لا ضمانات بعد اليوم

ت + ت - الحجم الطبيعي

خاضت السياسة الفلسطينية في عملية التسوية السلمية مع إسرائيل، من خلال آليتي مدريد وأوسلو قبل ربع قرن، محفوفة بمحددات غير مواتية ذاتياً وعربياً ودولياً، إلا أن صانع القرار الفلسطيني اجتهد للحصول على أفضل الممكن بين يدي تلك المشاركة. نفهم ذلك من رسائل الضمانات الشفاهية والمدونة؛ التي قدمها جيمس بيكر وزير الخارجية الأميركية في عهد جورج بوش الأب للجانب الفلسطيني، عبر جولاته المكوكية بين المعنيين أثناء الإعداد لمؤتمر مدريد الأول عام 1991، وقتذاك، تعهد العراب الأميركي بما يلي:

* ستجرى المفاوضات على أساس قراري مجلس الأمن رقمي 242 و338 ومبدأ الأرض مقابل السلام.

* لا تحبذ الولايات المتحدة قيام دولة فلسطينية، ولكنها ترفض سيطرة إسرائيل على الأراضي المحتلة عام 1967 أو ضمها لهذه الأراضي.

* يجب أن تشمل التسوية الحقوق السياسية المشروعة للفلسطينيين، وسيطرتهم على القرارات السياسية والاقتصادية والقرارات الأخرى التي تمس حياتهم.

* يخضع مستقبل القدس للتفاوض، ويكون من حق فلسطينيي شرقي المدينة المشاركة في التصويت في انتخابات تشكيل الحكم الذاتي الانتقالي.

* رفض أي تصرف أحادي لفرض حلول بصورة مسبقة. والمفاوضات وحدها سبيل التوصل إلى الحلول.

* معارضة النشاط الاستيطاني في الأراضي المحتلة عام 1967 باعتباره عقبة في طريق السلام.

كان هاجس بيكر هو حشر العرب والإسرائيليين في مؤتمر دولي شكلي تماماً، ومنح كل طرف منهم ما يرضيه من الوعود، دون التخلي قيد أنملة عن المبدأ الاستراتيجي الإسرائيلي؛ القاضي بالتفاوض المباشر مع كل طرف عربي على حدة. وحين سئل عن مغزى مدريد أجاب حرفياً «لسنا بصدد مؤتمر دولي يملك فرض آرائه، ولا في وارد آلية تتدخل في المفاوضات بأية صورة. الهدف ببساطة هو حمل الأطراف على الجلوس وجهاً لوجه لمعالجة خلافاتهم».

لم يكن معنى ذلك سوى إيداع الأطراف العربية، ومنها الفلسطينيون، رهناً لموازين قوى مختلة لصالح إسرائيل. والأهم هو إمكانية تنصل الأخيرة من أي التزامات أو «ضمانات» تم التعهد بها من أي طرف ثالث أو وسيط. ومثل ذلك يمكن أن يقال عن المبادئ والمرجعيات الحاكمة للتفاوض، مثل القرارين 242 و338 والأرض مقابل السلام ومبادرة السلام العربية وخريطة الطريق ودولتين لشعبين، التي ظل ذكرها في الديباجات والكلمات الافتتاحية والمنتديات الإعلامية؛ بلا أصداء حقيقية على طاولات التفاوض.

لا نستبعد أن المفاوض الفلسطيني كان على دراية بهذه التعميمات. لكنه حرص باستمرار على تلقي الضمانات الأميركية، من باب اليقين بأن الولايات المتحدة هي القطب الدولي الوحيد القادر على ممارسة دور فاعل في لي عنق شريكها الإسرائيلي، والعشم في تخليها عن الوساطة الشكلية نحو إلزام هذا الشريك بما ورد في هذه الضمانات.

يؤشر إلى ذلك الرفض الفلسطيني للعودة إلى استئناف المفاوضات، عقب كل استنكاف، إلا بعد تذكير الأميركيين بمواقفهم أو تلقي ما يضيف إليها. كالاستجابة الفلسطينية لنداء واشنطن بتجديد المفاوضات بين أغسطس 2013 وأبريل 2014، بناء على تعهد وزارة الخارجية الأميركية بأن «تجرى المفاوضات على القضايا النهائية بما فيها القدس مع عدم نقل السفارة الأميركية إليها، وعلى أساس دولتين لشعبين في حدود 1967، مع تعديلات طفيفة وفقاً لمبدأ التعويض المساوي في القيمة والمساحة، واستمرار الدعم المالي للسلطة الفلسطينية».

على مدار سنوات عملية التسوية بعجرها وبجرها، لم يسبق لإسرائيل أن أذعنت لمثل هذه القناعات. غير أنه لم يسبق لواشنطن أن عاكست ما ورد في رسائلها الفلسطينية، أقله بشكل فج وصريح، مثلما فعلت إدارة الرئيس دونالد ترامب. فباعتبارها القدس عاصمة لإسرائيل وقرار نقل السفارة الأميركية إليها، وتعاطفها المتبجح مع الاستيطان، ووقف العون المالي للفلسطينيين، واستخفافها بحل الدولتين، تكون هذه الإدارة قد تخلت عملياً عن ميراث أسلافها وعهودهم، وشطبت المسافة بينها وبين الطرف الإسرائيلي.

مع ذلك، هناك من يشكك في إمكانية إيجاد طرف ثالث أو وسيط، قادر على ملء الفراغ المتأتي من غياب الطرف الأميركي رغم عواره. والفلسطينيون ما عادوا يستسيغون وساطة واشنطن ولا يطيقون صبراً على انحيازها لإسرائيل، وأغلب الظن أنه لا مجال لثقتهم في أي وعود أو ضمانات، قد تلوح لهم بها الدبلوماسية الأميركية تحت ظرف أو آخر. والحال كذلك، كيف السبيل إلى تخطي هذه المعضلة؟

 

 

Email