أولى مهام هيلاري.. إصلاح ما أفسده المحافظون الجدد

مواجهة في باكستان في اجتماع مع هيلاري كلينتون

صورة
ت + ت - الحجم الطبيعي

تتسم فصول الكتاب بطابع التقارير الصحافية التي استطاعت بها المؤلفة ذات الأصول العربية أن تبلور أبعاد تجربتها الحافلة التي أمضت فيها أربع سنوات ضمن الفريق الإعلامي الذي رافق هيلاري كلينتون خلال فترة عملها كوزيرة لخارجية الولايات المتحدة، وهي الحقبة الرئاسية الأولى للرئيس الأميركي الحالي باراك أوباما.

 وقد أتاحت لها هذه التجربة أن تتابع، من موقع المندوب الصحافي، رحلات ومهام الوزيرة الأميركية التي سبق وأن حملت لقب «الأولى» خلال رئاسة زوجها بيل كلينتون ثم حملت لقب «السناتور» إذ كانت عضواً بمجلس الشيوخ عن ولاية نيويورك، بل كانت منافساً قوياً، إلى حد الشراسة أحياناً، لباراك أوباما نفسه على ترشيح الحزب الديمقراطي لخوض الانتخابات الرئاسية في عام 2008، وبرغم أن الكتاب لا يتبع نهج التحليل السياسي المعهود إلا أنه يفيد في إلقاء لمحات ضوء على أفكار وتوجهات هيلاري كلينتون، وخاصة ما يتعلق بإدراكها أن مهمتها كانت تقتضي استعادة دور ومكانة «واشنطن» على ساحة السياسة الدولية بعد أن تعرّض هذا الدور للكثير من المشكلات والسلبيات من جراء سيطرة المحافظين الجدد على مقاليد الأمور خلال إدارة الرئيس بوش الابن، فضلاً عن اختيار وزيرة الخارجية الأميركية نهج البراغماتية الإصلاحي القائم على الواقع السياسي وخاصة لدى زيارتها للصين، حيث عمدت إلى تجاهل التطرق إلى الحريات الأساسية وحقوق الإنسان.

«اركنساس» هي ولاية أميركية متواضعة المساحة ويغلب عليها طابع زراعة المحاصيل وتجارة أخشاب الغابات، فيما تشتهر نسبياً بينابيع المياه الطبيعية الدافئة المنبعثة من منحدراتها الجبلية.

وكان يتولى أمرها حتى آخر ثمانينيات القرن العشرين حاكم شاب، مشهور بفصاحة اللغة وأناقة المظهر، وكان يستكمل هذا المظهر من واقع الحياة العائلية لحاكم الولاية المنتخب متمثلاً في أسرة صغيرة أنجبت بنتاً واحدة، وتقوم على أمرها زوجة شابة تنتمي إلى سلك المحاماة حيث تزاملت في دراسة القانون مع زوجها خلال سنوات الشباب.

وكان يمكن أن تمضي الحياة على هذه الوتيرة الهادئة للأسرة الوادعة الصغيرة في تلك الولاية الصغيرة بدورها، لولا أن طلب الحزب الديمقراطي الأميركي من حاكم الولاية أن يتقدم مرشحاً للانتخابات الرئاسية التي بدأ الاستعداد لخوضها مع مطلع عقد التسعينات.

لم يكن الأمر سهلاً إذ كان الرئيس وقتئذ هو جورج بوش الأب الذي كان يستند بدوره إلى إيجابيات لا يجارى فيها أحد وظلت تزين سيرته المهنية، حيث تولى أكبر وأرفع المناصب في بلاده قبل أن يدخل مكتب الرئاسة البيضاوي إياه في البيت الأبيض بالعاصمة واشنطن.

هكذا دخل حاكم «أركنساس» الشاب غمار السباق الرئاسي، ولم يكد يسمع به أحد ودخل السباق أمام جورج بوش الأب الذي كان قد أمضى في واشنطن 8 سنوات نائباً للرئيس رونالد ريجان، ومن قبلها كان مندوب أميركا الدائم لدي منظمة الأمم المتحدة في نيويورك، فيما كان أول سفير أميركي لدى «صين ماوتسي تونغ»، وبعدها تولى منصب مدير وكالة الاستخبارات المركزية.

قبل ذلك وبعدها، كان الرئيس «بوش» الأب يعتز بأهم حدثيْن في مضمار السياسة الخارجية والعلاقات الدولية. وكان أولهما يتمثل بدور أميركا الفعال في حملة تحرير الكويت الشقيقة من غزو النظام الذي كان قائماً وقتها في بغداد، فيما جاء الحدث الثاني متمثلاً في تداعي وزوال «الاتحاد السوفييتي» ومن ثم انتهاء الحرب الباردة، وكان حدثاً تاريخياً بكل المقاييس.

بيل كلينتون.. رئيساً

مع هذا كله، شاءت إرادة الشعب الأميركي أن يعزف عن التجديد للرئيس بوش الأب، فقد جرّب هذا الشعب 12 عاماً من حكم الجمهوريين، ومن ثم كان اختيار الناخبين مرشح الحزب الديمقراطي الشاب القادم من أرياف «أركنساس» على نحو ما ألمحنا في صدر هذا الحديث. هكذا انفتحت أبواب البيت الرئاسي الأبيض ليدخل الرئيس الأميركي الجديد.

وكان اسمه بيل كلينتون، وتدخل في صحبته ابنته الصغيرة «سيلشي» فيما تدخل إلى جواره وهذا هو الأهم بالنسبة لنا قرينته المحامية الشابة لتحمل لقب «الأولى» فيما يتردد اسمها في طول العالم وعرضه من يومها وحتى أيامنها الراهنة.

هيلاري رودهام كلينتون

وعلى مدار الحقبة الزمنية الفاصلة بين مطالع التسعينات، وبين الفترة الراهنة، ظلت هيلاري كلينتون تحمل ألقاباً ومسميات كانت قد بدأت، كما أسلفنا، بلقب «السيدة الأولى» في ولاية أركنساس ثم في الولايات المتحدة بأسرها، وبعدها حملت لقب «السناتور» حين أصبحت ممثلاً في مجلس الشيوخ عن ولاية نيويورك فانتقلت للإقامة في ضواحيها الوادعة المترفة، إلى أن تحولت لتصبح «مرشحاً رئاسياً» ضمن مرشحي الحزب الديمقراطي في عام 2008 ومنافساً للمرشح الفائز وهو بالطبع باراك أوباما الذي ما لبث أن اختار هيلاري بعد نجاحه في ولايته الأولى لتتولي حقيبة الخارجية.

هكذا بدأت «هيلاري» من موقع محامية الأرياف إلى الموقع «رقم واحد» في مؤسسة الدبلوماسية والعلاقات الدولية للولايات المتحدة الأميركية، وهو الموقع الذي حملت صاحبته اللقب التالي: السكرتيرة. وهذا هو بالضبط عنوان الكتاب الذي نعايش طروحاته في هذه السطور.

وبالمناسبة فقد حارت برية المترجمين العرب في نقل هذا المصطلح بكل تفرعاته إلى قارئ العربية، حيث يعكس بداهة دلالات عدة على مهن شتى ما بين السكرتيرة (أو السكرتير) وهو الموظف المعاون في المكتب أو في سلك الإدارة وما في حكمه، وتلك مهنة متواضعة مع كامل الاحترام، وما بين ترجمتها إلى مصطلح «الأمين»، على نحو ما يفيد مصطلح الأمين العام للأمم المتحدة أو للجامعة العربية أو لوكالة الطاقة الذرية على سبيل المثال.

وأخيراً يأبى المصطلح الأميركي سوى أن نترجمه ليصبح «معالي الوزير» حيث أن الأعراف الرئاسية الأميركية ترى في كل وزرائها معاونين لرئيس الدولة علماً بأن ليس هناك في هذه الأعراف منصب رئيس الوزراء، فيما ينظرون إلى وزير الخارجية على أنه الوزير الأول حتى من ناحية مراسم البروتوكول ولذلك يعرفون لقبه بالكامل على أنه «وزير الدولة. (Secretory of State)

في صحبة السكرتيرة

مؤلفة الكتاب هي الأستاذة «كيم غطاس» الصحافية الإذاعية، ذات الأصول العربية من لبنان، وقد شاءت حظوظها أن تصاحب السكرتيرة معالي وزيرة خارجية أميركا في رحلاتها العديدة التي جابت فيها هيلاري كلينتون مشارق الأرض ومغاربها في مهام سياسية ودبلوماسية متنوعة، حيث كانت المؤلفة «كيم غطاس» عضواً في الفريق الإعلامي المرافق لوزيرة الخارجية الأميركية، ومن ثم فقد أتيح لمؤلفة الكتاب قدر لابأس به من النفاذ إلى كواليس السياسة وخاصة ما يتعلق بمنطقة الشرق الأوسط التي استمدت منها أصولها.

يوضح الكتاب كيف تسنى لـ»كلينتون» بحكم مسؤوليتها الوزارية أن تقطع أكثر من مليون ميل في رحلاتها السياسية على مدار الفترة الفاصلة بين تعيينها في عام 2008 وبين تركها منصبها في عام 2012 فكان أن زارت أكثر من 100 من أقطار العالم، واجتمعت إلى عدد لا يكاد يحصى من الزعماء والمسؤولين، فيما تجسدت أولى مهامها، كما يوضح كتابنا، في مهمة محورية جاءت على النحو التالي:

استعادة الثقة في السياسة الخارجية للولايات المتحدة ( ولاسيما في ضوء ما لحقها من سلبيات خلال سنوات سيطرة الجمهوريين في حقبتي بوش الابن على مقاليد الأمور، وبخاصة ما يتعلق بسيطرة فصيل المحافظين الجدد بكل ما كانوا يصدرون عنه من مواقف التخبط ومشاعر الغرور ).

السياسة والمسائل الشخصية

من هنا ترصد كيم غطاس عبر سطور كتابها كيف تحولت هيلاري كلينتون من سياسي غير محبوب، بل كانت محطاً لهجوم أجنحة اليمين في السياسة الأميركية، إلى شخصية عامة ينظر إليها الجميع بقدر لا يخفى من الإعجاب والاحترام.

استطاعت المؤلفة أن تجري 15 حواراً مع وزيرة الخارجية الأميركية على مدار السنوات التي أمضتها في متابعة نشاط الوزيرة، وخاصة ما بذلته «كلينتون» من جهود من أجل معاودة التواصل بين واشنطن والأطراف الخارجية المؤثرة على الأحداث يستوي في ذلك الأصدقاء والخصوم، ولاسيما على صعيد الشرق الأوسط، فما بالنا وقد شهدت المنطقة منذ عام 2011 تطورات ومخاضات وتقلبات بالغة العنف شديدة الخطورة انتهت كما يقول الكتاب بمأساة اغتيال سفير أميركا في بنغازي الليبية. صحيح أن المؤلفة لم تعمد إلى تفصيل مسهب أو تحليل بالغ العمق للقضايا السياسية التي عالجتها هيلاري كلينتون ولكنها أودعت فصول كتابها مجموعة من الحكايات الشخصية التي أضفت رونقاً خاصاً أدى إلى توسيع قاعدة قارئي الكتاب:

تحدثت عن «قطع الشوكولاتة الخفيفة» التي كانت بمثابة الطعام الشائع على متن طائرة الوزيرة، فضلاً عن سلطة الدجاج التي كانت طعام العشاء.

وعن الكتيبات الإرشادية للتعامل مع الساسة الصينيين، وقد سارعت إلى تسليمها لرفقاء الوزيرة أركان سفارة الولايات المتحدة في العاصمة «بكين»، عن أحدث معدات الرفاهية داخل الخيام الملكية في أقطار الشرق الأوسط.

وعن زميلها «أرشاد محمد» مندوب وكالة «رويترز» للأنباء الذي كادت طائرة الوزيرة الأميركية تقلع بدونه، لأنه، أفرط في الاستسلام إلى سِنة من النوم العميق.

أما التحولات التي كان لابد وأن تجتازها السياسة الخارجية لأميركا مع بدايات حقبة «أوباما» فتلخصها مؤلفة هذا الكتاب على النحو التالي:

«مع نهاية إدارة جورج بوش الابن، أصبح العالم بالغ الحساسية (لدرجة المرض) إزاء الدور القيادي للولايات المتحدة، ومن ثم فقد تعيّن على «كلينتون» أن تركز مهمتها على استعادة وجه أميركا الذي كانت قد فقدته على مستوى العالم. ومع سنوات القرن الحادي والعشرين، لم يعد بمقدور أميركا أن تدخل الساحة وتطرح طلباتها، بل أصبح لزاماً عليها أن تبدأ أولاً ببناء علاقات مع سائر الأطراف.

هيلاري والبراغماتية

وبديهي في تصورنا وفي تصور مؤلفتنا- أن بناء العلاقات لابد وأن يستند إلى معطيات الواقع إن لم يقم على أساس ضرورات المصالح، وهنا أيضاً نلاحظ مع المؤلفة كيف اعتمدت هيلاري كلينتون نهجاً «براغماتياً»، كما قد نسميه، بمعنى أسلوب يقوم على أساس النظرة الواقعية والنهج العملي والهدف المصلحي، قبل أن يتحدث عن الأخلاقيات المثالية أو عن الحريات الأساسية أو حتى عن حقوق الإنسان.

 

تحولات السياسة الأميركية

لا تنتقل فصول هذا الكتاب مع رحلات وزيرة خارجية واشنطن السابقة، بل مع ما طرأ على أفكارها وعلى توجهات سياسة بلدها من تحولات، ما بين ضرورات التعامل مع ما يوصف بأنه «ظاهرة الربيع» في الشرق الأوسط، إلى التعامل مع التسريبات التي كشفت عنها دوائر «ويكيليكس» إياها من أسرار الساسة ودهاليز السياسة، إلى الظاهرة المستجدة أخيراً في توجهات أميركا، وقد تمثلت في تحويل دفة اهتمامها إلى منطقة الشرق الأقصى والأقاليم الباسيفيكية المطلة على أجواز المحيط الهادئ، وخاصة ما يتصل بالصين واليابان وشبه الجزيرة الكورية وإقليم جنوب شرقي آسيا.

وإلى جانب هذه العروض الجادة لتحولات السياسة الأميركية في الآونة الأخيرة، لا ينسى الكتاب أن يعرض على الهامش طرائف إنسانية الطابع، ومن ذلك مثلاً ما سمع به أطراف فريق الساسة والإعلام المصاحب لوزيرة الخارجية الأميركية حين تقرر إضافة زيارة طارئة لمصر بغير سابق ترتيب أو إنذار، وكانت القاهرة هي المرحلة رقم ثلاثة في مسلسل الرحلة التي استغرقت ساعات طوالاً عبر الكرة الأرضية، ساعتها لم يكن قد تبقى في مطعم الطائرة الخاصة سوى النَذْر اليسير من طعام ركابها وكان عليهم من ثم أن يرضوا بشطائر ضئيلة من الجبن وبخمس ملاعق ليس إلا من الحساء المعلب لكل فرد، مع صبر يدوم ساعات إلى أن يحين موعد الوصول.

ثمة مقارنات ترد في لمحات في سطور هذا الكتاب بين وزيرات خارجية أميركا على مدار السنوات العشرين السابقة بين مادلين أولبرايت التي لم تكن متعاطفة كما ينبغي مع قضايا العالم الثالث وكان يعوّض عن ذلك شخصية وتوجهات رئيسها بيل كلينتون، ثم كوندوليزا رايس التي فاقت شخصيتها وطروحاتها شخصية رئيسها جورج بوش الإبن ذاته إذ كانت تصدُر عن رؤية المحافظين الجدد الاستعلائية وخاصة عندما طرحت وتبنت شعار «الفوضى الخلاقة».

ثم هيلاري كلينتون التي يورد كتابنا لمحات بشأن المستقبل الذي لايزال ينتظر طموحاتها، ولاسيما بعد تقاعدها مع بدايات العام الحالي من موقع وزير الخارجية، وترتبط هذه الطموحات بداهة بتطلع «هيلاري» إلى أن تكون أول «رئيسة» للولايات المتحدة حيث تدخل بذلك تاريخ بلادها بوصفها فخامة «رئيس» الدولة الأميركية رقم (45) بعد انتخابات عام 2016 وأول رئيس أميركي من الجنس اللطيف.. من يدري ؟v

 

المؤلفة في سطور

في نشأتها العائلية تجمع «كيم غطاس» (36 سنة) بين الأصول الهولندية واللبنانية.

وقد درست العلوم السياسية بالجامعة الأميركية في بيروت وبفضل أصولها العربية عملت سنوات عديدة كمراسلة لهيئة الإذاعة البريطانية (بي. بي. سي) في منطقة الشرق الأوسط، وبعدها كلفت بالعمل كمراسلة في هيئة الإذاعة البريطانية ضمن الفريق الإعلامي الذي ظل يرافق هيلاري كلينتون حين كانت وزيرة الخارجية الأميركية على مدار السنوات الأربع من حقبة الولاية الأولى للرئيس باراك أوباما.

وقد عملت المؤلفة كذلك كمراسلة صحافية وكاتبة في صحيفة «فاينانشيال تايمز» اللندنية ونالت مع فريق من زملائها الصحافيين «جائزة إيمي» الأميركية الشهيرة عن تغطية النزاع الذي اندلع في عام 2006 بين إسرائيل والمقاومة الوطنية اللبنانية.

وقد أتاح وجودها على متن الطائرة الخاصة بوزيرة الخارجية الأميركية، فضلاً عن تغطية أنشطة الوزيرة خلال المهام التي اضطلعت بها عبر السنوات الأربع السابق ذكرها، فرص المتابعة عن كثب لمتغيرات السياسة الأميركية في مجال العلاقات الدولية، وخاصة ما عملت عليه الوزيرة «هيلاري» من تبنّي متغيرات طرأت على سياسة واشنطن إزاء العديد من الشعوب والأنظمة السياسية في العالم، وفي ضوء ما تبدد من نفوذ أميركا بفعل ما ارتكبه المحافظون الجدد من أخطاء خلال حقبة جورج بوش الابن الرئاسية.

ومازالت المؤلفة تشارك بجهودها الإعلامية، سواء في الإذاعة القومية الأميركية أو في مجلة «تايم» أو صحيفة «واشنطن بوست».

 

عدد الصفحات: 336 صفحة

صاحبة المعالي.. السكرتيرة

تأليف: كيم غطاس

الناشر: هنري هولت، نيويورك الولايات المتحدة، 2013

عرض ومناقشة: محمد الخولي

Email