كيف يحكم ترامب بعد تشاروتسفيل؟

ت + ت - الحجم الطبيعي

حين تخرج مجلتان أميركيتان وأخرى بريطانية، كل بغلاف يربط بين ترامب من ناحية والنازية والعنصرية من ناحية أخرى، نكون إزاء نقطة تحول.

وحين يستقيل عدد من كبار رجال الأعمال من مجلسين استشاريين بالبيت الأبيض فيضطر الرئيس لحل المجلسين، نكون إزاء نقطة تحول. وحين تصدر كل قيادات المؤسسة العسكرية بيانات تناقض موقف الرئيس الأميركي، الذي هو القائد الأعلى للقوات المسلحة، نكون إزاء نقطة تحول.

وحين تخرج قيادات من حزب الرئيس لتشكك في «توازنه» نكون إزاء نقطة تحول. وحين تقول تقارير لصحف رصينة إن البيت الأبيض يعاني انخفاضاً ملحوظاً في معنويات العاملين به، نكون إزاء نقطة تحول.

فالأحداث التي وقعت في مدينة تشارلوتسفيل كانت خطيرة في ذاتها، قبل أن يعلق عليها الرئيس.

فقد نظم النازيون الجدد والعنصريون مظاهرة ضخمة احتجاجاً على اتخاذ المدينة قراراً بإزالة تماثيل لرموز الكونفدرالية الذين كانوا، في الحرب الأهلية، يريدون الإبقاء على العبودية أو انفصال ولايات الجنوب.

وقد خرج المتظاهرون مدججين بالسلاح فضلاً عن الهراوات وغاز الفلفل، ويحملون أعلام الكونفدرالية والنازية، وراحوا يرددون شعارات بالغة العنصرية ضد السود واليهود والمسلمين.

وقد اتسم سلوكهم بالعنف المادي واللفظي معاً. وقد خرجت مجموعات أخرى مناهضة للنازية والعنصرية، فاشتبك معهم النازيون الجدد والعنصريون الذين قاد أحدهم سيارة انطلقت بأقصى سرعة وسط الجمع فقتلت سيدة وجرحت العشرات.

وقد صورت العدسات عدداً من أولئك البيض يضربون بوحشية شاباً أسود انتهى به الأمر لغرفة العناية المركزة.

وقد انتظر الأميركيون بياناً رئاسياً يصدر في مثل تلك الظروف، يهدف لتضميد الجراح، وتوحيد أمة منقسمة على نفسها حول المسألة العرقية، التي هي «المعضلة الأميركية» الكبرى، على حد تعبير عالم نوبل السويدي، جانر ميردال.

فإذا بترامب يلقي باللوم على أنصار العنصرية ومناهضيها بالتساوي، مما أثار انتقادات واسعة.

ووسط الضغوط الشديدة، خرج الرئيس بتصريح جديد أدان فيه بالاسم النازيون الجدد ومنظمة كو كلاكس كلان، أعتى منظمات العنصرية، وصاحبة التاريخ البشع في اضطهاد السود وقتلهم وترويعهم.

لكن ما هي إلا ساعات حتى عقد ترامب مؤتمراً صحفياً لإعلان خطته لإصلاح البنية التحتية، فإذا بالمؤتمر كله عن أحداث تشارلوتسفيل وإذا بالرئيس يغير موقفه للمرة الثانية ويلغي بكلماته ما قاله قبل ساعات! فقد عاد الرئيس لموقفه الأول الذي أثار الانتقادات ويدافع عن «بعض» الذين كانوا في المظاهرة العنصرية ويصفهم بأنهم «أناس رائعين»، واحتفظ ترامب بأكبر اللوم للتظاهرة المضادة للعنصرية والنازيون الجدد. واعتبر أن اللوم ينقسم بالتساوي بين المعسكرين.

ثم رفض الرئيس أن يصف استخدام الشاب العنصري سيارة لقتل المتظاهرين «بالإرهاب».

المفارقة أنه عاد بعد يومين فقط ليصف الفعل نفسه حينما جرى في برشلونة بالإرهاب. وقد أدت تلك التصريحات لاستقالة عدد من رجال الأعمال من مجلسين استشاريين للرئيس مما أدى لحلهما.

وأصدرت قيادات المؤسسة العسكرية بيانات لا تذكر ترامب بالاسم ولكنها تدين العنصرية والنازية وتؤكد أن لا مكان لها في المجتمع والمؤسسات الأميركية. وخرجت قيادات من حزب الرئيس، بمن فيهم رئيس مجلس النواب نفسه، تدين العنصرية وتنأى بنفسها عن الرئيس.

لكن تلك لم تكن نهاية القصة. فبعد أن كان ترامب بالمؤتمر الصحفي قد استخدم الرد التقليدي لليمين الأميركي بخصوص إزالة تماثيل الكونفدرالية، التي ترمز للعنصرية والتفوق الأبيض، بقوله إن تلك مسألة تحددها المجالس المحلية، إذا به يغير موقفه ويؤكد رفضه لإزالتها من الميادين والساحات العامة مؤكداً أن مثل تلك الإزالة تمثل عدواناً على الثقافة والتاريخ الأميركيين.

عند تلك النقطة، خرج واحد من أهم رموز الحزب الجمهوري وهو السيناتور بوب كوركر رئيس لجنة العلاقات الخارجية بمجلس الشيوخ بتصريح بالغ الدلالة، كونه بدا في التسجيل بالصوت والصورة، وهو يجتهد لاختيار كلماته بعناية.

فهو قال إن الرئيس لم يكشف عن «التوازن والكفاءة اللازمين لنجاحه». وتلك ربما المرة الأولى التي يشكك فيها علناً واحداً من قيادات حزب الرئيس في قدرة الرئيس على القيام بمهامه.

ومما يجعل لذلك التصريح تحديداً أهمية خاصة هو أن كوركر يعتبر من أهم حلفاء ترامب بمجلس الشيوخ بل كان مرشحاً لمنصب وزير الخارجية قبل أن يعتذر.

أما المجلات الثلاث، فقد استخدمت اثنتان، التايم والنيويوركر، منها غطاء الرأس الأبيض الطويل الذي كان يرتديه أعضاء منظمة كوكلاكس كلان العنصرية في صور بالغة الدلالة تصور أحدها ترامب كبوق لتلك الجماعات.

أما الإيكونومست البريطانية فقد استخدمت العلم الأميركي مختلطاً بشعار النازية. والحقيقة أن خطورة تصريحات ترامب هي أنها أعطت دفعة قوية للجماعات العنصرية التي ظلت لعقود على هامش الحياة السياسية الأميركية.

لكن وقائع القصة كلها تشير إلى نقطة تحول مهمة، فأعضاء حزب الرئيس صاروا أكثر جرأة على انتقاده بينما استعدى ترامب حلفاء طبيعيين له مثل رجال الأعمال والمؤسسة العسكرية. السؤال إذن، هل تتلاشى هذه الأزمة الكبرى كسابقاتها أم يظل شبحها يطارده طوال فترة رئاسته؟

Email