الوقف الثقافي.. استثمار حضاري دائم

ت + ت - الحجم الطبيعي

تتنامى الحاجة يوماً بعد يوم لتفعيل الثقافة وجعلها جزءًا حيوياً (لا شكلياً) من اهتمام الفرد والمجتمع والحكومات والنخب الثقافية والاقتصادية، فالبناء الثقافي يحتاج وباستمرار إلى ترويته وتغذيته بالقرارات الشجاعة والتمويل حتى يؤتي أُكله ُبتنمية مجتمعية تنتج (الإنسان الواعي المثقف الذي يعرف ماله وما عليه والذي يساهم في إحداث التطور والتقدم لمجتمعه الصغير وللإنسانية جمعاء).

الذي أردته من هذه المقدمة هو أن أعرج إلى دور (الوقف الثقافي) الذي مازال محدوداً وضيقاً في مجتمعنا العربي والإسلامي بشكل عام، رغم أن المطلع على الوقف تاريخياً سيجد كم كانت الدولة العربية الإسلامية وعلى مر العصور قد استفادت منه في بناء حضارتها والحفاظ على هويتها.

وتعريف بسيط ومختصر يمكن أن نقول إن الوقف لغةً هو الحبس، يقال وقفت الدار وقفاً: حبستها في سبيل الله، وهو يعني حبس الأصل وتسبيل الثمرة، أي أن الوقف يقوم على التصدق بمال قابل للبقاء والاستمرار والاستفادة من منافعه المتولدة على الدوام في وجه من وجوه البر والخير.

وقد كان أول وقف في الإسلام هو وقف (سبع حوائط (بساتين) التي أوصى بها مخيرق اليهودي إن قتل فهي لمحمد (ص) يضعها حيث أراد الله تعالى، فقتل يوم أحد وقبض النبي (ص) تلك الحوائط السبع فتصدق بها أي أوقفها.

ويذكر المؤرخون: ما بقي أحد من أصحاب رسول الله (ص) له مقدرة إلا أوقف، وكان دافعهم هو التقرب إلى الله تعالى، تيمناً بقوله تعالى: (لن تنالوا البر حتى تنفقوا مما تحبون) وقوله تعالى: (إن الله يأمر بالعدل والإحسان) وتعرف العرب الإحسان بأنه تقديم العون إلى الغير وهو من أسمى الفضائل والصفات الإنسانية الحسنة التي إلى اليوم ينادي بها المصلحون والخيرون.

واستمر مفهوم الوقف في الدولة الإسلامية ليأخذ أشكالاً متعددة من أعمال الخير فقد تم وقف الجوامع (وكان من أغراضها تعليم اللغة والقرآن الكريم ومبادئ الشريعة) وتم وقف المستشفيات والآبار ومن ثم المدارس، وكان للوقف دوره المهم في التأثير على الحياة الاجتماعية والثقافية والنهوض الحضاري للعرب والمسلمين.

كما عرف الغرب مفهوم الوقف وبصيغ مختلفة تصب في معنى العمل الخيري الذي أنشأوا له مؤسسات مستقلة ومدعومة من الحكومات والأفراد الميسورين، وقد تزايد ريعه في الغرب خلال السنوات الأخيرة حتى بلغ 2 تريليون دولار.

إن نظام الوقف بشروطه وأحكامه وثمراته ومجالاته يعتبر عملاً مؤسسياً، بل هو مؤسسة المؤسسات جميعاً كما يصفه البعض.

نحن اليوم في زمن تتشابك فيه روافد الإعلام الرقمي ومعطياته، في ظل عولمة كاسحة للهويات والحدود والقيم الأخلاقية والتربوية الرصينة؟

ولابد من الاستثمار في الوقف الثقافي الذي لا يكاد يذكر في بلداننا العربية ولا يقارن بما كان عليه في العصر العباسي مثلاً أو بالمؤسسات الخيرية في أوروبا التي تدعم الجامعات وطلبة العلم.

ترى لماذا تحجم النخب الاقتصادية وأصحاب رؤوس الأموال عن بناء المؤسسات الثقافية الوقفية أسوة ببناء الجوامع والمستشفيات؟ أليس العمل الثقافي حصانة للفكر من الانجراف وراء التيارات المشبوهة والدعاوى المضللة؟ أليس بناء الوعي السليم للأجيال دعامة لبناء المستقبل الذي ننشده جميعاً؟ أليس الوقف الثقافي منبراً لعمل الخير وإشاعة روح المحبة والتعاون بين أفراد المجتمع وفي كل ذلك مرضاة الله تعالى؟

لو ألقينا نظرة على المؤسسات الوقفية الثقافية في دولة الإمارات مثلاً لوجدناها لا تزيد على أصابع اليد الواحدة، وهي مؤسسات ثقافية أوقفها لخدمة الثقافة رجال أعمال مثقفون أفاضل مثل مؤسسة العويس الثقافية ومركز جمعة الماجد الثقافي ويعد رواق عوشة بنت حسين الثقافي الذي قمنا بتأسيسه عام 1992 في دبي معلماً ثقافياً وقفياً كذلك وقد حصل على علامة الوقف من مركز محمد بن راشد العالمي للوقف والهبة تقديراً لمساهمته المجتمعية كنموذج يحتذى به لنشر الثقافة من خلال الوقف.

لقد صرح صاحب السمو الشيخ محمد بن راشد آل مكتوم نائب رئيس الدولة رئيس مجلس الوزراء حاكم دبي (رعاه الله )عند اعتماده قانون تنظيم الوقف والهبات في دبي بما يلي: أن مؤسسات الوقف شريك الحكومات في تنمية المجتمعات، ولها دور كبير في المساهمة بتلبية الحاجات المجتمعية المختلفة. وقال: نريد بحوثاً علمية وطبية ممولة بالوقف، نريد برامج ثقافية وبيئية ممولة بالوقف، نريد أن ندعم حاضنات الأعمال والمشاريع الشبابية بالوقف، القطاع الخاص ورجال الأعمال مساهمون فاعلون في تنمية المجتمع) في ضوء كل ما ورد هل سيأخذ الوقف الثقافي الاهتمام المطلوب من النخب الاقتصادية وأصحاب رؤوس الأموال؟ سأكون متفائلة ما دام الهدف هو خدمة الوطن والأجيال.

Email