موضوعية التواصل

ت + ت - الحجم الطبيعي

حينما يمتدح أحدنا نفسه، فقد سقطت نصف موضوعيته، لأن شهادة المرء بنفسه مجروحة. والأمر نفسه ينطبق على المؤسسات. ومهما انتقينا من حجج، يبقى قبول الناس لآرائنا على مضض، وربما على سبيل المجاملة، وإن لم يكن مصيره السخرية والتندر خفية لاحقاً.

من هنا، يستغرب المرء حينما يجد تقريراً كاملاً يمتدح فيه المسؤول مؤسسته، وينسى أن يشير إلى مؤشرات أداء أو تقارير إقليمية ودولية. في بريطانيا، على سبيل المثال، كل المدارس الحكومية، تقيم على مسطرة واحدة، بتقارير Ofsted، وهي على غرار فكرة مكاتب التدقيق الدورية في عالم البزنس.

فتقارير «أوفستد» المستقلة، تمنح المدرسة تصنيفاً، مثل «فاقت التوقعات» أو «جيدة» أو «دون المتوقع»، بل وتشرح لكل ولي أمر بتقرير مبسط من بضع صفحات، برسومات الغرافيك، معاني تقييم المدرسة، ومدى بعدها أو قربها من المعدل العام المقبول في المملكة المتحدة.

هنا، ليس أمام المدرسة أي خيار بأن تتواصل مع الآخرين، فتقول من دون موضوعية: «نحن الأفضل» أو «الأول» أو «الأكثر إقبالاً من الطلبة»، لأن القانون وضع أمامها خياراً موضوعياً واحداً، يمكن أن ينسف كل الكلام الإنشائي السابق، وهو وضع تقييم «أوفستد»، من كلمة واحد في إعلاناتها، مثل «مدرستنا فاقت التوقعات».

والأمر نفسه ينطبق علينا في بحوث العلوم الإنسانية، فحينما يتحدث أحد عن شخصه، كأن يقيم نفسه في أسئلة (معيارية)، يصف فيها أسلوبه القيادي أو مدى تفويضه أو تعاونه أو مآزرته للعاملين معه، كل ذلك قد يعد أقل موضوعية، مقارنة برأي المرؤوسين به، الذي يعتبر تقييمهم لمديرهم أكثر موضوعية من رأي المسؤول بنفسه.

ولذا، ففي عالم الاستشارات، نميل نحو خيار معرفة رأي أكثر من شخص في القيادي، مثل رأي مسؤوليه، ومرؤوسيه، وأقرانه، وربما المتعاملين معه من خارج المنظمة، لنكون صورة أكثر موضوعية عن أداء هذا الإنسان. وهو توجه ازدادت وتيرته بصورة ملحوظة في الآونة الأخيرة في القطاع العام والخاص، لمعرفة حقيقة أداء الكوادر البشرية.

فبعض القياديين لديه مقدرة تواصل فائقة على بهرجة أدائه المزعوم أمام القيادات العليا، المستند أصلاً على جهود «المقموعين» في إدارته، ليظهر هو فقط في الصورة. وينسى أن العالم كله يتجه باتجاه العمل الجماعي.

من ذلك، قاعات الدراسة المتقدمة، التي تخلت عن فكرة السطور المواجهة للمعلم، إلى الطاولات الدائرية، لأن العمل الجماعي صورة مصغرة لمعترك الحياة. ولم يعد نقيصة أن تقول للآخرين أنا وهؤلاء نجحنا في عمل كذا، بل هذا ما يبرر بموضوعية، كيف تم إنجاز مشروع هائل مثل هذا في فترة زمنية قياسية.

وأكاد أجزم أن أكثر خطأ شائع، يبرز حينما يخلط الناس بين العاطفة والموضوعية أو العقلانية في تواصلهم مع الآخرين. فالمؤرخ الفرنسي «غوستاف لوبون»، الذي وُصف بأنه «المستشرق الذي أنصف العرب»، قد قال ذات مرة «إن المحاجات العقلانية، تفشل عندما تقع في صدام مع المشاعر والعواطف.. لذلك، تستمر الخرافات لقرون، رغم تناقضها مع أبسط حدود المنطق».

وهو كلام بالصميم. لأننا أصبحنا في أمس الحاجة إلى صوت العقل، لا سيما أننا بتنا لا نكاد نسمع على الشاشات الصغيرة والكبيرة، وفي الحوارات العامة، النقاش الموضوعي المُدَعم بالحجج الدامغة، أو التي تدفعك للتأمل العميق في ما يتناهى إلى أسماعنا.

وشخصياً، أؤمن إلى حد كبير بالرأي القائل، إن علو الصوت من دون مبرر، دليل ضعف الحجة والموضوعية، وهذا ما يجدر بنا جميعاً الانتباه إليه، لأنه في غمرة النقاش المحتدم، لا نزيد سوى الطين بلة، بترويج نماذج سيئة من التواصل الشفهي أو المكتوب، البعيد كل البعد عن الموضوعية.

 

 

Email