ترامب والقدس

ت + ت - الحجم الطبيعي

يتوقع المرء أن الدول، وخاصة العظمى، تتخذ قراراتها بتأنٍ، روية، وحصافة شديدة، ولكن تفاجأ الكثير من قرار ترامب بالاعتراف بالقدس عاصمة لدولة إسرائيل دون الإفصاح عن حدود المدينة، ودون تعبير الموحدة. ورغم ذلك، فإن المراقب للأوضاع في المنطقة يستغرب لماذا يريد الرئيس الأميركي أن يعقد الأمور أكثر في إقليم ملتهب.

والقرار بلا شك يقوي من شوكة أعداء أميركا في المنطقة، وبلا شك، كما أن الحركات الإرهابية مثل داعش والقاعدة سيستثمران الاعتراف لزيادة استقطاب الإرهابيين.

وقد انتقد قرار الاعتراف الأغلبية الساحقة (9 من 11 سفيراً) من سفراء الولايات المتحدة إلى إسرائيل السابقين، حتى أقربهم إلى إسرائيل مثل مارتن أنديك، وقد انتقد هؤلاء السفراء السابقين بأن الاعتراف بالقدس عاصمة لإسرائيل سيزعزع الأمن والاستقرار في المنطقة دون مردود سياسي، وأن الاعتراف هدية لحكومة نتنياهو دون مقابل، كما أن الاعتراف يعزل الولايات المتحدة من كل حلفائها ويقوض من عملية السلام.

إذا لماذا اعترف ترامب بالقدس عاصمة إسرائيل؟ ماذا يعتقد الرئيس أنه سيجني من هذه الخطوة؟ ولماذا الآن؟ التفسير بأن ترامب أراد من الاعتراف تحقيق وعد انتخابي لا يتوافق مع الحقائق، حيث إن الاعتراف يخالف التزامات أميركية ودولية، وقد درج مرشحو الرئاسة الأميركية بإعطاء هذه الوعد طوال العقود الماضية ولكنهم لم يوفوا بها. وقد كان موقف رونالد ريغان في هذا المضمار طريفاً، حيث وعد أثناء حملته الانتخابية بأن ينقل السفارة الأميركية إلى القدس، وبعد انتخابه قال إن موقفه الشخصي مع نقل السفارة ولكن موقف الحكومة الأميركية متسق مع الإدارات السابقة ويقتضي عدم نقل السفارة.

والتفسير الأكثر منطقياً هو أن ترامب سعى من خلال الاعتراف إلى تقوية قاعدته الشعبية بين المسيحيين الإنجيليين والذين ما انفكوا من الضغط على البيت الأبيض للاعتراف بالقدس عاصمة لإسرائيل. ويبلغ تأييد الإنجيليين في الولايات المتحدة للاعتراف بالقدس عاصمة لإسرائيل ضعف التأييد اليهودي في أميركا.

وهناك انتخابات حاسمة في 12 ديسمبر في ولاية ألاباما لمجلس الشيوخ بين القاضي الجمهوري، روي مور، المتهم باعتداءات جنسية ضد الأحداث، والديمقراطي دوق جون. ويدعم ترامب مور للفوز بمقعد السنت خوفاً من زيادة عدد الديمقراطيين في مجلس الشيوخ وبالتالي زيادة عدد المعارضة الديمقراطية. ولعل توقيت هذا الاعتراف بالقدس سينشط الدعم المسيحي الإنجيلي لحملة مور الانتخابية.

وقد يكون هناك تفسير آخر ربما ستروج له الإدارة الأميركية في المنطقة. ويقول هذا التفسير إن ترامب أراد من الاعتراف إعطاء عملية السلام دفعة أولية تحيي العملية بعد سبات عميق. والاعتراف سيعطي حكومة نتنياهو غطاء سياسياً ضد خصومه على اليمين للشروع في عملية سلمية يتفاوض فيها الأطراف على قضايا الحل النهائي بما فيه وضع القدس.

ويظل السؤال لماذا لم يطالب الرئيس الأميركي إسرائيل بوقف بناء المستوطنات في الأراضي المحتلة وكذلك أعمال الهدم للممتلكات الفلسطينية؟ ولماذا لم يعترف ترامب بدولة فلسطينية على الأراضي المحتلة، أو على الأقل الاعتراف بالقدس الشرقية عاصمة لدولة فلسطين ؟، وخاصة أن الحكومات الإسرائيلية المتعاقبة ألفت على أخذ التنازلات دون إعطاء مقابل، كما فعلت بالفلسطينيين حين اعترفوا بإسرائيل دون حصولهم على اعتراف بدولتهم المنشودة، أسئلة ليست لها جواب.

هل يمكن أن يكون القصد من الاعتراف شد الانتباه لما تتعرض له الإدارة من انتقادات، وقد عمدت بعض الإدارات إلى هذا التكتيك، حيث لجأ الرئيس بيل كلينتون إلى الهجوم على السودان في أوج فضيحة جنسية عرفت بلوينسكي جيت، وقد ألمح السفير السابق توماس بيكرينغ إلى هذه المسالة حين قال إن خطوة الرئيس حول القدس مثل الفيلم «واق ذا دوق» والذي يصور رئيساً أميركياً يعلن الحرب على دواعٍ مفبركة للتغطية على فضيحة جنسية.

وهناك سبب آخر يجري تناوله في العاصمة الأميركية واشنطن. يقال إن بعض المطلعين بما فيهم أعضاء الإدارة الأميركية يقولون إن الرئيس ترامب قد فقد توازنه وقد يقدم على أعمال لا يحسب لها أية عواقب. وقد عبر السيناتور الأميركي بوب كوكر عن الحالة الذهنية للرئيس بأن البيت الأبيض غدا مركز حضانة لضبط سلوك ترامب، وأضاف السيناتور أن السلوك المضطرب للرئيس قد يقود إلى حرب عالمية ثالثة.

ويعزز من هذه النظرة السلبية للرئيس ما قاله وزير الخارجية بعد اجتماع مع الرئيس حضره كبار مساعديه بأن مقترحات الرئيس تدل على أنه غير طبيعي، كما وصف مستشار الأمن القومي الرئيس بأن لديه عقل ولد في الحضانة، ويقول بعض المقربين إن الرئيس أبدى لهم الامتعاض والكراهية لكل العاملين في البيت الأبيض.

هذه محاولة لفهم الحالة الأميركية والتي يجب تحليلها جيداً، ومن ثم بناء استراتيجية الرد على قرار الاعتراف بالقدس.

Email