رصيف دعاة الفتوى

ت + ت - الحجم الطبيعي

في ظل انتشار دعاة الفتوى أصبح لا بد لنا من إنشاء نقابة خاصة ترعى مصالحهم، فقد أصبحوا يشكلون ثقلاً ووزناً وتعداداً في المجتمع، فبين كل داعية وداعية ستجد تلميذاً يريد أن يصبح داعية في المستقبل، فبتنا لا نميز العالم من الجاهل، فجميعهم يتصدرون مجالس الفتوى وأحاديثهم تصبح رويداً رويداً كلاماً منزلاً مقدساً لا يجرؤ أحد على الطعن فيه.

في هذا الزمان إن أردت أن تكسب الشهرة فعليك أن تخرج لنا بصورة الداعية الملتحي وتُصدر فتوى غريبة، وحينها ستتناقل وسائل الإعلام هذه الفتوى وتجد من يرد عليها من جهة ومن يؤيدها من جهة أخرى، وربما تجد مؤتمرات وجلسات حوارية تعقد لمناقشة هذه الفتوى، وليس ببعيد أن تشاهده بعد أقل من شهر داعية مشهوراً يتصدر شاشات التلفاز، فالهواء مفتوح والبث متاح 24 ساعة لخدمة دعاتنا ومشايخنا.

حقيقة نأسف للحال الذي تحوّل فيه الدين والفقه لوسيلة يسترزق منها من لم يجد عملاً يقوم به، أو من وجد نفسه مرغماً على دراسة تخصصات الشريعة والدراسات الإسلامية لتدني معدلات قبولها في جامعاتنا العربية، ليتخرج من فصلها الدراسي الأول عالماً جليلاً لا ترد كلماته ولا يخاطب إلا بمقام العلماء الأجلاء، كل هذا فقط لأنه ردد بعض الكلمات التي سمعها من بعض أساتذته أو قرأها في أمهات الكتب دون إدراك لأبعادها أو أغراضها، وبهذا يختصر مشواراً طويلاً من العمل والجهد ليكسب احترام الناس من حوله.

المشكلة ليست باحترام الناس ولا بتقديرهم له، المشكلة أن كلماته ومهاتراته من قصص وروايات أصبحت مصدقة وموثوقة لدرجة لا يمكن المساس بها، فقد خرجت من شفاه تتخذ أسلوب الصفير مخرجاً لحروفها، ولسنن رسول الله، عليه الصلاة والسلام، «شكلاً» بلا «مضمون» وأسلوباً لتصرفاته.

إن بقينا على هذا المنوال فسيأتي اليوم الذي نجد فيه عدد المفتين أكثر من عدد التابعين، وسنجدهم في طوابير على الأرصفة ينتظرون دورهم في إصدار الفتوى، فالفتوى أصبحت سهلة «شربة مي» كما نقولها في العامية، بل أصبحت مقولبة بقوالب وأشكال حسب الطلب «تفصيل»، فكيفما تريد ستجد فتوى تناسب متطلباتك واحتياجاتك، وإن وصل مصدر الفتوى لدرجة كبيرة من الشهرة وكثرت عدد الريتويتات واللايكات والمشاهدات في حساباته فسيصبح الناطق الرسمي باسم الدين، والمرجعية التي تحلل وتحرم كيفما تشاء، ولا يوجد أكثر حظاً من هؤلاء إلا الذي ينال برنامجاً تلفزيوناً أو إذاعياً يشهره ثم تدعمه الجهات العليا في الدولة ليتسلط على الناس ويكون بعدها أسداً في الغابة لا يشق له غبار، ولا يرد عليه أحد فهو مدعوم من السلطة.

كل هذا بخلاف أن هذا الداعية الكبير سيصبح حجر أساس في جميع المؤتمرات والاجتماعات التي تناقش أمور الأمة، وسيصعد هذا الداعية ليصبح نائباً عن الشعب وممثلاً عنهم في مجلس الأمة، وليس ببعيد أن يتسلم الحقائب الوزارية بل ستنتدبه وزارات التعليم لمراجعة المناهج الدراسية، فهؤلاء نصبوا أنفسهم علماء في جميع المجالات، ونحن من صدقناهم ورفعنا شأنهم وسلمناهم أمرنا، ليختاروا لنا ما يرونه مناسباً لمصالحهم، وتنفيذاً لأجنداتهم ونحن عنهم غافلون.

علينا أن نفيق من هذا الكابوس المزعج، فحال الأمة يرثى له، واختلط الحابل بالنابل، فلم نعد نعلم هل ما نسمعه خرافة أو هو من العلم، أم هو من تأليف الدعاة ليستعطفوا الناس ويذهبوا عقولهم باستحضار عواطفهم ليتمكنوا من السيطرة عليهم، متى نفيق من هذا التنويم العاطفي ونستحضر عقولنا ونتفكر ونفكر ونحلل كل ما نقرأ ونسمع وكل ما نشاهد.

إن تقنين مصادر الفتوى ووضعها في إطار تنظيمي علمي مؤسسي هو الحل لكل هذه المهاترات التي يتبعها كل من اتخذوا الإسلام شكلاً فقط، ولهذا قامت دولتنا دولة الإمارات بإيجاد حل جذري بإنشاء مجلس الإمارات للإفتاء والذي من مهامه إصدار الفتاوى التي تهم المجتمع ليكون هو المنبر الوحيد لإصدار الفتاوى وتعميمها وإسنادها بالضوابط الشرعية، ومخالفة من يقوم بإصدار فتوى بغير تخصص وذلك بهدف حماية المجتمع..

نحن في أمس الحاجة إلى أن تسير المنظمات والهيئات والمؤسسات الإسلامية في عالمنا الإسلامي بالانضباط لمراجع إسلامية محددة لإصدار الفتوى، فاليوم فتوى واحدة تستطيع أن تخلق مجتمعاً مجرماً عدائياً ينازع العالم على أمنه وأمانه، وهذا ما حصل خلال السنوات الأخيرة الماضية، فبعض الفتاوى التي أصدرها دعاة الفتنة والتكفير جعلت الإرهاب مرتبطاً بالإسلام، والإسلام بريء منه ومن دعاته ومنظماته وتنظيماته ودوله.

Email