العالم يشهد شغباً جماعياً

ت + ت - الحجم الطبيعي

يُجمع عدد من المراقبين والمعلقين، سيما أصحاب الميول اليسارية على أننا نعيش في زمن من المعارضة السياسية غير المسبوقة من حيث حالات الاشتباك القتالية المتشددة.

وقد أشار الصحافي البريطاني بول مايسون في كتابه الصادر عام 2012 بعنوان «لماذا الإضرابات في كل مكان» إلى أن أحداث الربيع العربي التي انطلقت في 2011 لم تكن إلا واحدة من الحركات المتعددة في منظومة تقول «الثورة العالمية قد وجدت لتبقى».

وقد أصبحت أعمال الشغب على وجه التحديد أكثر شيوعاً. وكتب آلان باديو، الفيلسوف الفرنسي البارز في العام 2012 كذلك أننا نعيش في «زمن الفتنة»، و«الانتفاضات الشعبية العالمية» التي لا تؤشر حتماً على «ولادة جديدة للتاريخ» عقب «نهاية التاريخ» التي كان العالم السياسي فرانسيس فوكوياما أول من وضع نظريتها في العام 1989.

ولا تزال هذه الفكرة بمعزل عن كونها نتاج أحداث العنف التي طبعت عامي 2011 و2012، تسير على الطابع العام اليوم. ففي العام 2016 نشر الصحافي والفيلسوف البريطاني جوشوا كلوفر كتاباً بعنوان «الإضرابات. الاعتصامات. الاضطرابات» مبشراً بـ «حقبة جديدة من الثورات». وزعم كلوفر، بنفحة مفاجئة من الثقة أن «أعمال الشغب قد عاودت الظهور كتكتيك طليعي في مخزون الحراك الجماعي في الدول الناشئة».

وتوجد أمثلة بارزة تمتد من بيركرلي في كاليفورنيا وصولاً لهامبورغ الألمانية تدعم على ما يبدو وجهة النظر القائلة إن المحتجين في ديمقراطيات الغرب لم يسبق أن كانوا بمثل هذا الشغب كما في السنوات القليلة الماضية.

وعلى الرغم مما يبدو لبعض الصحافيين والفلاسفة بأن ثقافة الاحتجاج العالمية آخذة في التجذر، إلا أن معظمهم يتجاهل المعطيات التطبيقية التي تشير لخلاف ذلك. وقد استعنت بمجموعة حقائق محدثة شاملة حول النشاط الاحتجاجي عبر العالم مستعيناً بأرشيف المعطيات عبر الدول على امتداد التسلسل الزمني بنسخته لعام 2017 لآرثر بانكس وكينيث ويلسون بغية رسم صورة أكثر منهجية تصف حركة أعمال الشغب في العالم.

وتبيّن لي، بعد احتساب النمو السكاني، وديناميات التظاهرات السلمية، والتاريخ التوضيحي لبعض الدول، وجود حالات من التهدئة النسبية عبر العالم لأعمال الشغب على امتداد العقود الماضية. وتحققت كذلك من صحة استنتاجاتي قياساً بمختلف طرق تحديد أنظمة الدول.

وقد بلغ العدد الإجمالي للاضطرابات السنوية بين أعوام 2011 و2016 حوالي 253، لكن التاريخ يسجل أن العالم قد شهد بين أعوام 1919، وحتى 1992 معدلاً سنوياً للاضطرابات وصل إلى 53 اضطراباً في السنة، إلا أنه في الأعوام التي سبقت 2011، أي من العام 1993 وحتى 2010 شهد العالم معدل اضطرابات بالكاد بلغ 35 إضراباً سنوياً. وقد بدا في أعقاب انهيار الاتحاد السوفييتي وكأن انتصار الديمقراطية الليبرالية قد أزال أخيراً كل أسباب أشكال الاحتجاج المسلّح غير المنهجي كأعمال الشغب.

ويبدو للوهلة الأولى أن هناك دليلاً دامغاً على الفورة العالمية في الاضطرابات منذ العام 2011، لكن الأمر يعكس بجانب منه عدداً أكبر من المشاغبين المحتملين الموجودين في عالم اليوم. ففي العام 1964، على أعتاب موجة الاضطرابات التي سادت بين أعوام 1965 و1970، كان تعداد البشرية يصل إلى حوالي 3.2 مليارات نسمة، أما في 2016 فقد ارتفع عدد السكان إلى الضعف تقريباً وصار 7.3 مليارات نسمة.

ويطرح هذا الواقع عدداً من الإشكاليات سيما حين نحلل حالة أعمال الشغب في العالم على امتداد الزمن، ذلك أن كل شخص جديد يرفع قليلاً أرجحية حصول الشغب. وإن العدد النهائي للاضطرابات يمكن أن يزيد مع الزمن حتى لو ظلت السلوكيات على حالها أو تقلص منسوب الفتنة، أو إذا شاركت نسبة أقل من السكان في أعمال الشغب.

ويمكن من أجل الحصول على معنى أوضح لديناميات الاضطرابات العالمية أن نقسم عدد أعمال الشغب سنوياً على مجموع السكان لنرى مدى ومعدل «الشغب» للفرد كل عام. وتشير ملاحظاتي حول التراجع العالمي المحير للسلوك القتالي السياسي للفرد منذ الستينيات إلى أن التحولات في عالم تكنولوجيا المعلومات كانت لها تأثيرات عميقة على المواقف والسلوكيات السياسية بطرق قد بدأنا نفهمها للتو.

ولا شك أن الباحثين سيمضون في الجدال حول أسباب وتداعيات الموجات الحديثة لأعمال الشغب حول العالم. وإن كان هناك من خلاصة نتوصل إليها اليوم فهي أن مظهر أعمال الشغب المتزايدة تخفي أكثر ما تبدي بالتأكيد.

* محاضر أميركي في السياسة والحوكمة

Email