نفط المستقبل

ت + ت - الحجم الطبيعي

في كلمته التي ألقاها في جلسة افتتاح الدورة السادسة للقمة العالمية للحكومات 2018 ، وصف معالي محمد القرقاوي وزير شؤون مجلس الوزراء والمستقبل البيانات والذكاء الاصطناعي بأنهما نفط المستقبل، وهذا يجعلنا نتساءل سؤالاً مهماً إلى أين يتجه العالم؟ وإلى أين سيصل في السنوات المقبلة؟

إن ما نشهده الآن من تطور في التكنولوجيا والعلوم بشكل عام لهو طفرة بشرية ربما لم تحدث في التاريخ، على الأقل في التاريخ الحديث، وربما يكون التطور التكنولوجي والذكاء الاصطناعي هو العامل الأساسي لهذه الطفرة، وكل ما طُوِّر وما سيطور في المستقبل سيكون بسبب هذه التكنولوجيا التي سهلت الكثير من الأمور إلى أن وصلنا لمرحلة أصبح ليس من المستحيل أن نجد روبوتاً ذكياً يخاطبنا بمشاعر وأحاسيس بخلاف التواصل العقلي والذهني، فالفرضيات والبرمجيات الحديثة وصلت لأن تُبرمج هذه الآلات لتحاكي الواقع الذي يتطلب تحليل البيانات والمعطيات تحليلاً عقلياً وأخرى عاطفياً للوصول لإجابات تناسب الواقع البشري المجبول على هاتين المعطيين.

العالم يذهب إلى المستقبل بسرعة هائلة جداً فقطار اليوم أو حتى صاروخ اليوم سريع جداً واللحاق به أمر غاية في الصعوبة، وهذا على المستوى الشخصي فما بالكم عن قياسه على المستوى الحكومي والمؤسسي، إذ تُعتبر مواكبة التطورات واستخدام كل ما هو حديث وإنزاله منزلة التطبيق هو تحدٍ كبير أمام الحكومات العالمية، فالمعايير التي كانت احترافية قبل سنوات أصبحت اليوم هي نفسها معايير مختلة ويتخللها الخطأ في الكثير من الجوانب، ولهذا تصارع حكومات اليوم لتصبح حكومات مستقبلية قادرة على محاكاة هذه التطورات وتستعد لطفرة جديدة من العلم والعلوم التي ستصبح بالمستقبل بترولاً عقلياً يستطيع أي مرء أو حكومة أن تمتلكه إذا ما طورت من نفسها ومن سياساتها الحالية لتواكب ما سيحدث في المستقبل.

ربما يستغرب البعض لماذا وصف معالي محمد القرقاوي البيانات على أنها بترول المستقبل، وهو الرجل الذي يُعنى بالمستقبل ومواكبة حداثته وتطوراته، ويعمل جاهداً للتنسيق مع كافة المؤسسات المعنية المحلية والعالمية لنستعد لنكون ممن يمتلكون بترول المستقبل، ولكي نفهم أكثر علينا أن ندرك أن في هذا العالم شركات كبيرة مهمتها الأساسية هي جمع البيانات، بيانات عن كل شيء، ما نحب وما نكره بيانات عن دوافع الإنسان وروادعه، ما يجمع وما يطرح، ما يقال وما يكتب، بيانات رياضية وأخرى عاطفية، بيانات عن الإنسان والطبيعة والكواكب والمجرات وعلاقتهم ببعضهم البعض، والكثير الكثير من البيانات التي تساهم في بناء الذكاء العاطفي أو الذكاء الاصطناعي الذي سيمكن الروبوتات من اتخاذ القرارات الصحيحة وفقاً لهذه البيانات، ولهذا وصفها معاليه بالبترول المستقبلي لما لها من أثمان باهظة مادياً أو علمياً في المستقبل، فعلى جودتها وتنوعها ودقتها ستبنى الكثير من المشاريع الذكية.

عندما تكتمل هذه البيانات في أحد الجوانب العلمية؛ مثلاً الطب، فسيصبح الرجل الآلي قادراً على تشخيص الأمراض وبإمكانه إجراء عمليات جراحية معقدة، بنسبة خطأ 0%، سيتمكن أيضاً من إدارة سجلات المرضى ومتابعة حالتهم الصحية وتوقع تطورات الحالة المرضية في المستقبل وفقاً لنسب دقيقة جداً جداً، فكل شيء مدروس دراسة عميقة وتنفذ على أرض الواقع دون أدنى احتمال للخطأ.

من أهم البيانات التي تجمع اليوم هي أسباب حوادث السير والكيفية التي تتم بها هذه الحوادث، والتي تستخدمها شركات تصنيع السيارات الذكية لكي تبرمج سياراتها لتفادي مثل هذه الأخطاء، فتخيلوا كيف سيصبح حال شوارعنا إذا أصبحت جميع السيارات والآليات التي تسير عليه يتحكم بها تكنولوجيا الذكاء الاصطناعي، حينها ستصل نسبة الحوادث لقرابة 0%، وسيصبح الحادث المروري من الأمور النادرة التي تستدعي النقاش في اجتماعات الأمم المتحدة، أو تجبر بعض الحكومات لتقديم استقالتها فحدوثه كان بسبب خطأ فني في معايير الشوارع وعدم مطابقتها للمواصفات والمقاييس.

الحكومات الذكية هي من تقوم ببناء قواعد بيانات عن كل شيء في الحياة سواء علوم حياتية أو هندسية أو طبية.. الخ، فهذه البيانات هي البترول الذي ينضج مع استمرارية التطور ليصل في المستقبل القريب ليصبح بترول العالم، فكلما امتلكت قواعد بيانات ستقترب من الوصول لبرمجة دقيقة لا تحتمل الخطأ، وستصبح رائداً في الكثير من المجالات، وهنا علينا الاعتراف أن الصين من أكثر دول العالم التي تقوم ببناء هذه الإحصائيات والبيانات فقد أعلنت أخيراً أنه بحلول 2020 سيتم العمل بنظام ما عُرف «الأخ الأكبر» والذي يستخدم خوارزميات وبيانات معقدة تمكن نظام المراقبة من معرفة الأشخاص من وجوههم ولو تجمع 3 ملايين منهم في مكان واحد، وسيقوم هذا النظام بتقييم المواطنين وفقاً لمنهجهم السلوكي، هل تتخيلون حجم البيانات التي بُني عليه هذا النظام!.

هذا هو المستقبل بيانات تبنى عليها احتمالات، ومن ثم ترسم سيناريوهات افتراضية للوصول لبرمجيات قادرة على التحكم بالآلات والروبوتات الحديثة وبالتالي الوصول لمنظومة لا تحتمل الخطأ أبداً لينعم البشر براحة أكبر في حياتهم، صحيح أنها معقدة لكنها ستحميهم من الكثير من المخاطر، فيصبح التنقل سريعا جداً وأكثر أماناً، وسيصبح الطب متطوراً لا يعرف المستحيل، وستصبح التكنولوجيا والذكاء الاصطناعي هو المحرك الأساسي لحياتنا.

الحكومة الإماراتية تبني بترولها المستقبلي على هذا النهج وعلى هذه السياسة، فالمستقبل سيشهد تطورات كبيرة، وقفزة نوعية في جميع مناحي الحياة، وإن كان هناك ما ينقصنا فهو إيجاد مؤسسة وطنية تعنى بجمع البيانات وأرشفتها فهي بترولنا المستقبلي وعلى ما يوجد فيها سيبنى المستقبل، وكلما كنا قادرين على جمعها وبناء قواعدها كلما ضمنا مستقبلاً لأجيالنا.

Email