الإنسان والمعنى

ت + ت - الحجم الطبيعي

الإنسان هو الوجود الإنساني، وأقصد بالوجود الإنساني وجودي أنا وأنت وهو وهي ونحن وهم. وجود الكائن الفرد - الشخص يعني وجود كائن واعٍ لذاته، ولكي يتعرف الكائن إلى وعيه الذاتي عليه أن يجيب عن سؤال يطرحه على نفسه من أنا؟ وسؤال من أنا يفضي إلى تحديد معنى وجودي. و ما من إنسان فرد إلا وله معنى لوجوده، حتى ولو لم يكن واعياً لهذا المعنى. لأن معنى وجود الكائن قائم في سلوك لتحقيق معنى ما.

ها أنت تبحث عما يشدك إلى الحياة، تطرح أهدافك، وتحمل آمالك باحثاً عن طرق شتى لتحققها. إذاً أنت إنسان ذو معنى، وجودك ذو معنى. إن لم تكن كذلك، فأنت شيء جامد لا يفكر. كل معنى لوجودك معنى أنت خالقه لذاتك. المعنى يجعلك كائناً تعيش (من أجل). تضعك هذه الـ (من أجل) في قلب الغايات. عند هذا الحد من وجودك لا دخل لنا في طبيعة غاياتك ولا في تقويمها، المهم أن يكون لديك معنى واضح أمام ذاتك، وتكون الطريق التي تسلكها معروفة من قبلك.

الآن انظر إلى نفسك، ها أنت تريق ماء وجهك لتحقيق غاية ما، ها أنت تكذب لأنك ترى في الكذب وسيلة ناجعة للفوز بما تريد وترى في الصدق عائقاً أمام غاياتك. تتخلى عن بقايا قيم كانت تحدد سلوكك، وعن معنى للشرف لم يعد له مكان في حياتك. إنك تفعل كل ذلك «من أجل»، ها أنت قد جعلت لوجودك معنى، ها قد أصبح وجودك وجوداً ذا معنى وضيع.

تأمل ذاتك، ها أنت زاهد بالأشياء وبالثروة وبالسلطة والجاه. زاهد بها وأنت قادر عليها قادر على الحصول عليها. لأن الزهد زهد عن مقدرة. ويعود زهدك بها إلى استخدامك وسائط غير أخلاقية للحصول عليها، فالأشياء والسلطة والجاه والثروة ليست بالمعرة في حد ذاتها، وها أنت تأنف أن تقدم أي تنازل ولو تحية غير نابعة بصدق من ذاتك. بل أنت ساعٍ لهدف عظيم وتعمل من أجله. ها قد أصبح وجودك وجوداً ذا معنى عظيم سامٍ تسلك من «أجل تحقيقه». ها أنت كائن لا مبالٍ بشيء، تنظر شذراً إلى العوالم كلها بعد أن خبرتها -الطبيعة والمعرفة والإنسان.

ها أنت ساخر من هذا الوجود. ناظر إليه بوصفه كوميديا، غير مكترث بحياتك لأن لا شيء يشدك إلى الحياة، إن وجود كوجود عدمي. وأنت تريد أن تبقى على هذه الحال وتعمل من أجل هذا. ها نحن أمام ثلاثة أشكال من معاني الوجود الإنساني: معنى وضيع، ومعنى سامٍ ولا معنى لأن اللا معنى معنى.

قد نجد هذه المعاني ظاهرة واضحة نظيفة لدى هذا الكائن الإنساني أو ذاك. وقد نجدها متداخلة في حياته. قد ينتقل الإنسان في شروط ما من معنى إلى آخر. حين يكون وجودك الذاتي آمالاً ضيقة وأنانية صرفة فإن أناك لا محال - منهزم أمام إغراء الحياة المبتذلة. وحين يكون وجودك الذاتي آمالاً عظيمة تنتصر على الوجود المبتذل يصبح وجودك قدوة. أما حين يكون وجودك بلا ملامحٍ ولا آمال لديك أصلاً يصير وجودك وحيداً منتظراً العدم.

هذا التجريد لمعنى الوجود عند الشخص لا يستنفد تعينات المعاني المتعددة للأفراد المختلفين في الطبائع والوضع الاجتماعي والمعيشي والمهني الخ. فمعنى الوجود الرئيس عند الشاعر، أقصد وجوده، حضوره في الحياة بوصفه شاعراً، إنه يعيش من أجل الشعر، بمعزل عن شروط تحقيق حياته اليومية. لكن الشعر وحده لا يستطيع أن يلغي المعاني الأخرى لوجود الشاعر الذي يحتل مكاناً مرموقاً في وعي الناس، بل إن المعنى الكلي في الشعرية التي يعيش من أجلها تحمله على أن يسمو بالمعاني الأخرى للحياة.

وقس على ذلك معاني الوجود عند المبدعين أجمعين. ولعمري إن أخطر ما يواجه الإنسان العادي هو حمل صنّاع المعاني السيئة الإنسان العادي على أن يكون معنى حياته كما يريدون هم. فعنصرية الألماني هتلر الموجودة في كتابه «كفاحي» كان لها أثر سيئ على وعي الناس العاديين البسطاء في ألمانيا.

فيما إنسانية فلسفة كانط التي عرضها في نظرية الواجب الأخلاقي لم تلاق من الرواج ما لاقته فكرة العرق الآري المتفوق. فكان هو صاحب القول العظيم: «لو أن سعادة البشرية كلها كانت وقفاً على قتل طفلٍ واحد لكان هذا الفعل لا أخلاقي». ولكن هذه الصحية الأخلاقية لم تنجب بعد المعنى السامي للحياة.

والحق إن الإنسان المعاصر اليوم يتعرض لشتى أنواع الخطابات التي تحمل معاني متنوعة للحياة، وذلك عبر وسائل التواصل التي أصبحت جزءاً لا يتجزأ من حياة الفرد. وهذا يطرح علينا السؤال الصعب: كيف للبشرية أن تتقي شر المعاني التي تنحدر بالإنسان؟

Email