في مواجهة تهديدات واشنطن

ت + ت - الحجم الطبيعي

تخطئ الولايات المتحدة خطأً جسيماً إذا أخذها العناد والاستكبار بعيداً وتصورت أن إرادتها السياسية أكبر من إرادة العالم أجمع، وتجاهلت أن من بين الغاضبين من قرارات القدس الأحادية الجانب التي تناقض الشرعية والقانون الدولي حلفاءها الأهم في العالم أجمع، إنجلترا وفرنسا وألمانيا ومصر والأردن واليابان.

ولم تدرك المغزى الحقيقي من أن يعترض على قرارها في مجلس الأمن 14 من 15 دولة بينها الأعضاء الدائمون جميعاً غير الولايات المتحدة، ولم تر أي خطورة في أن يرفض قرارها 129 عضواً في الجمعية العامة للأمم المتحدة لا يساندها في عزلتها الدولية سوى إسرائيل وتسع دول هي غواتيمالا وهندوراس وتوغو وجزر الباسفيك ومكرونيزيا وجزر مارشال!

وإذا كان الفيتو الأميركي الذي استخدمته الولايات المتحدة لأول مرة منذ 6 سنوات قد نجح في وقف تنفيذ قرار مجلس الأمن بعد أن حظي بهذه الأغلبية الكاسحة، فإن قرار الجمعية العامة الذي أيدته 129 دولة مقابل 9 دول وقفت إلى جوار إسرائيل وأميركا بقي شاهداً على عزلة الولايات لا يكفي لمواجهته أن تعلن السفيرة الأميركية في الأمم المتحدة نيكي هايلي في استكبار بالغ أن أي تصويت داخل الأمم المتحدة لن يحدث فارقاً لأن الشعب الأميركي يريد أن يضع سفارته في القدس وهذا ما سوف يكون وما حدث بالفعل، لأن الأمم المتحدة ليست طبقاً لميثاقها مؤسسة أميركية وإنما هي منظمة دولية تجمع كل دول وشعوب العالم تنطق باسم هؤلاء جميعاً وتعبر قراراتها عن مجمل ما يتفقون عليه.

والأغرب من هذا القول تصريح السفيرة الأميركية بأن هذا التصويت سوف يغير نظرة أميركا للأمم المتحدة، وسوف يظل محفوراً في الذاكرة الأميركية لأننا نتعامل مع دول لا تحترم الإرادة الأميركية، بما يعني أن ما تراه الولايات المتحدة ينبغي أن يكون، وأن السفيرة الأميركية نيكي هايلي سوف ترفع إلى الرئيس ترامب بالفعل قائمة بأسماء الدول التي صوتت ضد القرار الأميركي كي يحرم هذه الدول من أي عون أميركي.

بهذا المنطق الغريب تتعامل أميركا مع الموقف داخل الأمم المتحدة، تهدد بمنع العون الأميركي عن الدول التي صوتت ضد قرار الرئيس الأميركي، وتهدد بمنع دفع حصتها في موازنة الأمم المتحدة لمجرد أن أعضاء الجمعية العامة مارسوا حقهم في التصويت الحر على مشروع قرار صاغته مصر في أسلس وأخف صورة إلى حد أنه لم يشر إلى الولايات المتحدة بصورة مباشرة كي يحظى بموافقة الجميع بما في ذلك الدول الكبار حلفاء الولايات المتحدة مثل إنجلترا وفرنسا واليابان.

صحيح أن قرار الجمعية العامة اعتبر أي قرارات أو أعمال من شأنها تغيير الوضع الراهن في القدس الشرقية أو التأثير على هويتها السكانية قراراً لا ينتج أثراً ولا يعتد به، لكن القرار يكاد يكون ترديداً لقرارات مماثلة صدرت عن مجلس الأمن والجمعية العامة، وما جعل القرار هذه المرة أفدح أثراً أن القرار أصبح بعد مجيء ترامب إلى الحكم جزءاً من سياسة أميركية جديدة تلتزم بها إدارة ترامب التي قطعت علاقاتها بمواقف كل الرؤساء الأميركيين السابقين من القدس بدعوى الاعتراف بالأمر الواقع.

ومع الأسف لا تزال الولايات المتحدة تصر على أن القرار يشكل خطوة مهمة على طريق السلام، ولا يشكل انحيازاً أميركياً مباشراً لإسرائيل وليس مجرد تأكيد لقرار إسرائيل بضم القدس الشرقية إلى حدودها، وأنه قرار محايد لا علاقة له بالوضع النهائي الذي يبقى محل تفاوض مباشر بين الفلسطينيين والإسرائيليين.

وأن السياسة الأميركية الجديدة ليست سياسة فرض الأمر الواقع ولا تعني تأييد إسرائيل في قرارها المتعلق بضم القدس أو ترسيم حدودها النهائية الذي يبقى محل تفاوض مباشر بين الفلسطينيين والإسرائيليين، بينما يؤكد الفلسطينيون أن قرار الرئيس ترامب يفسد دور الولايات المتحدة كوسيط في عملية السلام لأنه قرار ينحاز إلى إسرائيل بصورة عمياء.

وحتى الآن لا يبدو واضحاً كيف ستتمكن إدارة الرئيس ترامب من احتواء الموقف خاصة أن القرار الأميركي تجاهل على نحو تام أهمية القدس الشرقية بالنسبة لأكثر من مليار ونصف المليار مسلم وأهميتها بالنسبة للمسيحيين، وهل ستستمر الحماقة الأميركية إلى حد عقاب الدول التي صوتت ضد قرار ترامب.

سواء في مجلس الأمن أو في الجمعية العامة وأولاها مصر التي صاغت مشروع القرار الأساسي والتي تتلقى معونة أميركية قدرها 2ر1 مليار دولار لم تعد تشكل شيئاً مهماً رغم أن مصر لا تزال تعبر المرحلة الأخيرة من عنق الزجاجة.

لكن مصر لم يكن في وسعها سوى أن تقف إلى جوار الشعب الفلسطيني تسانده في مجلس الأمن وفي الجمعية العامة وتمكنه من الحصول على أوسع مساحة ممكنة من التأييد العالمي حتى لو اضطرت إلى استخدام لغة أقل خطابية وتشدداً.

ويبقى السؤال المهم، هل ينفذ الرئيس الأميركي تهديداته ويعاقب 128 دولة صوتت ضد قراره؟ وماذا يكون وقع ذلك على العلاقات الدولية ومستقبل الأمم المتحدة ؟ وما الذي سوف يفعله حيال حلفائه في العالم العربي الذين صوتوا ضد القرار وتعتبرهم واشنطن من الشركاء الاستراتيجيين، وإن كانت صحيفة نيويورك تايمز تنقل عن خبراء أميركيين أن الأمر سيكون صعباً على إدارة ترامب.

وسوف تكون له تداعياته الخطيرة، ومن المؤكد أنه سيزيد من توتر العلاقات بين الأمم المتحدة والبيت الأبيض، خاصة أن المساعدات الخارجية الأميركية تصل في موازنة 2018 إلى حدود 25.8 مليار دولار يجري توزيعها على أكثر من مائة دولة بواسطة 20 وكالة تتبع الإدارة الأميركية، وضمن أبرز الدول التي تحصل على المساعدات الأميركية مصر والأردن يليهما أفغانستان التي تحصل على 782 مليون دولار، إضافة إلى عدد من الدول تتراوح مساعداتها ما بين 100 و600 مليون دولار.

 

 

Email