المسكوت عنه في كلمة «ترامب»

ت + ت - الحجم الطبيعي

حفلت كلمة الرئيس الأميركي دونالد ترامب، بمناسبة توقيع قراره بنقل السفارة الأميركية إلى القدس، بالعديد من التناقضات والمغالطات التاريخية والسياسية والأخلاقية، وإذا كان قرار ترامب يتميز بالوضوح البيّن، فيما يتعلق بنقل سفارة بلاده إلى القدس والانحياز الكامل لإسرائيل، وهو الأمر المثير للاهتمام والجدل، فإن ما لم يقله ترامب أو ما سكت عنه في كلمته، لا يقل أهمية أو إثارة للجدل عن ما قاله وصرح به، أي ذلك المضمر في كلمته وغير المعلن أو غير المصرح به، والذي يسكن في تلافيف وخلفيات كلمته ويُسكن في عقول فريقه الذي يقف وراء هذا القرار ووراء كلمته التي أعلنه فيها.

في مقدمة ما سكت عنه ترامب في كلمته أن قراره بنقل السفارة إلى القدس، وإن كان في قلب السياسة، إلا أن فريقه هو الذي حرضه وساعده في اتخاذه تلك الدوافع التي تؤمن بأسطورة عودة «الشعب اليهودي المختار» إلى «أرض الميعاد»، وهى الأسطورة التي تبنتها الصهيونية، وتمثل هذه الأسطورة الأساس العقائدي للتأييد المفرط لإسرائيل، والتوحد والتطابق الذي يجمع بينها وبين الولايات المتحدة الأميركية، خاصة في ظل الإدارة الأميركية الحالية.

الأسطورة اليهودية الصهيونية في بنية هذه العقيدة تكاد تكون هي ذاتها الأسطورة الأميركية، فاليهود في إطارها عبروا البحر الأحمر إلى فلسطين، والأوروبيون الأوائل الذين أسسوا الولايات المتحدة الأميركية عبروا بدورهم المحيط الأطلنطي إلى العالم الجديد، وحمل أولئك وهؤلاء رسالة دينية.

في إطار ولع ترامب بالتفرد والتميز والخروج عن المألوف والاستحواذ على الاستثناء، وضع كل مواقف الرؤساء الأميركيين السابقين في إطار «الاستراتيجيات الفاشلة» و«الآراء القديمة»، ليس هذا فحسب وإنما وضعهم أيضاً في خانة «الذين لم يفوا بوعودهم» الانتخابية، وسكت ترامب تماماً عن دوافع هؤلاء الرؤساء السابقين ومواقفهم التي أخذت في الاعتبار ضرورات المواءمة والتوازن وضرورة توفير حد أدنى من المصداقية للولايات المتحدة وسياستها الخارجية، إذا ما كانت تزمع التوسط لتسوية الصراع الفلسطيني الإسرائيلي، والاحتفاظ للولايات المتحدة بمكانتها الدولية واحترامها لقرارات الشرعية الدولية التي وافقت الولايات المتحدة على العديد منها، خاصة فيما يتعلق بقضية القدس، هذه الاعتبارات تدخل في كلمة ترامب باعتبارها فاشلة وقديمة ومخالفة للوعود!

في كلمته تلك قرر ترامب نقل سفارة بلاده من تل أبيب إلى القدس دون أن يحدد وجهة هذا الانتقال، أي الشطر الشرقي أم الغربي من المدينة المقدسة، لقد تجنب ترامب التحديد اللفظي بينما أن سياق القرار ودوافعه ومضمونه ينصرف دون لبس إلى القدس الموحدة والأبدية لإسرائيل، تماماً كما يقرر الخطاب الرسمي الإسرائيلي وضع المدينة المقدسة، وحتى لو افترضنا جدلاً بأن المقصود - وهو أمر مستبعد - هو القدس الغربية، فإنه تجاهل أن موقف الولايات المتحدة الأميركية يتمثل في عدم الاعتراف باحتلال إسرائيل لها أو سيادتها عليها إذا ما استثنينا واقعة تأجير أراضٍ في القدس الغربية في عام 1989 بدولار واحد سنوياً.

بيد أن أهم ما صمت عنه ترامب في كلمته هو توصيفه لهذا القرار بأنه مجرد اعتراف بالواقع وأنه الشيء الصحيح الذي ينبغي فعله، وهذا التوصيف يتضمن مغالطات خطيرة، فالواقع من وجهة النظر هذه هو واقع مجرد وكأنه معزول عن الواقع فعلاً، فهذه الكلمة في السياق الراهن تعني واقع القوة والعسف والعصف بحقوق الشعب الفلسطيني وتضحياته في سبيل تغيير هذا الواقع، إذاً هو واقع ممزوج بالدم والضحايا والمعاناة والمأساة التي سببها الاحتلال وتغليب مبدأ القوة وتغييب الحقوق.

يتجاهل ترامب ومن يقف وراءه من المعاونين في إدارته أن تاريخ الإنسان والبشر ما هو في حقيقته إلا رفض منظم ومقاومة ممتدة، لما كان واقعاً في يوم من الأيام، فالسخرة والعبودية والرق وسيطرة الكنيسة وصكوك الغفران وسيادة العقل الأسطوري والغيبي واستعمار غالبية بلدان العالم الثالث، كل هذه الظواهر كانت واقعاً يوماً ما، ولكنها وقائع حظت بالمقاومة العملية والفكرية من قبل الشعوب والمفكرين والعلماء وانتهى الأمر بالإطاحة بها وإنشاء عالم جديد.

ومن ثم أن تكون القدس واقعاً في ظل السيطرة الإسرائيلية، فذلك لا يمنح حصانة للموقف الإسرائيلي، ولا يضفي عليه القداسة، بل ينبغي النظر إلى الكيفية والطريقة التي تشكل بها هذا الواقع، وحينئذ يمكن إدراك أنه يستحق التغيير والانتقاد والمقاومة وليس الاعتراف والقبول.

إن هذه الواقعية الفجة التي سقطت فيها كلمة الرئيس الأميركي تشرّع لمنطق الغاب والقوة، وتمنح من يستخدمها المصداقية والقبول وتتنكر لحقوق وتضحيات ومعاناة تسكن تضاعيف هذا الواقع ولا يمكن عزله عنها.

كاتب ومحلل سياسي

 

Email