هذا ما سيكون عليه أبناؤنا

ت + ت - الحجم الطبيعي

العلاقات الإنسانية متشابكة ومترابطة ومعقدة في كثير من الأحيان، فلا يمكننا تفصيلها وبيان ما إذا كانت متماسكة بشكل كافٍ، وفيما إذا كان هناك ضعف في الترابط من عدمه فهناك إشارات ودلالات تمكننا من كشف حجم الجفاء بين الأجيال.

مهما جملنا الصورة وقلنا إن الروابط عميقة ومتماسكة، ولربما تظهر هي كذلك على الجانب الإنساني بمقاييس الأخلاق والاحترام ولكنها لا تتعدى لتصل إلى مرحلة الترابط الفكري بين أجيال يرى كل منها أن أفكاره هي الصواب، فكل واحد منهم في صراعه لإثبات أنه صاحب الحق في النظر إلى حياته كمثال وصورة يجب تدريسها لكيفية العيش في هذا العصر، وكل واحد منهم يريد لمن بعده أن يعيش الحياة طبقاً لمنظوره دون تجديد أو تحديث.

بعض الأشياء من التراث الذي نتوارثه وبصرف النظر لما يحدث له من تغيرات بفعل متغيرات العصر وأسلوبها ومنهجها، يبقى هو الحاجز الذي يعيق أن ننشئ أجيالا مستقبلية منفتحة على علوم وثقافات عصرها دون رجعة لما ترسب في عقولنا من مظاهر من شأنها أن تحد من هذا الانفتاح، فمنظورنا بأن كل ما هو قديم هو الصواب قد قلل من نتاج الحاضر وأضعف فرص التطور المستقبلي أو أبطأها على أقل تقدير.

ومن أهم الأفكار المترسبة في عقولنا والتي نورثها لأجيالنا أن نبني حياتهم ومنطق تفكيرهم على مبدأ «هذا ما وجدنا عليه آباؤنا»، فلا نتيح لعقولهم أن تفكر وتتفكر بكل ما يطرح أمامها من أفكار جديدة، وكأننا بذلك نرسم حياتهم كما هي حياتنا مع بعض المتغيرات في الشكليات فقط، ولكن في أساس المنطق الفكري فنحن ننسخ ونلصق حياتنا ونورثها لأبنائنا، ونلغي بذلك أي بوادر إنشاء جيل جديد قادر على مواكبة متغيرات عصره ومستقبله ونستمر في تطور الأجيال جيلا بعد جيل لنطمح بأن تصل أمتنا يوماً لمواكبة حداثة العصر وتطوره.

لو نظرنا إلى واقعنا من المنظور التحليلي لوجدنا أننا بحاجة لتجنب بعض العادات من الموروث الذي حمّلنا عقدة الذنب، وما أنتجته هذه العقدة من غلو في الأفكار وانطوائها على نفسها، فهذه العقدة جعلت منظورنا سلبيا ونظرتنا سلبية عن حاضرنا، وكلما اقتربنا من المستقبل تعيدنا هذه العقدة إلى موضعنا الماضي، وكأن المستقبل أو الحاضر وتطوراته بدعة علينا تجنبها، واجتنابها أسلم لنا ولحياتنا، عقدة الذنب جعلت من الكثير منا أناسا خوافين مترددين محتارين في وجهتنا، ونحن في زمن لا يحتمل التردد، والمستقبل لا يريد إلا أولئك الجريئين الطامحين المغامرين المحاولين صناعة ما هو جديد، وها هي دولتنا الإمارات بقيادتها صاحبة الطموح غير المحدود تعطينا أفضل مثال على الانطلاق بلا تردد نحو المستقبل.

الزمن الحالي والمستقبلي يتطلب أن يطور البعض منهج تفكيرهم وتعاملهم مع أبنائهم بأن يوجدوا أو يخلقوا في عقولهم النظرة المستقبلية للحياة، أن يحضروهم لتحديات العصر ومتطلباته السريعة والمتسارعة يوماً بعد يوم، فالرجعية في نطاق التفكير أخرت أمماً كثيرة ما جعل قطار التطور يفوتها، وهنا الحديث ليس عن إنجازات الدول وما تشهده من تطور في البنيان والمؤسسات إنما الحديث عن المنهجية الفكرية العقلية المنتجة للأفكار، والتي ترسم النظرة المستقبلية للحياة.

التطور المنهجي التكنولوجي وما استحدث أخيراً من علوم جديدة مثل الذكاء الاصطناعي والطباعة ثلاثية الأبعاد وأنترنت الأشياء وغيرها الكثير من المنهجيات والعلوم المستقبلية التي نشهد تطبيقاتها الحديثة في دولتنا الإمارات، تتطلب الاستعداد لها والتحضير لقبولها ومعايشتها واستغلالها والمضي قدماً في تطويرها، وهذا لن يكون بمنهج «هذا ما وجدنا عليه آباءنا»، وإنما بمنهجية «هذا ما سيكون عليه أبناؤنا»، وعلينا أن نختصر الطريق أمامهم ونزيل من عقولهم ما قد يعيقهم في المستقبل من أفكار رجعية.

المستقبل لا يريد لأجيالنا أن تتصارع، إنما يريد لها أن تتشارك وتتطور لتكمل المسيرة، وتكامل الأجيال مطلب ضروري لتحقيق النجاح المستقبلي، وما زلت هنا أتحدث عن الفكر الداخلي لا المؤسسي.

على الأجيال أن تتصالح مع نفسها ومع من يلحقها، ولا يفترض بنا فرض حياتنا على من يلحقنا، فربما هذا لا يناسبهم، بل علينا أن نطور فكرهم ومنظورهم للحياة.

كل ما عرضته لا يعني الانسلاخ من ماضينا وقيمه وإنجازاته ومنجزاته؛ بل على العكس، ما قلته هو نهج آبائنا المؤسسين لدولتنا، والذين علمونا كيف ننطلق نحو المستقبل. علينا أن نفتح عقولنا وعقول أبنائنا على كل العصور والأزمنة، وأن نحاول أن نخلق الموازنة بين القيم والأخلاقيات التي تربينا عليها وبين المنهجيات الفكرية التي تنتظر مستقبلنا ومستقبل أجيالنا.

Email