هل تضحي قطر باستقلالها الوطني؟

ت + ت - الحجم الطبيعي

كما هو متوقع تواصل الدوحة التنصل من الاستجابة للمطالب العربية التي طرحت عليها بهدف إعادة الرشد إلى سياسات قطر، وبالتالي عودتها إلى التغريد داخل السرب العربي. هذا الاستنتاج مبني على المؤشرات المبكرة التي رافقت ردود الفعل القطرية منذ بداية الأزمة، وأغلب الظن أنها ردود انفعالية هيستيرية تفتقد إلى الكياسة والفطنة في التعامل مع الأزمات السياسية والدبلوماسية الكبرى، فضلاً عن سيرها في الاتجاه المعاكس في غياب أو تغييب صريح لبوصلة استشعار المخاطر، وكذلك هي تصرفات معتادة ممن «تأخذهم العزة بالإثم».

وقد كثرت التحليلات والمقالات من أهل الاختصاص تتحدث بمنتهى الحرص عن حتمية التعامل بكل حصافة وصبر مع الأزمة لخصوصية العلاقات مع الشعب القطري وللطبيعة الجيو- سياسية التي تحكم العلاقات القطرية مع محيطها الخليجي وتحتم التعايش السلمي المشترك دون تدخلات مغرضة أو تجييش عوامل التخريب على اختلاف أشكالها وأدواتها ضد الدول الشقيقة.

وهذا ما يدفع تلك التحليلات إلى التأكيد على أن قطر تعاني من غشاوة البصر وغياب البصيرة التي تجعلها تردد باستمرار أنها ترفض كل محاولات «الوصاية» من جانب الدول المتضررة؛ ولكن الغريب أنها لا تدرك أو تدرك وتتغافل أنها مارست بتدخلاتها العديدة ما يتجاوز الوصاية بكثير على دول عربية شقيقة.

وقد اجتهد الكثيرون في محاولات إثناء قطر عن سياساتها تلك والتخلي عن العناد الذي يساعد كثيراً على إنهاء الأزمة بالاستماع إلى صوت العقل، وبرغم أن الكتابة السياسية عادة ما تميل إلى تحليل المواقف وتحديد المدخلات والمخرجات واستشراف المستقبل بكل احتمالاته؛ كما يجب أن تبتعد عن الوعظ والنصح والإرشاد، إلا أنه في مثل هذه الظروف ينبغي على كل الأطراف وأصحاب الأصوات الرشيدة والحكيمة بذل كل ما هو ممكن لإعادة الدولة القطرية إلى محيطها العربي والخليجي منه على وجه الخصوص.

ولن يتسنى تحقيق ذلك إلا بإدراك قطر أن ما هو مطلوب منها من تغيير في سياساتها وتبديل في توجهاتها لن يحقق صالح الدول المستهدفة فحسب، ولكنه يحقق أيضاً المصالح العليا للدولة القطرية، بنزع فتيل الأزمة القطرية قبل أن تتفاقم وتدخل في أطوار غير مرغوبة ستلحق في الغالب أضراراً جسيمة بالدولة القطرية لن تقوى على احتمالها، ويجب أن تدرك الدوحة أن ما هو مطلوب منها ليس شروطاً ولا هي وصاية وإنما هي رؤية عاقلة وحكيمة من الأشقاء والأصدقاء لإنقاذ الدولة القطرية من تصرفاتها، وليس في هذا ما يعيب، فكثيراً ما انطلقت الجملة الشهيرة «وقفة مع الصديق» لتصحيح الأوضاع في مناسبات عدة مع بروز مؤشرات الخطر.

ما يطلبه الأشقاء من قطر يعيدها «معززة مكرمة» إلى محيطها العربي لتمارس دوراً رشيداً في إطار الأسرة العربية بدلاً من عزلها وتصعيد مآسي شعبها حاضراً ومستقبلاً، فالرؤى القاصرة التي لا ترجح المنطق في حسابات المكسب والخسارة ستأتي بكل تأكيد بنتائج عكسية غير مرغوبة، والتفكير المنطقي الهادئ الذي يجعل نصب أعين العقلاء حقائق الماضي والمستقبل كفيل بأن يعيد قطر إلى جادة الصواب، ومرة أخرى لا عيب ولا ضير في ذلك، فالرجوع إلى الحق فضيلة كما يقول العاقلون دوماً.

ومن أهم خطوات العودة للحق حتمية استقواء الدولة القطرية بمحيطها العربي الذي يفتح أمامها الباب لممارسة دورها في مسارات رشيدة بدلاً من الرهان على أطراف الجوار العربي وعلى رأسها إيران وتركيا لخلق تكتل جديد تظن قطر أنه سيوفر لها الملاذ الآمن في مواجهة شقيقاتها العربيات، إلا أنها يجب أن تدرك أنها تلعب بالنار التي قد تحرق أطراف أصابعها وتصل إلى أجزاء غير متوقعة، فطهران وأنقرة مهما فعلتا لن تستطيعان تحمل أعباء وتبعات العزلة القطرية إلى ما لا نهاية، فلديهما ما يكفي من مشكلات وتوترات داخلية وإقليمية لا حصر لها ولن يكون في مقدورهما تحمل مشكلات دولة أخرى.

ومن السهل لأي ذي عينين مبصرتين أن يدرك من أول وهلة أن لعبة المصالح والمكايدة هي التي تدفع إيران وتركيا إلى تكثيف محاولات «الصيد في الماء العكر» تحقيقاً لأكبر قدر من المصالح والمنافع الذاتية سياسياً واقتصادياً، والحسابات القطرية في هذا الشأن تبعث على الأسف وتثير الشفقة، لأنها بالفعل في هذا الموقف كالمستجير من الرمضاء بالنار إذا جاز تطابق المثل مع الموقف الراهن، فقد ترى الدوحة في «الحماية» التركية – الإيرانية مخرجاً لها، ولكنها مرة أخرى تقع في فخ الحسابات الخاطئة والتصرفات اللامنطقية.

فهي بذلك وعن طيب خاطر تلقي بنفسها تحت مظلة الوصاية الأجنبية وتتنازل عن جانب كبير من استقلالها الوطني لحساب قوى إقليمية غير عربية باحثة عن أدوار مشبوهة في ظروف غير طبيعية، فلا شك في أن المبادرات المتتالية من جانب طهران وأنقرة لتقديم الدعم السياسي والعسكري والاقتصادي واللوجيستي للدوحة لن يكون لوجه الله ولكنها ستدفع ثمناً باهظاً من سيادتها ومواردها وكذلك من استقلالها، فقد سارت الدوحة في الاتجاه المعاكس ولم يكن مطلوباً منها سوى العودة لمحيطها الخليجي – العربي والاستماع لصوت الحكمة والاستجابة للمطالب المشروعة من الدول الشقيقة، أمام قطر طريق سهل يعيد إليها كرامتها ومكانتها واحترامها، ولكن يبدو أنها اختارت الطريق الصعب الذي سيجلب عليها في الغالب الكثير من الويلات المنظورة وغير المنظورة.

Email