محو الأمية وأشياء أخرى

ت + ت - الحجم الطبيعي

تألمت كثيراً وأنا أشاهد شخصية سياسية مرموقة وهي تهدي، بدعابة، كتابها إلى فنان شعبي عرف عنه أنه أمي، لا يقرأ ولا يكتب. جلست أتأمل طويلاً كيف يتقدم هذا الرجل ويتمتع من دون أن يتعلم شيئاً جديداً.

ربما يقول قائل: إن الشاشات الصغيرة والكبيرة تفي بالغرض، لكن الواقع أن القراءة لا تقارن بالمشاهدات المتلفزة. وهو ما كشفه لنا باحثون عام 2001 حينما تبين لهم أن المعرفة العامة تزداد بمقدار ما نقرأ، إذ إن من بنوا معرفتهم من خلال القراءة كان لديهم «إدراك أعمق وأدق للعالم من حولهم مقارنة بأولئك الذين بنوا معرفتهم من مشاهدة التلفزيون، بل في الواقع، تناسبت مشاهدة التلفزيون عكسياً مع ازدياد المعرفة»، حسبما نشر في دورية «التوجيه المباشر» JDI.

حينما تكثف البلدان جهودها لمحو الأمية هي في الواقع تؤهل ملايين للاستفادة من فرصة تنمية تفكيرهم، فليست القراءة تسلية أو تعلم فحسب بل أضحت وسيلة لتقوية الذكاء العقلي للشعوب.

وكان ذلك ملحوظاً حينما اختبر علماء في جامعة إدنبرة وكلية كينجز لندن، مجموعة من التوائم لمدة عشر سنوات، فلاحظوا أن الشقيق الذي تخطى شقيقه بكمية القراءة قد تفوق بصورة ملحوظة في اختبارات الذكاء العقلي، وتفوق أيضاً في اختبارات الذكاء (غير اللفظية) كالمنطق والاستنتاج، وذلك في دراستهم المنشورة عام 2014 في مجلة «جمعية تطور الطفل» البريطانية SRCDJ.

من هنا سعدت حينما قرأت المبادرة العصرية والإنسانية، التي أطلقها صاحب السمو الشيخ محمد بن راشد آل مكتوم نائب رئيس الدولة رئيس مجلس الوزراء حاكم دبي، رعاه الله، وهي «تحدي محو الأمية» لتعليم نحو ثلاثين مليون شاب عربي وطفل حتى عام 2030، فنحن في إقليم عربي يعيش فيه ملايين الأميين، ولم أقرأ من قبل مبادرة واعدة بهذا الحجم.

إن محو الأمية هو بوابة الدخول إلى عالم المعرفة، وهو ما يتطلب جهود بلدان وليس أفراداً، غير أن الفرد العربي يستطيع أن «يبادر» في تغيير واقعه بتقليل الاعتماد على الثقافة الشفهية، التي ورثها العرب بأن يجعل القراءة جزءاً أصيلاً من يومياته، فكل الشعوب التي تقدمت انتشرت فيها عادة القراءة. فصار يومها غير أمسها على الأقل على الصعيد الفردي.

ولحسن الحظ أن القراءة ليست مرتبطة بالنصوص الجادة فحسب، إذ تبين أن كتب الأطفال مثلاً تمنحهم نحو 31 كلمة جديدة في الألف تفيد في بناء الثروة اللغوية، أما الحوار العابر بين بالغين فيضيف ما معدله 17 كلمة جديدة في الألف في حين أن البرامج الحوارية الراقية تكسب متابعيها نحو 23 كلمة جديدة في الألف، بحسب دراسة صدرت في دورية «التدريس المباشر» الأميركية عام 2001 بعنوان «تأثير القراءة على العقل». واللافت أن الصحف والمجلات، التي قد لا يلقي البعض لها بالاً تعد مصدران لا يستهان بهما في تعزيز المخزون اللغوي.

نحن بالفعل نحتاج إلى انتفاضة تمحو كل أفكار الجهل، التي «تعشعش» في أذهاننا مثل أن «المرأة مكانها البيت»، أو أن خطأ معشر الرجال الأزلي أنهم سمحوا لها بالتعلم ومحو أميتها. ولو كنّا أسرى تلك الأفكار البالية لما صارت بلداننا تحلق بإبداعات كلا الجنسين، الذين تبوأوا أعلى المناصب، وحصدوا أرفع الجوائز العالمية، والسبب أنهم تخطوا حاجز الأمية نحو آفاق العلم والمعرفة.

 

Email