الحياة بين زمنين

ت + ت - الحجم الطبيعي

في سنة 1936، أي منذ نحو ثمانين عاماً، أخرج شارلي شابلن، ذلك الفنان العبقري، فيلماً صامتاً اسمه الحياة الحديثة، وكان بين أسباب شهرة الفيلم أنه كان من أوائل الأعمال الفنية التي تسخر من سطوة الآلة على الإنسان، وتنبه إلى خطورة نمو الصناعة الحديثة على العلاقات الاجتماعية وعلى حرية الفرد.

كان من المناظر الشهيرة في الفيلم منظر ذلك العامل الضئيل الحجم، والضئيل الأهمية، إذ يأتي به صاحب المصنع ليجرب عليه اختراعاً حديثاً، الغرض منه أن يستمر العامل في عمله حتى أثناء تناول الطعام.

كان المنظر بالغ الطرافة وعميق المغزى، إذ يصور المفارقة الصارخة بين الآلة الفاقدة لأي ذكاء، والإنسان الذي يحتاج لممارسة ذكائه الفطري وهو في سبيل إشباع حاجاته الأساسية.

ارتفعت اليد الميكانيكية لتضع قطعة اللحم في فم العامل، ولكن يداً ميكانيكية أخرى أخطأت بأن بدأت تطعم العامل في الوقت نفسه قطعة الحلوى المغطاة بالقشطة، فإذا بها تغطي وجهه كله وتذهب القشطة إلى الجبهة والعينين بدلاً من الفم.

كانت مثل هذه السخرية في محلها منذ ثمانين أو تسعين عاماً، كما كانت تسمية الفيلم «الحياة الحديثة» ملائمة جداً، إذ كان عنصر أساس من هذه الحياة الحديثة انتشار استخدام الآلة في النشاط الاقتصادي، وما ينطوي هذا عليه من تهديد لإنسانية الفرد.

ولكن عندما يتذكر المرء هذا الفيلم الآن ويسأل نفسه عما إذا كان تهديد الآلة للحياة الإنسانية ما زال هو أكثر السمات الحديثة خطراً، يبدو أن الأرجح أن أشياء كثيرة أخرى قد حدثت خلال الثمانية أو التسعة عقود الماضية، وقد تنطوي على أخطار أكبر.

في ثلاثينيات القرن الماضي كان التلفزيون قد تم اختراعه لكنه لم يكن قد انتشر استخدامه بعد، وقد ظل التلفزيون مدة طويلة حتى بعد انتشاره لا يعتمد اعتماداً كبيراً على الإعلانات في توليد الدخل أو في تمويل ما يقدمه من برامج.

الآن أصبح من سمات حياتنا كثرة الإعلانات، سواء من خلال الشاشة الصغيرة أو في الأماكن العامة والشوارع، وقد يرى كثيرون، وأنا منهم، أن كثرة الإعلانات والإلحاح على تسويق السلع قد يكون لهما من الآثار التي لا تقل خطراً عن انتشار الآلة.

هناك أيضاً ما يسمى بثورة المعلومات والاتصالات، بما في ذلك انتشار وسائل التواصل الاجتماعي، إذ أصبح لوسائل الاتصال الحديثة سطوة تشبه سطوة الآلة، وأصبحت تعكر حياتنا مثلما فعلت الآله من قبل.

هناك بالطبع من يستنكر هذا القول، إذ يعتبر وسائل الاتصال الحديثة، ومن بينها وسائل التواصل الاجتماعي، مكسباً عظيماً وعاملاً من عوامل زيادة حرية الإنسان، إذ أنها بما تسمح به من زيادة المعلومات توسع دائرة الاختيار المتاحة أمام الفرد.

أظن أن الخطأ الكامن هنا يشبه الخطأ الذي يرتكبه علماء الاقتصاد عندما يعرفون علمهم بأنه العلم الذي يبحث في استخدام الموارد المحدودة المتاحة لإشباع حاجات الإنسان غير المحدودة، ويعتبرون أن أي زيادة في كمية الموارد المتاحة تقدما نحو تحقيق المزيد من الرفاهية للإنسان.

ربما كان الأقرب للحقيقة أن حاجات الإنسان محدودة بدورها وأن إشباع بعضها كثيراً ما يكون على حساب التضحية بإشباع بعضها لآخر.

نحن نصادف مثلاً واضحاً جداً على ذلك في حالة الثري الذي يزداد ثراءً ولا تزداد رفاهيته نتيجة لذلك، إذ أن استخدام المال الإضافي يكون عادة بإحلال إشباع محل آخر وليس بتحقيق إشباع إضافي.

قدرة الإنسان على الإفادة من تحصيل معلومات جديدة قد تكون شبيهة جداً بقدرته على تحقيق المزيد من الرفاهية عن طريق المزيد من المال، كلا القدرتين محدودتان لأن الإنسان نفسه ذو قدرات محدودة، مادية وعقلياً ونفسياً... فالتقدم في اتجاه يكون عادة مقابل التأخر في نواحٍ أخرى.

أظن أن الإنسان قد أدرك خلال الثمانين عاماً التي انقضت منذ ظهور فيلم شارلي شابلن، أضرار انتشار استخدام الآلة في حياتنا الحديثة، ولكن أظن أيضاً أنه لم يدرك بعد بدرجة كافية، خطر زيادة المعلومات وثورة الاتصالات على الرفاهية الإنسانية.

 

 

Email