مشاهد جديدة من الحرب الباردة

ت + ت - الحجم الطبيعي

يتابع العالم بقلق بالغ التغيرات المهمة التي يمكن أن تطرأ على مواقف القوى الدولية المختلفة من قضية سباق التسلح النووي والحد من انتشار السلاح النووي بعد إعلان الولايات المتحدة قبل أسابيع عن سياسة أمنية نووية جديدة، تتمثل خطوطها العريضة في تنويع وتطوير ترسانتها النووية، بحيث لا يقتصر مخزونها على أسلحة الدمار النووي الشامل، وإنما تضم أيضاً أسلحة نووية تكتيكية منخفضة القدرة يمكن استخدامها ميدانياً لأهداف محددة دون المقامرة بدخول حرب نووية شاملة ورغم أن معظم المتخصصين في سباق التسلح يرون أن الرؤية النووية الأميركية الجديدة يمكن أن تطلق عنان سباق التسلح بعد 40 عاماً من جهود خفض التسلح، وأن توسيع وتطوير الترسانة النووية الأميركية وإضافة نوعين جديدين من الأسلحة النووية التكتيكية يُعد فوزاً كبيراً لأنصار الحرب الباردة وانتكاسة خطيرة لدعاة نزع السلاح وأن النتيجة المؤكدة لهذه العقيدة الأميركية سباق جديد لتسلح نووي متعدد الأطراف يمكن أن تدخله أي دولة نووية ويشكل خطراً جسيماً على أمن العالم أجمع.

ولا يكتم الأميركيون أن يكون أول دوافعهم لإصدار الوثيقة الجديدة الرغبة العارمة في كبح جماح كوريا الشمالية التي تعتبرها واشنطن أخطر الدول المارقة التي تملك برنامج تسلح نووياً يكاد يحقق جميع أهدافه، يُمَكن صواريخ كوريا من حمل سلاح نووي إلى أي من المدن الأميركية على أرض الولايات المتحدة الدولة الأم بما في ذلك العاصمة واشنطن، خاصة أن كوريا الشمالية باتت على مسافة أشهر من تحقيق جميع أهدافها بعد تجربتها الأخيرة لصاروخها الجديد من طراز هواسونج 15 الذي يمكن أن يصل إلى أبعد نقطة في أميركا.

ولا تعترف الإدارة الأميركية بمحاولة التقارب التي تبذلها الكوريتان الشمالية والجنوبية، وتعتبر هذه الجهود أقرب إلى أن تكون عملية مداهنة لا تغير شيئاً في وضع كوريا الشمالية باعتبارها دولة مارقة يتحتم نزع سلاحها النووي، وأن على الولايات المتحدة أن تواجه حقائق الموقف لا أن تخفي رأسها في الرمال، بينما نقلت وكالة أنباء كوريا الشمالية على لسان مسؤولين كوريين، أن الوثيقة النووية الجديدة تكاد تكون بمثابة إعلان الحرب على العالم أجمع، وأن الرئيس ترامب بهذه الوثيقة يسعى لحرب نووية.

الكابوس الذي يخشى الأميركيون تكراره، يتمثل في إمكان استخدام موسكو قواها العسكرية التقليدية في تحقيق كسب عسكري خاطف، كما حدث في منطقة البلطيق، ثم التهديد باستخدام أسلحة نووية لمنع أي محاولة لاستعادة هذا الكسب الخاطف، ولهذا السبب على وجه التحديد تسعى الولايات المتحدة لإيجاد قدرة نووية تكتيكية تروع الروس عن هذه المقامرات! وفي النهاية فإن العقيدة الأميركية الجديدة سوف تستدعي دون شك مرحلة سباق نووي تهدد أمن العالم.

وفي إطار رؤيته لسياسة أمنية نووية جديدة تعطى الولايات المتحدة المزيد من القدرة على مواجهة التقدم النووي الروسي، ومروق كوريا الشمالية الشديد التي تتحدى الجميع، أعلن الرئيس الأميركي عن توسيع وتطوير ترسانة أميركا النووية «7 آلاف رأس نووى» وبناء قدرة نووية تكتيكية قوامها أسلحة نووية منخفضة القدرة، يمكن استخدامها في الميدان، ويمكن إطلاقها من الغواصات النووية أو يحملها صاروخ نووى منخفض القدرة أو قاذفات جوية يمكن أن يتوسع انتشارها، والواضح أيضاً أن الأولوية في الوثيقة الأمنية النووية تكمن في الاستعداد النووي الأميركي لمواجهة روسيا والصين وليس الحرب على الإرهاب !

ويؤكد الروس أن الوثيقة الأميركية الجديدة تستهدفهم أولاً وتعيد سباق التسلح إلى ذراه بدلاً من خفضه، وتوجه اتهامات غير صحيحة للروس، بينما تتعامل روسيا بحيدة ومسؤولية مع التزامها الكامل بكل الاتفاقات التي تم توقيعها، وكذلك الصين التي تعترض على الوثيقة الجديدة لأن السلام والتنمية أصبحا التوجهين الأساسيين في العالم أجمع، لا ينبغي الرجوع عنهما إلى مناخ الحرب الباردة وسباق التسلح، وأن على الولايات المتحدة التي تملك أكبر ترسانة نووية في العالم، أن تضطلع بمسؤولياتها في خفض التسلح ونزع السلاح النووي بدلاً من توسيع وتطوير ترسانتها النووية.

ويُحّمل الأوروبيون الروس جزءاً مهماً من مبررات صدور الوثيقة الأميركية الجديدة، بسبب احتلالهم جزيرة القرم الذي أفقدهم ثقة الجميع، وإن كان الأوروبيون لا يرون الحل الصحيح في العودة إلى سباق التسلح، وأكثر الدول انزعاجاً من سياسات ترامب الجديدة هي روسيا والصين وكوريا الشمالية وإيران، بينما تؤكد الولايات المتحدة أن إيران تتبع سياسة مخادعة، لأنها لا تزال تحتفظ بكل قدراتها التكنولوجية التي تمكنها من صنع سلاح نووي بعد عام واحد من صدور قرارها بذلك، فضلاً عن مواصلة إيران الاستثمار في الأسلحة البيولوجية والكيماوية !

Email