بيريرا يدّعي

ت + ت - الحجم الطبيعي

«بيريرا يدّعي» هو عنوان الرواية التي كتبها الإيطالي أنطونيو تابوكي، وتدور أحداثها في البرتغال. وهي الرواية التي استهل بها «صالون القراءة» نشاطه في «ندوة الثقافة والعلوم» بدبي الأسبوع الماضي، في بداية تعاون مشترك بين الندوة و«مؤسسة بحر الثقافة»، التي أسستها وترأسها الشيخة روضة بنت محمد بن خالد آل نهيان بأبوظبي، في خطوة ربما لا تكون الأولى بين مؤسستين ثقافيتين في دولة الإمارات العربية المتحدة.

لكنها جديرة بالاهتمام، كونها تؤسس لاستدامة هذا التعاون، بعد أن تم الاتفاق بين الندوة والمؤسسة على تأسيس هذا الصالون الأدبي، ووضع جدول لنشاطه، بحيث ينعقد مرة كل شهر لمناقشة كتاب تتم قراءته من قبل أعضاء الصالون، ويجري تناوله من جميع جوانبه، تشجيعاً للقراءة المشتركة، التي تثري ذائقة القارئ، وتفتح له جوانب ربما لا تظهر له في حال ممارسته للقراءة المنفردة.

الصالونات الأدبية ليست بدعاً في الثقافة العربية، إذ إن لها تاريخاً ممتداً في هذه الثقافة، والمرأة ليست دخيلة على ثقافة الصالونات الأدبية، فقد اشتهرت صالونات أسستها نساء عربيات شهيرات عبر التاريخ، لعل أشهرها المجلس الذي كانت تقيمه الأميرة الشاعرة ولادة بنت المستكفي في قرطبة، وكان يؤمه الأعيان والشعراء ليتحدثوا في شؤون الشعر والأدب بعد زوال الخلافة الأموية في الأندلس.

ومنها صالون الأديبة والشاعرة مي زيادة في القاهرة، الذي كان يعقد كل يوم ثلاثاء، ويلتقي فيه الأدباء ورجال الفكر والصحافة. وقد عُدّ أهم صالون أدبي عرفته القاهرة والوطن العربي خلال القرن العشرين، حتى صنفه البعض قبل صالون العقّاد.

وفي دولة الإمارات العربية المتحدة لدينا نماذج مشرفة لنساء بادرن إلى تأسيس صالونات أدبية ومؤسسات ثقافية رائدة، تقوم بدور نشط في إثراء الساحة الثقافية في الدولة بنشاطات ذات وزن وتأثير في المجتمع، منهن على سبيل المثال لا الحصر الشيخة الدكتورة شما بنت محمد بن خالد آل نهيان، التي أنشأت عام 1997 مجلساً للفكر والمعرفة في مدينة العين، يكون متنفساً لسيدات المجتمع، يناقشن من خلاله مختلف القضايا الفكرية والأدبية، بمشاركة مجموعة من الأدباء والكتاب وأساتذة الجامعات.

ومنهن شقيقتها الشيخة روضة بنت محمد بن خالد آل نهيان، وأختاها الشيخة شيخة بنت محمد بن خالد آل نهيان، والشيخة ميثاء بنت محمد بن خالد آل نهيان، اللواتي بادرن عام 2004 إلى تأسيس «صالون بحر الثقافة» كملتقى أدبي يناقش أعمالاً روائية، ثم تحول عام 2013 إلى مؤسسة ثقافية، أسهمت ولا تزال تسهم بشكل واسع في إثراء المشهد الثقافي الإماراتي بكل ما هو مفيد وممتع.

وفي أبوظبي أيضاً أسست السيدة أسماء صديق المطوع «صالون الملتقى الأدبي» عام 1999 بالتعاون والتنسيق مع كوكبة من سيدات مثقفات، ينتمين إلى جنسيات عربية وأجنبية متنوعة، حتى غدا «صالون الملتقى الأدبي» اليوم واحداً من أهم الصالونات التي تثري الساحة الأدبية بالأنشطة المتنوعة.

وفي دبي أسست الدكتورة موزة غباش «رواق عوشة بنت حسين الثقافي»، الذي احتفل في شهر أبريل من العام الماضي بيوبيله الفضي، ومرور 25 عاماً على تأسيسه، وفاء لذكرى والدتها السيدة الفاضلة، عوشة بنت حسين، عليها رحمة الله، التي تعلمت القراءة والكتابة في زمن كان تعليم المرأة فيه نادراً، وعملت على نشر المعرفة بين بنات جيلها، وحرصت على تعليم بناتها وأبنائها، حتى حصل أربعة منهم على درجة الدكتوراه.

وعلى خطى شقيقتها الدكتورة موزة، سارت الدكتورة رفيعة غباش، بعد أن تولت رئاسة «جامعة الخليج العربي» في البحرين فترتين متتاليتين، فأسست «متحف المرأة» في دبي ليكون مركزاً ثقافياً توثيقياً، يهتمُّ بتاريخ المرأة في الإمارات وحاضرها، وكل ما يتعلق بجوانب حياتها من فكر، وثقافة، وفنون، وآداب، وتراث، وتاريخ، ونمط وطقوسٍ حياتها اليومية.

هذه الصالونات الأدبية والمؤسسات الثقافية، ما كان لها أن تنشأ وتتأسس لو لم يكن وراءها نساء محبات للثقافة، مؤمنات بدور المرأة في المجتمع، وبدور الثقافة في بناء هذا المجتمع، ودور القوة الناعمة، التي تشكل الثقافة إحدى أذرعها القوية، في التأثير داخلياً وخارجياً.

وهذا ما دعا دولة الإمارات إلى تأسيس مجلس للقوة الناعمة، بهدف تعزيز سمعة الدولة إقليمياً وعالمياً، وترسيخ احترامها ومحبتها بين شعوب العالم، لنقل قصة الإمارات للعالم بطريقة جديدة؛ هذه القصة التي ساهمت المؤسسات الثقافية، بمختلف أشكالها، في كتابة أحداثها وصياغة فصولها، حتى أصبحت حكاية تروى، ونموذجاً فريداً تسعى الدول الأخرى إلى محاكاته.

ولعل هذا هو ما دفع «ندوة الثقافة والعلوم» في دبي، قبل أربعة أعوام تقريباً، إلى دعوة هذه المؤسسات للاجتماع في مقر الندوة، لبحث التعاون والتنسيق بينها في مجال إقامة الأنشطة وتوزيعها، وهو ما لقي ترحيباً من قبل ممثلي المؤسسات التي حضرت، لكن تنفيذه تأخر قليلاً، ليأتي إنشاء «صالون القراءة» بين الندوة ومؤسسة بحر الثقافة، ثمرة قد تكون متأخرة إلى حد ما.

لكنها تفتح آفاقاً لتعاون أكبر بين المؤسسات الثقافية، يجعل من الفعل الثقافي نمطاً سائداً، ومن القراءة ممارسة يومية غير مرتبطة بمعارض الكتب، أو مجرد هواية نمارسها في أوقات الفراغ، كما يعتقد البعض، أو يسجلها في خانة الهوايات، كما كان يحدث في أبواب «هواة التعارف»، التي كانت واحدة من أهم أبواب المجلات، يوم أن كان البريد التقليدي هو وسيلة نقل الرسائل بين البشر.

«بيريرا يدّعي» كانت هي المفتاح، وخلف الباب كنوز لا تنتهي، علينا أن ننهل منها.

 

 

Email