بين خبث الأفراد ودهاء التاريخ

ت + ت - الحجم الطبيعي

ميزت العرب بين الخبث والدهاء، فقالوا عن الخبيث هو السيئ، فيما الداهية هو الذكي.

فخبث اﻷفراد مقصوده تحقيق مصالح ذاتية عن طريق سلوك غالباً ما يؤذي اﻵخر. ﻷن الكائن لا يمارس الخبث إلا على اﻵخر، فهو خليط من الشطارة والكذب والنفاق والتآمر الذي يصل حد التضحية بالبشر. وهذا حال الحوثيين في اليمن وحزب الله في الشام وداعش أينما كانت، وميليشيات الوسخ التاريخي في العراق وإيران.

ولعمري فإن أخطر خبث هو خبث الأغبياء، لأنه لا حدود له، وليس واعياً لمصيره ولا لمصير من يخبث بحقهم. فيما يكون خبث الأذكياء محدوداً بفهم حقل فاعلية الخبث وعلاقته بالمصالح الممكنة.

في الخبث هناك غياب الضمير الأخلاقي غياباً تاماً، غياب الضمير، وقد يكون صاحبه ذكياً، كما قلنا، فيدرك حدود خبثه، وقد يكون غبياً، فلا يعرف حداً ويقع في شر أعماله، بل ويوقع الضرر بمن حوله من اﻷقربين.

وغالباً ما يترافق الخبث مع التقية.

والتقية أن تعلن عكس ما تضمر. فمن شروط انتصار الخبث عند أصحابه الكذب، بل والكذب المطلق. والتقية لمن لا يعلم لم تعد تعني الإخفاء اتقاء الشر وإنما وسيلة لارتكاب الشر، ويمكن للخبث أن يطبع ذهنية جماعة بكاملها. بل قد نجد شعوباً تصف شعوباً أخرى بكاملها بصفة الخبث بمعزل عن صدق هذا الوصف أو لا، فالروس مثلاً يتحدثون عن خبث الأوكرانيين، وأهل مدن مصر يتحدثون عن «الخبث الفلاحي»، والأكثريات تتحدث عن خبث الأقليات وهكذا. وقد يكون ذلك ثمرة نوع من العنصرية أو الترفع.

والحق أنه كلما اتسع حقل الحرية قل حقل الخبث والخبيثين بسبب انتفاء الحاجة له. لكنه لن يزول مادام الكائن البشري موجوداً على ظهر اﻷرض.

أما دهاء التاريخ، فهو روح التاريخ نفسه التي لا تطيق السكون ولا تحتمل غلاظات البشر المناقضة لها إلى أمد طويل. والتي تخلق الفاعلين التاريخيين لإنجاز روحه على الأرض.

إن روح التاريخ العربي تتجلى اليوم بروح اﻷجيال الجديدة ذات الحاجات التي لا تخطر على بال الطغاة الصغار، وأهم هذه الحاجات الوفرة والحرية للاندراج في حركة التاريخ العالمي، الذي أصبح في أكثر تجلياته تاريخاً محلياً. وهذا الجيل يتميز بالدهاء، ويعرف حقيقة السيرورة التاريخية ويعرف سلوك الخبثاء. وما جرى ويجري على أرض الواقع العربي هو صراع بين خبث طغاة أغبياء من كل الأنواع ودهاء التاريخ العبقري الذي سرعان ما ولد الكتلة التاريخية المعبرة عن دهائه.

وهذا الذي ميز بين المنتمين إلى خبث الطغاة الغبي وبين المنتمين إلى دهاء التاريخ العبقري. ولا قبل أصلاً لخبث الطغاة إذا ما انفجر دهاء التاريخ بمواجهته.

ولعمري إن ما يجري على الأرض لهو صراع بين من هم مع روح التاريخ ودهائه وبين بقايا مزحات التاريخ المزعجة التي تعتقد أن خبثها قادر على الصمود في وجه روح التاريخ التي لا تغير مسارها مهما واجهت من مصاعب وعثرات.

‏ولا يحسبن المرء بأن الصراع بين خبث الأفراد ودهاء التاريخ وأنصاره صراع سهل. لأنه في النهاية صراع بين المستنقع بما يعج به من كائنات تكره الهواء والنهر الذي من شيمته أن يجري حراً ليسقي الحياة.

Email