مصر ومياه النيل.. قضية حياة أو موت

ت + ت - الحجم الطبيعي

في الأسبوع الماضي أعلنت القاهرة عن فشل المباحثات حول الجانب الفني لسد النهضة الإثيوبي، بعد اجتماع لوزراء الري في مصر والسودان وإثيوبيا، وبدا أن كل ما أبدته مصر من مرونة في هذا الملف الخطير تواجهه إثيوبيا بالتسويف ومحاولة فرض الأمر الواقع، ورفض الاعتراف بحقوق مصر التاريخية في مياه النيل التي تمثل أكثر من 85% من الموارد المائية القليلة المتاحة لمصر.

كانت إثيوبيا تدرك من البداية أنها، بحكم القوانين الدولية، لا تستطيع المضي في مشروع السد دون التوافق مع دولتي المصب لمياه النيل «مصر والسودان».. لكنها انتهزت فرصة الأوضاع المضطربة في مصر بعد يناير 2011، ثم الأوضاع المأساوية التي عاشتها مصر عام حكم الإخوان الأسود لكي تمضي في تنفيذ مشروع السد، بل وتضاعف من قدرته لتخزين المياه لترتفع من 17 مليار متر مكعب إلى حوالي 74 ملياراً.. دون حساب لتأثير ذلك على الشركاء في السودان ومصر، ولا حتى اتخاذ الاحتياطات حتى لا ينهار السد فتكون كارثة غير مسبوقة خاصة على السودان!!

ومع ذلك أبدت مصر بعد 30 يونيو مرونة هائلة في التعامل مع هذا الملف الخطير، وبذلت كل الجهد لاستعادة الثقة مع الجانب الإثيوبي، ولبناء موقف موحد بين القاهرة والخرطوم، وبنت القاهرة موقفها على نقاط أساسية:

أن حصتها من مياه النيل هي المصدر الأساسي لمواردها المائية، وأن هذه الحصة هي حق تاريخي تضمنته الاتفاقات بين شركاء نهر النيل، كما تضمنته المواثيق الدولية والمعاهدات التي تنظم توزيع المياه بين البلدان المتشاركة في الأنهار.

بالنسبة للمنافع التي يمكن أن تتولد من إقامة سد النهضة، فإنها يمكن أن تتحقق كاملة «بالنسبة لإثيوبيا والسودان الشقيق أيضاً» مع سعة لا تتجاوز ثلث السعة التي تسعى إثيوبيا إليها الآن أو أقل، بدليل أن المشروع الأساسي لهذا السد كان يحدد السعة بحوالي 17 مليار متر مكعب.. ارتفعت فجأة إلى 74 ملياراً دون هدف إلا محاولة الإضرار بمصر.. أو امتلاك ورقة للضغط لا يمكن لمصر أن تقبلها!!

بهذا الموقف الواضح، وبمرونة كاملة تعاملت القاهرة مع هذا الملف، إلا أنه أصبح واضحاً أن التسويف هو سيد الموقف من الجانب الإثيوبي، غير مدرك أن مصر لا يمكن لها أن تقبل بذلك تحت أي ظرف.. وأن ما أعلنه الرئيس السيسي على هامش المنتدى الأخير في شرم الشيخ بأن قضية مياه النيل بالنسبة لمصر هي قضية حياة أو موت، هو الموقف الحاكم لسياسة مصر حتى وإن أبدت كل المرونة وسلكت كل الوسائل لتقريب وجهات النظر.

وتدرك مصر ألا تعارض حقيقياً بين تحقيق مصالح إثيوبيا في التنمية وتوليد الكهرباء، وبين ضمان حقوق مصر التاريخية في مياه النيل، وحصتها من مياه النيل التي كانت تحصل عليها عندما كان تعدادها لا يتعدى العشرين مليون نسمة!! هذا بالطبع إذا حسنت النوايا، وإذا لم نكن أمام فصل جديد من محاولة الضغط على مصر!

والتاريخ هنا يقول الكثير.. فالوثائق البريطانية الرسمية تقول إن الحكومة البريطانية حاولت استخدام هذه الورقة كثيراً، وخاصة في أزمتي تأميم قناة السويس وبناء السد العالي، وأن رئيس الوزراء البريطاني «إيدن» حاول التلويح باستخدام مياه النيل للضغط على جمال عبدالناصر للتنازل عن السياسة المصرية والتراجع عن تأميم قناة السويس.

والوثائق تقول إن بريطانيا روجت لإقامة عدد من السدود على طول نهر النيل لقطع الطريق على السد العالي في أسوان، ثم تراجعت عن مخططاتها بعد أن أدركت أنها ستلاقي مصير العدوان الثلاثي الفاشل الذي انتهى بانتصار مصر وتأكيد سيادتها على قناة السويس عام 1956.

لكن هذا لم يمنع أن تتواصل المخططات لزرع الشقاق بين القاهرة وأديس أبابا على الدوام. وقد تنبهت القاهرة لهذا المخطط منذ البداية، وأدرك عبدالناصر في منتصف القرن الماضي أن المحاولات لن تتوقف لضم إثيوبيا إلى القوى الإقليمية غير العربية في المنطقة «إيران وتركيا بالإضافة إلى إسرائيل» للوقوف أمام نهضة الأمة العربية بعد الاستقلال والوقوف ضد محاولاتها للتقدم والوحدة.

وسعت مصر بكل مرونة إلى إقامة علاقات ودية مع إثيوبيا، وشارك الإمبراطور هيلا سيلاسي في افتتاح المقر الحالي للكنيسة المصرية مع عبدالناصر «وكانت الكنيسة الإثيوبية تابعة للكنيسة المصرية قبل أن تنفصل عنها بعد ذلك»، ثم كان هناك الموقف المتّسم بالودّ والوعي السياسي الكبير من عبد الناصر، حين بذل كل جهده لإقناع الزعماء الأفارقة بأن تكون أديس أبابا هي مقر منظمة الوحدة الإفريقية عند إنشائها، وكان الزعماء الأفارقة في معظمهم أبناء حركات التحرر الوطني التي كانت القاهرة هي مركز تحركهم والداعم الأساسي لهم، وبالتالي كانت القاهرة - بالنسبة لهم - هي عاصمة إفريقيا والمقر المطلوب للمنظمة التي تعبر عن وحدتها، لكن عبدالناصر رأى أن ذلك قد يستغل لإثارة حساسيات غير مرغوب فيها بين شمال إفريقيا وجنوبها، كما رأى أن الوقوف بجانب اختيار أديس أبابا مقراً للمنظمة الإفريقية سوف يفتح الباب لعلاقات أفضل بينها وبين مصر، ويقطع الطريق على المحاولات الحثيثة لدفع إثيوبيا إلى منطقة العداء.

وقد مرّت رياح كثيرة على مدى أكثر من نصف قرن، وخلال السنوات الأخيرة، وخاصة بعد 30 يونيو، كانت مصر تبذل جهدها لتعويض سنوات من الغياب عن إفريقيا بعد عبدالناصر، وكانت تواصل سياستها المرنة لاستعادة الثقة وبناء أوثق العلاقات مع دول حوض النيل، لكن يبدو أن هناك من يدفع بقوة بملف سد النهضة نحو الأزمة، وهو يدرك بكل تأكيد أن مياه النيل ـ كما أكد الرئيس السيسي ـ هي قضية حياة أو موت بالنسبة لمصر!!

Email