الرأسمالية والاشتراكية بين زمنين

ت + ت - الحجم الطبيعي

اسمان لامعان في تاريخ الثقافة الإنجليزية، يفصل بينهما نحو قرن ونصف القرن، وترك كل منهما أثراً عميقاً في السياسة الاقتصادية والاجتماعية، ليس فقط في إنجلترا بل في العالم ككل.

أولهما جيرمي بنثام (Jeremy Bentham) الذي نشر في أواخر القرن الثامن عشر كتاباً بعنوان (مبادئ الأخلاق والتشريع) وكان يعتقد أنه يقدم به في علم الأخلاق والتشريع ما يقابل ما قدمه اسحق نيوتن في علم الطبيعة: مبدأ المنفعة في حالة بنثام، في مقابل فكرة الجاذبية عند نيوتن.

كان طرح فكرة المنفعة، أو تحقيق أكبر نفع لأكبر عدد ممكن من الناس يمثل ثورة على الأفكار والمبادئ السائدة في القرون السابقة.

أما الشخصية الثانية فهي مينارد كينز (Maynard Keynes) الذى يعتبر واحداً من أهم اقتصاديي القرن العشرين، والذي دعا إلى تدخل الدولة لإصلاح ما قد يفسده الأفراد المدفوعون بالرغبة في تحقيق مصالحهم الخاصة.

لكينز قول مشهور يصف فيه مبدأ المنفعة الذي قدمه بنثام بأنه (كالدودة التي تنهش في أحشاء الحضارة الغربية) وكان يقصد بذلك الحالات التي تتعارض فيها المنافع الخاصة مع المصلحة العامة. فهنا يجب في رأيه أن يكون للدولة دور لتصحيح الأمر.

كان من الاقتصاديين في مصر من تحمس لهذا الموقف أو ذالك ففي الأربعينات والخمسينات من القرن العشرين تحمس للحرية الاقتصادية الأستاذ وهيب مسيحة (في كلية التجارة) وسعيد النجار (في كلية الحقوق)، وكان منهم من تحمس لتدخل الدولة (كراشد البراوي وعبد الرزاق حسن) ثم جاءت الثورة المصرية في 1952 وتبنت في البداية مذهب الحرية الاقتصادية، ثم عدلت عنه في أواخر الخمسينات وطبقت ما عرف بالاشتراكية العربية في الستينات.

كان المبدآن يتنافسان بشدة في العالم كله، طوال الخمسينات والستينات، ولكن بدأت حدة التنافس تضعف شيئاً فشيئاً منذ أواخر الستينات لصالح مبدأ الحرية الاقتصادية وخبا نجم الاشتراكية مع ازدياد نفوذ ما عرف بالشركات المتعددة الجنسيات ثم بتفكك دولة الاتحاد السوفيتي، وتحول كل جزء منها إلى نظام أقرب إلى الرأسمالية منه إلى الاشتراكية. فلم يبق من الدول من يحمل لواء المبادئ الاشتراكية إلا دولة صغيرة هي كوريا الشمالية، أو دولة تطبق مزيجاً من الاشتراكية والرأسمالية هي الصين.

هل يعني هذا التطور أن الصواب كان في جانب دون الآخر، وأن الجانب المصيب هو الذي انتصر في النهاية؟ لا أظن ذلك. كل ما في الأمر، في رأيي، أن الفكر الاقتصادي والسياسي السائد يستجيب دائماً للظروف الاقتصادية السائدة.

لقد ظهر مبدأ بنثام في المنفعة في بداية عنفوان الرأسمالية الصناعية في أواخر القرن الثامن عشر، وظهرت كتابات كينز عندما أصيبت الرأسمالية بأزمة عنيفة في ثلاثينات القرن العشرين. ثم استعاد مبدأ الحرية الاقتصادية قوته مع استعادة الرأسمالية نشاطها منذ الحرب العالمية الثانية.

منذ سنوات قليلة ظهر كتاب لاقتصادي فرنسى هو توماس بكيتى (Thomas Piketty)، بعنوان (رأسمالية القرن الواحد والعشرين)، أبرز فيه ما حدث من تدهور في توزيع الدخل في داخل الدول المتقدمة الصناعية، وكذلك بينها وبين الدول الأقل تقدماً. وقد دعا هذا التطور بعض الاقتصاديين إلى القول بأننا على أبواب عصر جديد تعود فيه الدولة إلى ممارسة دور كبير في الاقتصاد.

وقد يكون هذا صحيحاً، ولكن من الصحيح أيضاً أننا نعيش الآن عصر العولمة، ما قد يفرض على السياسة الاقتصادية، في مختلف بلاد العالم، تطورات لم نعهدها من قبل، ويحتاج التبوؤ بها إلى أكثر من استقراء التطور التاريخي، وبعض الخيال.

 

 

Email