أين هم النخب؟

ت + ت - الحجم الطبيعي

من أبرز من وضع المنهجيات الأولى لمفهوم النخبة هو المفكر الفرنسي سان سيمون في بدايات القرن الثامن عشر، إذ كان يرى أنه من الضروري وجود هذه الفئة في المجتمع، ويرى بأنه يقع على عاتقها مسؤوليات كبيرة في تغيير وتطوير مسار المجتمعات نحو الأفضل، لذا دعونا نتساءل اليوم، أين هم النخب؟ وما هي الأدوار التي يقومون بها وما الذي يقدمونه لأوطانهم ومجتمعاتهم في مواجهة التحديات الفكرية التي يتعرض لها المجتمع العربي؟

من الضروري أولاً أن نَعرف من هم النخب في هذا الزمان؟! فقديماً كانوا هم الأطباء والصيادلة والمهندسون والنحاتون ومن يحملون الشهادات الجامعية، أما الآن فهناك الكثير منهم، ولا يمكن اعتبار هذه الفئات هي النخب، فمع كثرة الشهادات الجامعية أصبح هؤلاء جميعهم من الطبقة العادية ما لم يكن لأحد منهم توجه فكري إصلاحي.

ولكن من الواضح أن الأمور تغيرت فما نلاحظه اليوم أن النخبة أصبحوا هم المشاهير والمؤثرين عبر وسائل التواصل الاجتماعي، أو كبار رجال الدين، فهم من يقودون الحراك الفكري والتوجه العام للمجتمع.

لا يمكننا البت في التعرف على نخب هذا الزمان، فمازال البعض يرى بأنهم الكتاب والمثقفون وأصحاب الرأي والقلم، ولكن أيضاً هؤلاء أصبحوا كثراً، وعلى الرغم من تدني الحالة الثقافية في وطننا العربي إلا أن في العام الواحد يخرج لنا ألف كاتب ومثقف جديد، ولكن العبرة ليست بالكم إنما بالنوعية وبالمخرجات التي يخرجونها للمجتمع، ويكاد يكون هذا الشيء معدوماً، فمعظم ما يُطبع ويُنشر اليوم هدفه الترويج فقط لا الإصلاح الحقيقي للمجتمع إلا من رحم ربي.

ولهذا كان لا بد أن نتساءل أين هم النخبة؟ أم أنه قد ولى زمن النخب، وأصبحنا في زمان تساوى فيه العالم والجاهل بنفس الدرجة والتأثير، وربما تأثير الجاهل أصبح أكثر من العالم، والأدهى والأمر أننا وصلنا لمرحلة أصبح فيها العالِم هو من يتقصد تجهيل العامة، أو يرى في جهلهم مصلحة يرتقي من خلالها في ظل هذا الزحام الفكري المشوش.

على مر التاريخ كان هناك مجموعة من الأشخاص الإصلاحيين الذي يعملون على توجيه فكر العامة بما يخدم المصالح الوطنية، ولكن اليوم أصبح هذا الدور مفقوداً، والافتقاد الأكبر أننا مازلنا نبحث عن ممثل لهذا الدور، ومن يقوم به بغية إصلاح أي تشويش فكري وتوجيه المجتمع نحو أهداف معينة، فبعد أن سقطت النخب القومية والاشتراكية وعدم ثقة شعوبنا بالنخب الليبرالية، ها نحن نواجه اليوم تحدياً كبيراً في إيجاد البديل المناسب لقيادة فكر المجتمع وتوجيهه.

نحن بحاجة لتنوع فكري، فبدلاً من أن نقرأ الأمور من وجهة نظر واحدة، أن نراها من زوايا وتحليلات فكرية مختلفة، ونختار ما ينسجم فيما بينها وما يحقق المصلحة لمجتمعاتنا.

إن الاستمرار في نظرتنا القاصرة بأن نرى الأمور من زاوية أحادية ترى جميع من يخالفها هم جهلة لا يفقهون من العلم شيئاً سيعود علينا بالخراب، فالتكوين السليم لتوجيه أي أمة نحو التقدم، أن تتنوع مصادر إنتاج الفكر والأفكار وبمنظورات مختلفة ترتقي فيما بينها لتخرج لنا بنظام سلوكي فكري يكون فيه الصلاح والسداد منهجه الإصلاح والرقي والتطور بعيداً عن أصحاب التشدد والغلو الفكري والديني.

إن وجود النخب أمر ضروري لبناء مجتمعات لديها توجه فكري تعمل من أجله، فما من أمة ارتقت إلا كان لديها مفكرون يصنعون فكر الأمة ويشدون من عزمهم لبلوغ هدف معين، وهذا ما نحن بحاجة إليه أن يكون لدينا في الوطن العربي من هم نخبة من الصفوة أصحاب الرأي والتحليل المنطقي لقضايا الأمة، ويوجهون فكر العامة بما لا يتعارض مع أي سياسات حكومية هدفها مصلحة الوطن والمواطن، وأن يعمل هؤلاء النخب بمنظور إيجابي انفتاحي مطلع على ثقافات وعلوم الأمم الأخرى، وبعيداً عن السلبية والانغلاق.

إن كنا نتساءل من هم النخب في هذا الزمان؟ فالنخب هم أصحاب النظرة المستقبلية ممن يرون أن الحياة على المريخ أصبحت قاب قوسين أو أدنى، وإن التطور التكنولوجي والذكاء الاصطناعي هو مستقبلنا، هم أولئك أصحاب الأرقام الصعبة صعبة التحقيق والمنال، هم من يرون أن المستحيل ممكن، هم من يرون أن الانتصار على كومة جثث ليس انتصاراً إنما الانتصار والمجد الحقيقي هو أن تنافس من هم أقوى وأكبر منك حتى تتفوق عليهم، إن أردتم أكثر وأبلغ تشبيهاً، النخب هم أمثال صاحب السمو الشيخ محمد بن راشد، رجل الأرقام الصعبة، من يطلق مبادراته شمالاً ويميناً يريد استنهاض الأمة نحو مستقبلها، ولا يرى أن هذا مستحيل إنما هو خطة نمضي عليها.

أمثال سموه هم النخبة، فيا ليتنا نستنسخ من سموه الآلاف بل مئات الآلاف فنحن بأمس الحاجة أن تكون مجتمعاتنا العربية على هذه الحكمة والهمة والنشاط والعطاء.

 

 

Email