أميركا وتركيا أمام منعطف

ت + ت - الحجم الطبيعي

لطالما كانت تركيا، وعلى امتداد عقود من الزمن حليفاً على قدر كبير من الأهمية بالنسبة للولايات المتحدة الأميركية. وتركيا ذاك البلد العلماني الديمقراطي ذو الأغلبية المسلمة، والعضو في حلف «ناتو» الواقع على مفترق طرق بين أوروبا ومنطقة الشرق الأوسط وروسيا، ومحطة انطلاق مركزية للنشاط الأميركي في العراق. غير أنها في الآونة الأخيرة شكلت شاهداً على تنامي الشحناء والبغضاء على ضفتي البلدين الحليفين.

وعمدت السلطات التركية في الرابع من أكتوبر الجاري إلى إلقاء القبض على أحد موظفي القنصلية الأميركية في مدينة إسطنبول التركية على خلفية اتهامات بحقه تمحورت حول قضايا تجسس وإقامة روابط مع رجل الدين التركي المنشق فتح الله غولن، الذي يُلقي رئيس البلاد رجب طيب أردوغان عليه بلائمة القيام بمحاولات انقلاب خلال العام المنصرم، ويرغب في أن يتسلمه بصفة مجرم بعد طرده من منفاه الاختياري في أميركا.

وسبق للسلطات الأميركية أن نفت الاتهامات المتعلقة بموظفها، ولجأت إلى ردّ انتقامي تمثل في إقدامها بعد أربعة أيام، تحديداً في الثامن من أكتوبر بوقف جميع خدمات التأشيرات لغير المهاجرين من الجنسية التركية الراغبين في زيارة الولايات المتحدة. ولم تلبث أن مضت بضع ساعات على صدور القرار الأميركي حتى حظرت السلطات التركية على المواطنين الأميركيين الحصول على تأشيرة لدخول الأراضي التركية. وتأتي هذه الخطوة في أعقاب قرار كانت قد اتخذته أنقرة في سبتمبر الماضي، وقضى بشراء منظومة دفاع صاروخية من روسيا، في تحرّك يجسّد استفزازاً استثنائياً من قبل دولة عضو في حلف «ناتو».

لا تلوح في الأفق القريب بوادر أي تحسّن محتمل يمكن أن يطرأ على طبيعة العلاقات بين البلدين. وتتمثل المشكلة الأولى في عدم تمكّن أردوغان من إقناع إدارة ترامب بالأمور من وجهة نظره. فالبيت الأبيض لن يتخلى عن فتح الله غولن أو يسلّمه، كما لن يمنح الدعم المطلق غير المشروط لرهان أردوغان على تعزيز وتقوية قوته الرئاسية، كما لن يقطع دعمه للمقاتلين الأكراد في سوريا، ممن تعتبرهم تركيا على علاقة وارتباط وثيقين بالإرهاب.

ولقد أصبح أردوغان معتاداً على ما يبدو لإدارة الظهر منذ عهد الرئيس الأميركي السابق باراك أوباما، لكنه كان لا يزال يأمل مع ذلك بأن تتخذ الأمور منحى مغايراً مع الرئيس الحالي ترامب. وإنه يشعر كما الرئيس الروسي فلاديمير بوتين بالغضب لأن آماله ذهبت أدراج الرياح.

وتتجسّد المشكلة الثانية في أن أردوغان، كما بوتين سوف يرى على الأرجح اسمه ظاهراً في وسائل الإعلام الأميركي بوصفه جزءاً من تحقيق المستشار الخاص روبرت مولر المتعلق بمزاعم التدخل الروسي في الانتخابات الرئاسية الأميركية وحملة ترامب. وقد أفادت بعض المزاعم بأن مستشار الأمن القومي السابق مايكل فلين قد أوقف مخططاً عسكرياً عارضته تركيا، وذلك بعد أن دفعت جماعة الضغط في اللوبي التركي مئات آلاف الدولارات.

وإذا عمد المحققون الأميركيون إلى الكشف عن مزيد من التفاصيل المرتبطة بتلك المزاعم، فإن الرئيس التركي القابع تحت مجهر الانتقادات لن يستسيغ التغطية الإعلامية التي سيحظى بها في أميركا. وسيتجه في غالب الظن إلى الدفع باتجاه انتخابات مبكرة في العام 2018، حيث يسعنا أن نتوقع حصول نهضة في الخطاب المعادي لأميركا على امتداد مسار الحملات الانتخابية.

لا يرادف الجمود الدبلوماسي الطارئ على العلاقات التركية الأميركية، حتى اللحظة الراهنة، نشوب الحرب الباردة، ويمكن القول إنه في ظل غياب الأزمة، لن تهجر تركيا حلف «ناتو»، الذي لن يطردها من صفوف أعضائه. قد لا يعترف أردوغان بالأمر، لكنه على أتم اليقين بأن حلف منظمة شمالي الأطلسي يشكل حليفاً مأمون الجانب على نحو يتفوق بأشواط في المدى البعيد على روسيا، سيما في ظل علم الكرملين بأن أنقرة لا تملك الكثير من الخيارات.

أضف إلى ذلك أن تركيا تحتل أهمية كبرى على الصعيد الاستراتيجي لا يمكن لكل من أميركا وأوروبا تجاهلها. إلا أنه على أقل تقدير، وبانتظار أن تحظى كل من الولايات المتحدة وتركيا برئيسين جديدين، لن يدخل البلدان في إطار التحالف الحقيقي.

Email