في مصر الجديد يتجاوز القديم

ت + ت - الحجم الطبيعي

الأسئلة الكبرى التي تطرح في خضم التغيرات الكبرى التي تأتي في التاريخ، تدور حول ما الذي بقي من القديم، وما الجديد الذي جد؟، والإجابة في كل الأحوال ليست سهلة، في خضم الضوضاء والضجيج، وفي مصر، فإن ما جرى في يناير ٢٠١١ هز البلاد كلها حتى الأعماق، ولكنها لم تنتهِ بعد أحداثها الأولى.

وكانت المحصلة واقعة في عهد للثورات التي جلبت دستورين ومجموعة من الإعلانات الدستورية الأخرى وبرلمانين. لم يختفِ النظام القديم مع الحديث الكثير عن عهد جديد، بل إن أول وزارة عام 2011، كانت تقريباً هي تلك التي أتى بها النظام القديم لكي يحاصر الثورة. وحتى عندما عدل الفريق أحمد شفيق من وزارته، فإن الأمر لم يتغير كثيراً.

وبعدها جاءت وزارة عصام شرف، الذي كان عضواً في لجنة سياسات الحزب الوطني، ومعه جاءت طائفة من الوزراء لم يكونوا بارزين في العهد القديم، ولكنهم كانوا من صفوفه الثانية، التي لم تكن لا من الحرس القديم ولا جماعة الحرس الجديد الإصلاحية. كانت الدنيا قد تغيرت فعلاً، ولكن للأسوأ، عندما جاءت وزارة هشام قنديل، لأنها عبّرت عن الإخوان المسلمين، الذين ثار الشعب عليهم مرة أخرى بعد عام واحد في الحكم.

هل بعد أربعة أعوام تقريباً من الثورة الثانية، يمكننا الحديث عن الجديد الذي جاء، وأنه تم تجاوز القديم بمنهجه ونخبته السياسية والفكرية؟، والإجابة هي نعم، الإصلاح السياسي الذي كان مفقوداً تماماً، بدأ يأخذ شكله في تطورين هامين:

أولهما، أنه من الممكن إجراء انتخابات نزيهة في مصر، سواء كان ذلك في الانتخابات النيابية أو الرئاسية، تحت قيادة لجنة عليا للانتخابات ذات طبيعة قضائية، وتجري جميعها تحت الحراسة الأمينة للقوات المسلحة.

وثانيهما، أن تداول السلطة بات ممكناً، بعد تحديد سقف الحكم بفترتين، كل منهما لا يزيد على أربع سنوات. الرئيس عبد الفتاح السيسي في مقابلة صحافية مؤخراً، أكد على هذه الحقيقة، مؤكداً أنه لا يؤيد حدوث تعديلات دستورية، وأنه سوف يطبق الدستور كما هو، احتراماً للإرادة الشعبية.

هنا، فإن الرئيس يضع سابقة تأسيسية كانت مفقودة في التاريخ المصري، حتى أعطته سمات «فرعونية» دائمة، وهي سابقة وردت لدى رؤساء مثل جورج واشنطن، الذي ترك السلطة بعد فترتين، رغم أن الدستور ساعتها كان يسمح بفترات أخرى، وكذلك نيلسون مانديلا في جنوب أفريقيا، الذي ترك الرئاسة بعد فترة واحدة، رغم أنه بقي من الناحية التاريخية على الأقل، رئيس كل الرؤساء الذين جاؤوا بعده.

«التأسيس» الذي لا يقل جوهرية، جاء في النظام الاقتصادي، ليس فقط عن طريق الانتقال «من النهر إلى البحر»، كما أسلفنا في مقالات سابقة، أو استئناف عملية التنمية بعد توقفها تقريباً خلال أربع سنوات، هبط فيها معدل النمو إلى أقل من ٢ ٪، وإنما باعتبار الحقيقة ولا شيء غيرها، هي مدخلنا لدخول الاقتصاد من خلال تعويم الجنيه المصري، حتى يكون له سعر واحد.

وليس أسعاراً متعددة، وسعراً حقيقياً، وليس سعراً يقوم على نزيف الموارد القومية. التغيير الكبير ما بين القديم والجديد، هو أنه في الجديد تم التوقف عن خداع الذات المصرية، ومواجهة حقائق اقتصادية مُرة، حتى يمكن المضي قدماً في تنمية حقيقية وغير زائفة، أسعارها حقيقية وأرقامها حقيقية ومواردها ونفقاتها حقيقية. هذا الخروج من الزيف إلى الحقيقة، مثّل نقلة كيفية في تناول الدولة الاقتصادي. والآن، فإن تقييم الحال في مصر والمحاسبة عليه، يمكن أن يقاس استناداً إلى «رؤية مصر ٢٠٣٠»، التي سوف تحدد مدى التقدم الجاري، وحجم القصور، فيكون التغيير والتبديل.

أربعة موضوعات أخرى جرى فيها تجاوز القديم بشكل ملموس: أولها علاقة الدولة بالدين، والتي بدأت بالحديث عن «تجديد الفكر الديني» و«الثورة الدينية»، التي وضعت على عاتق المؤسسة الأزهرية، وكان في ذلك فتح كبير، من حيث إدراك المعضلة الكبري للدين الإسلامي في العالم المعاصر، وظاهرة الإرهاب المنتشرة فيه. ورغم أن الأزهر يظل هو المؤسسة الدينية الأولى في البلاد.

إلا أن باب الاجتهاد فُتح، وفي منتدى الشباب العالمي المنعقد في شرم الشيخ، طرح الرئيس السيسي بقوة، حقيقة التنوع والتعددية الواقعة في الدين الإسلامي، وليس الجمود والبعد الواحد المفضي إلى التطرف. وثانيهما، الموقف من المرأة التي لم تكن فقط شعلة ثورة ٣٠ يونيو، وإنما قلب الحرب الضروس ضد الإرهاب، بما قدمته من شهداء وجرحي للوطن، وإنما أيضاً في جهودها من أجل البناء.

في القديم، فإن المرأة المصرية حصلت على بعض الحقوق من التعليم، إلى حق الانتخاب والترشح إلى العمل إلى الوزارة والسفارة، ولكنها الآن باتت مرشحة لقيادات تنفيذية بحجم الشركات العامة، إلى المحافظة، ولم لا رئاسة الوزراء. ولكن القضية ليست فقط المناصب أو الثروة، وإنما في المكانة الاجتماعية، والحصول على حقوقها المشروعة في شرع الله وفي القانون أيضاً.

وثالثهما، الشباب الذين كانوا هم واجهة الثورة الأولى، التي سرقها منهم الإخوان، وقلب الثورة الثانية، التي قسمتهم بعد ذلك بين من يريدون «التظاهر» طوال الوقت، وهؤلاء الذين يريدون الانخراط في مسيرة بناء للوطن. هؤلاء الأخيرون دخلوا في عملية تدريب كبرى، من خلال البرنامج الرئاسي، وحوارات أكبر عبر مؤتمرات للشباب محلية وعامة لكل شباب الوطن، ومؤخراً دولية.

الخلاصة أن الجديد يخرج من رحم القديم ويتجاوزه، ربما كان ببطء، ولكن السرعة تكتسب مع الإنجاز.

 

Email