ابن خلدون العصر الحديث

ت + ت - الحجم الطبيعي

أعكف حالياً على إعداد بحث موسع يتناول أحد أركانه نتائج جهود علمية لشخصية مهمة في زماننا أطلق عليها اسم "ابن خلدون العصر الحديث" وهو الباحث الكبير هوفستد، الذي تفوق على ابن خلدون في جزئية واحدة مهمة وهي أنه وضع لنا كباحثين ومهتمين في الاختلافات الثقافية بين الشعوب دراسات علمية عدة جمعت في كتاب يناهز ألف صفحة أظهرت لنا، مثلاً، لماذا يختلف الصيني عن العربي، والروسي عن الأميركي والاسكندنافي عن الجنوب أميركي.

هوفستد وجد، على سبيل المثال، أن العربي لديه استعداد كبير لأن "يقبل" أن "يوسد الأمر لغير أهله" أو بعبارة أخرى لديه "توقع" أو استعداد للقبول بألا يكون الرجل المناسب في المكان المناسب! وأننا نعترف بأن هؤلاء غير الأكفاء يستمدون قوتهم من موقعهم في الهيكل التنظيمي بالمؤسسة أو الدولة. غير أن الأمم الغربية تنفر من هذا الأمر ولا تقبل به ولا تتوقع أن يقودها شخص غير كفء.

فتلك المجتمعات حلت في قائمة "مسافة السلطة" في درجة متدنية جداً، حيث حصلت بريطانيا على 35 وأمريكا على 40 في حين كانت دول الخليج والعرب قد نالت 90 درجة. ولا تكاد تخلو مجلة علمية عن القيادة أو الإدارة إلا وتطرقت لهذا البعد الثقافي الجوهري.

وإن كنت لا أرى أن أحداً حتى الآن يجاري عبقرية وشمولية وعمق وأدب ابن خلدون حينما تقرأ مقدمته التي قيل إنها نواة لعلم الاجتماع الحديث، إلا أن هوفستد المعاصر خاطبنا باللغة التي يفهمها عصرنا، وهي لغة الأدلة العلمية ومنها ما نقلته دراساته بأن العرب يمتازون بطغيان "ثقافة جماعية" مقابل ارتفاع الفردية لدى الغرب.

وهذا واضح في الشارع العربي وأروقة العمل، حيث تجد حتماً من يهرع لمساعدتك وأحياناً لا يهمه إذا ما ارتكب مخالفة قانونية طالما أنه كعربي يمارس مروءته وشهامته، ولكل قاعدة شواذ.

ولنكون أكثر دقة، عرضت قائمة الفردية تبوأ أميركا درجة مرتفعة جداً 91 وهو ربما ما يفسر مصطلح "أرض الأحلام" التي يصبو إليها الفرد لتحقيق تطلعاته بالتشمير عن سواعده و"بعرق جبينه". ولم تكن بريطانيا بعيدة حيث حصلت على 89 مقابل 38 للدول العربية مع فروقات طفيفة، ونالت إيران 41 درجة.

ولا يعد هوفستد متحاملاً، فقد أظهرت أبحاث عدة ما ذهب إليه، ومنها أيضاً دراسات أظهرت أن محاباة الأقارب nepotism في أوطاننا مرتفعة مقارنة بالشعوب الغربية.

هذه الجهود البحثية الثقافية وإن شابها مثل كل النظريات قصور وانتقادات تبقى مؤشراً يستحق التأمل في أننا مختلفين ولسنا الأفضل في كل شيء كما يحاول البعض تصويره أو اختزاله في عرق أو دين. فحينما أعمل مع غربي أو شرقي الحكمة تقتضي أن أنقب في سلوكياته الحميدة عما يطورني وينهض بالمؤسسة أو الوطن الذي أنتمي إليه.. هكذا نتقدم في ركب التطور والحضارة.

 

Email