بين خطة للسلام وصفقة للحرب

ت + ت - الحجم الطبيعي

في كلمته الأخيرة أمام مجلس الأمن، قدم الرئيس الفلسطيني محمود عباس خطة تفصيلية، لكيفية تحقيق التسوية الفلسطينية والآلية اللازمة لذلك، وقياساً بالحقوق والمطالب التاريخية للشعب الفلسطيني، تعد هذه الخطة منخفضة السقف، ولعلها جاءت نتاجاً لمقولة أن التسوية هي فن الممكن في حده الأدنى: مؤتمر دولي فاعل تحت رعاية الأمم المتحدة، تكون مرجعيته قرارات الشرعية الدولية ذات الصلة، وبمشاركة واسعة تشمل الطرفين المتصارعين والقوى الإقليمية والدولية المتنفذة وعلى رأسها أعضاء مجلس الأمن والرباعية الدولية، والاعتراف بدولة فلسطين وعاصمتها القدس الشرقية، التي ستكون مدينة مفتوحة لاتباع الديانات السماوية الثلاث، ورفض انفراد الولايات المتحدة بالوساطة بعد اعترافها بالقدس عاصمة لإسرائيل.

لا يستطيع الرئيس عباس ولا أكثر الساسة الفلسطينيين مرونة، الهبوط عن هذا السقف، وعملاً بنصيحة معظم الفواعل الدوليين الكبار، لم ينبذ الفلسطينيون الدور الأميركي تماماً في عملية التسوية، وإنما رفضوا وحدانية هذا الدور، بعد أن أبدت إدارة ترامب انحيازها السافر لإسرائيل.

لم تكتف إدارة ترامب بهذا الموقف السلبي، وإنما حاولت أيضاً سحب أعضاء مجلس الأمن إلى أرضية ما يسمى بالصفقة الأميركية للتسوية، والتي ملت الدنيا بأسرها من التلصص على محتواها دون أن يهتدي أحد إليه على وجه اليقين.

جرت هذه المحاولة سريعاً في اليوم التالي لحديث الرئيس عباس، حين التقى فريق ترامب المعني بالطبخة بأعضاء مجلس الأمن بهدف «اطلاعهم على الخطة الأميركية بالمفاوضات بين الفلسطينيين والإسرائيليين».

المدهش أن أعضاء المجلس الموقرين خرجوا من هذا اللقاء مثلما دخلوه، وإن سئل اليوم أحد منهم عن فحوى الصفقة أو الخطة الأميركية محور الاهتمام والرجاء، فإنه قطعاً لن يضيف جديداً فارقاً إلى ما هو متوقع منها بالتخمين أو مسرب عنها عمداً. ومن ذلك، التشكيك الأميركي في نجاح مؤتمر السلام الذي ينادي الفلسطينيون به.

والاعتقاد الأميركي بأن الطرفين الفلسطيني والإسرائيلي سيحبان بعض الأمور في الخطة وسيكرهان البعض، وأن الخطة لن تكون منحازة لإسرائيل، وستشمل نقاطاً يصعب عليها القبول بها.

هذا ما باح به الأميركيون لأعضاء مجلس الأمن، فأين المفاجأة؟

لا معنى لمثل هذا اللقاء في توقيته وما دار به من حديث مبتسر، إلا التشويش على العرض الفلسطيني، والسعي إلى طي صفحة ما قد يكون قد تخلف عن كلمة فلسطين من آثار إيجابية، وإعادة الجميع إلى تيه الصفقة الأميركية، التي صارت لغزاً.

بعض المسؤولين الأميركيين تأثروا بلغة رئيسهم التي تفتقد للياقة، فقالوا إن الصفقة موضع الصياغة والإعداد، لن تكون للمناقشة وإنما للتطبيق.

ونكاد نجزم بأنه إذا ما أخذت واشنطن بهذا التصور المتعجرف العنيف، فسوف تقع وتوقع معها آخرين في الخطيئة ذاتها، التي اقترفها عالم الغرب من قبل.

كان بوسع المسؤولين الأميركيين إلقاء مزيد من الضوء على نقاط يجري تداولها والاستفسار عن مدى صحتها بالفعل.

،مثل مدى صحة اقتراح وجود عاصمة فلسطينية كبديل من القدس، التي ألقاها ترامب بجرة قرار في حجر إسرائيل، والموقف من الاعتراف بحدود 1967، وحجم الأراضي التي تزمع الصفقة طرحها للمبادلة بين الدولتين، وهل ما زالت واشنطن معنية بحل الدولتين، والموقف من حق العودة الفلسطيني، لكن شيئاً من هذه القضايا الجوهرية، الثقيلة والمرهقة، لم يتم التطرق إليه.

الحق أنه إن كانت تفاصيل الخطة المزمعة تنطوي على ما قيل حولها حتى الآن، فإن المعنيين بالمصير الفلسطيني في مشارق الأرض ومغاربها، ينتظرون وصفة مثالية لديمومة الصراع وليس خطة لتسويته بشكل معقول أو مقبول فلسطينياً، لقد فعلوها ذات مرحلة، حين كان الفلسطينيون ومحيطهم القومي الإقليمي في أضعف حالاته، ولاحقاً كان الفشل هو المآل.

يقول التاريخ إن التسويات المفروضة أو المملاة بالسيف لا تصنع سلاماً، وعلى من يشك في ذلك مراجعة سياق الحربين العالميتين، وكيف أن افتقاد تسويات الحرب الأولى للإنصاف والعقلانية، هو الذي مهد السبيل أمام اندلاع الحرب الثانية.

Email