ألمانيا تعيش الـ «بريكسيت» الخاصة بها

ت + ت - الحجم الطبيعي

أظهرت وسائل الإعلام الألمانية على امتداد عام ونصف العام نفحةً من الشماتة، وغمزت صحيفة داي تاغيستانغ ذات النزعة اليسارية صبيحة استفتاء الـ»بريكسيت» من قناة المستشارة الألمانية أنغيلا ميركل حين عنونت صفحتها الأولى «أحسنت صنيعاً يا بريطانيا الصغيرة!» مثبتةً أن البرلينيين أنفسهم بالرغم من نمطية افتقارهم لحسّ الفكاهة يمكن أن يسخروا إذا استدعى الأمر. أما صحيفة بيلد زيتونغ فاختارت عناوين تتماهى أكثر مع عبارة «هكذا أخفق كاميرون». في حين صوبت «دير شبيغل» سهاماً أكثر حدة بعنوان «ماتت أوروبا، عاشت أوروبا؟»

اليوم، وبعد 15 شهراً على الاستفتاء يمكن القول إن ألمانيا تعيش لحظة الـ»بريكسيت» الخاصة بها. ولا يزال الحديث مبكراً بالطبع عن التحول الشامل نحو الحمائية، كما لا يزال غير مبرراً وضع عناوين مثل «ألمانيا الصغيرة» و«إخفاق» ميركل، لكن يتضح أن المستشارة تعاني من مشكلة في هذا الإطار.

وحققت ميركل في الانتخابات الأخيرة، وبعد 12 عاماً لها في منصب المستشارية، فوزاً لولاية رابعة مقنعة نسبياً، إلا أن دعم الاتحاد الديمقراطي المسيحي لحزب البديل من أجل ألمانيا جاء مستنزفاً. وحصد الحزب نسبة 13 بالمئة من أصوات الناخبين بما منحه الدعم الكافي ليصبح الحزب اليميني المتطرف الأول الذي يدخل البرلمان منذ أكثر من نصف قرن. بينما شهد كل من الحزب الديمقراطي المسيحي والحزب الديمقراطي الاشتراكي النتيجة الأسوأ لهما منذ العام 1949، وجاءت المكاسب التي حققها حزب البديل من أجل ألمانيا في شرق البلاد أكثر تأثيراً.

لقد تخطى حزب البديل من أجل ألمانيا في الواقع، في الولايات الخمس التي أعيد اتحادها عام 1990، هامش الغالبية الساحقة من التوقعات فحصد نسبة قاربت 23 بالمئة من أصوات الناخبين، ووضعت الحزب في المقام عينه تقريباً للاتحاد الديمقراطي المسيحي بزعامة ميركل، الذي حاز على 27.6 بالمئة من الأصوات. ويطرح ذلك واقعاً يصعب تقبله على ميركل، التي ترعرعت بالرغم من ولادتها في الغرب خلف ذاك الستار الحديدي.

وتواجه ميركل في الفترة الحالية تحديات جبارة لتوليف حكومة ائتلافية يتقاسمها حزبها مع الحزب الديمقراطي الليبرالي، وحزب الخضر فيما يسمى حلف جاميكا، نظراً لتوافق ألوان أعلام الأحزاب مع راية ذاك البلد الكاريبي.

لم يسبق لألمانيا أن شهدت سيناريو مماثل، على الرغم من أن القارئ معذور إذا شعر بأنه قد سبق أن قرأ حول مشهد مشابه لرأس دولةٍ مرتبك، وقد أخذه على حين غرة مدّ الشعبوية. أما الحزب الديمقراطي الاشتراكي المقيّد والمجروح فقد أعلن بعد أن شكل الشريك الأصغر للاتحاد الديمقراطي المسيحي على امتداد الأعوام الأربعة الماضية، أنه سيكون خلال هذه الولاية في صف المعارضة.

إن ما يحدث في ألمانيا، والتي شهدت بريطانيا مثيلاً له في يونيو 2016 وعايشته الولايات المتحدة في نوفمبر من العام الماضي، ليس إلا أحد أعراض علامات عدم الرضى المستفحل والهجمة الشرسة بمواجهة الهجرة والعولمة. وإن الناخبين الذين يشعرون بعدم كفاية التمثيل أو التهديد فيردون بقسوة وشراسة.

وإذا أراد أحدهم أن يبحث عن قاسم مشترك حول ما تعانيه المملكة المتحدة حالياً، وما قد تنبهت ألمانيا لوجوده، فلا ينبغي النظر أبعد من زعيم استقلال المملكة المتحدة (يوكيب) نايجل فاراج والاحتفاء الحماسي الذي أبداه من وُصف بالسيد بريكسيت حين تحدث خلال اجتماعات حزب البديل من أجل ألمانيا السابقة للانتخابات. وقد تم الثناء عليه كنموذج ومثال للسياسي المتشكك أوروبياً الذي يسعه الوصول إذا عقد العزم على ذلك. وشكل فاراج عنصر تذكير على أنه بالرغم من وجود عدد من الأحزاب اليمينية المتطرفة العاجزة عن الإقلاع وتحقيق النجاحات في كل من فرنسا وهولندا، فإن الإرادة تصنع المعجزات.

من المؤكد أن قرار بريطانيا الانعتاق من بوتقة الاتحاد الأوروبي قد وجّه صفعة قوية لمبدأ الحلم الأوروبي المشترك. إلا أن ألمانيا بقيادة أنجيلا ميركل التي تعدّ بلا أدنى شك واحدةً من مهندسي التكتل بصيغته الحالية، يتوجب عليها العمل جاهداً للحيلولة دون توجيه الضربة القاصمة المقبلة. حيث لا يسع في النهاية القول إلا أن الشماتة قد تشكل عناوين إخبارية قوية، لكن يضحك كثيراً من يضحك أخيراً.

Email