ما اتهمته دوائر المكارثية).

هكذا يؤكد مؤلف كتابنا ،بعد أن استوفى الاطلاع على الكثير من الوثائق واستقى العديد من الإفادات والشهادات.

مع ذلك، فقد ظل روبرت أوبنهايمر موضوعاً تحت المراقبة على مدار تسع سنوات كاملة من جانب عناصر مكتب المباحث الفيدرالي. ولم يشفع له ما كتبه مفكرون كثيرون ينتمون إلى عقائد سياسية شتى. وعلى أساس أن الرجل كان يدعو إلى عدم احتكار أميركا أو أي طرف وحيد في العالم لأسرار الطاقة النووية، وبمعنى أنه عندما تشيع المعلومات يصبح العالَم أكثر أمناً دون خشية من جبروت من ينفردون بتلك الأسرار.

في عام 1967، توفى أوبنهايمر من جراء داء السرطان.

في جنازته وقف جورج كينان، وهو من أقطاب الدبلوماسية الأميركية يقول على نحو ما يختم به مؤلف هذا الكتاب: الحقيقة هي أن حكومة الولايات المتحدة لم يُتح لها يوماً عنصر يعمل في خدمتها أشد إخلاصاً من أعماق قلبه بأكثر من هذا الرجل.

 

المؤلف في سطور

البروفيسور راي مونك، مفكر إنجليزي يشتغل بتدريس الفلسفة في كبرى الجامعات البريطانية.

وقد لاحظ النقاد أن المؤلف اهتم بشكل لافت للنظر بالجوانب الإنسانية من حياة بطل هذا الكتاب، وهو عالم الذّرة الأميركي روبرت أوبنهايمر، وخاصة أن سيرة حياته تكاد تجسد إحدى تراجيديات الإغريق، من حيث صعوده إلى الذروة ،سواء بين صفوة علماء الفيزياء في أميركا أو على مستوى المجتمع الأميركي بشكل عام، وباعتباره صاحب الفضل في تقديم السلاح الذي أنهت به واشنطن لصالحها ولصالح الحلفاء مأساة الحرب العالمية الثانية، وهو سلاح القنبلة الذرية التي ألقيت عام 1945 على كل من هيروشيما ونغازاكي، وبعدها كان اضطهاد الرجل على يد السلطات الأميركية.

ويلاحظ متابعو سيرة المؤلف أن اهتماماته العلمية تتركز على فلسفة الرياضيات وعلى تاريخ الفلسفة التحليلية وعلى الجوانب الفلسفية من أدبيات السيّر والتراجم، وذلك إلى جانب اهتماماته الأخرى بعلوم المنطق وفلسفة اللغات، وهذا ما دفع المؤلف إلى إصدار كتاباته عن سيرة أقطاب الفلسفة الرياضية والتحليل الفلسفي في عصرنا، ومنها كتابه الصادر عام 2001 عن الفيلسوف الإنجليزي الأشهر «برتراند راسل»، وكان قد سبقه كتاب عن الفيلسوف نفسه أصدره المؤلف عام 1996 بعنوان: « برتراند راسل: روح العزلة «.

يبلغ البروفيسور راي مونك من العمر 56 سنة، وقد حصل في عام 1991 على جائزة علمية رفيعة بعد صدور كتابه عن الفيلسوف النمساوي الأصل «جوهانان لودفيج فتجنشتاين».

عدد الصفحات: 825 صفحة

تأليف: راي مونك

عرض ومناقشة: محمد الخولي

الناشر: دبلداي، نيويورك،

Email