فقيد المؤسسة السياسية الأميركية

ت + ت - الحجم الطبيعي

غيّب الموت أحد أعمدة مؤسسة السياسة الخارجية الأميركية الشهر الماضي، بعد أن خدم أعواماً طويلة في المجالات الأكاديمية والسياسة الخارجية والأمن القومي. ويعتبر بريجينسكي أحد اثنين من كبار مؤسسة السياسة الخارجية الأميركية؛ والثاني بالطبع هو هنري كيسنجر.

وقد تشكلت مؤسسة السياسة الخارجية الأميركية بشكل واضح مع نهايات الحرب العالمية الثانية، والتي استشرف كثير من أبناء المؤسسة الفرصة التاريخية لجعل القرن العشرين قرناً أميركياً بامتياز على أنقاض الهيمنة البريطانية والأوروبية عموماً. وقد شغل هولا مناصب متقدمة في صنع السياسة الأمنية والخارجية للولايات المتحدة.

واجتماعياً تتكون المؤسسة من الرجال البيض المسيحيين البروتستانت ومن الشمال الشرقي للولايات المتحدة (معقل الليبرالية الأميركية) وخريجي جامعات النخبة مثل هارفرد وبرينستون وييل. وقد ارتبط بعضهم ببعض عبر المدارس الداخلية أو الجامعات أو الوول ستريت، شارع المال والأعمال. وقد تمرست هذه الفئة في مجالات التجارة والاستثمار والقانون والوظائف الحكومية.

وقد شكلت هذه الخلفية الاجتماعية النظرة العالمية لهولا النخب، الذين انشأؤا النظام العالمي تحت قيادة الولايات المتحدة بعد الحرب العالمية الثانية. ويرى الكاتبان ولتر اساكسون وايفن توماس في كتابهما «الحكماء»، أن هذه النخبة أسست «شبكة تربط الوول ستريت، واشنطن، مؤسسات متميزة، ونواد معينة».

ويستشهد الكاتبان بمقولة لأحد مساعدي الرئيس جون كيندي الذي ذكر أن المجموعات المالية والقانونية في نيويورك هي قلب المؤسسة الأميركية، وأن مؤسسات بحثية مثل فورد وروكفلر وكارنيجي مجلس العلاقات الخارجية واجهة للمؤسسة الأميركية.

وقد صاغت هذه المجموعة نظاماً دولياً قائم على اقتصاد السوق والليبرالية السياسية. وترى نخبة المؤسسة الأميركية أن الاقتصاد الحر يخلق تبادلاً نفعياً يجعل من الحروب اختيار غير مجد؛ إضافة إلى أن الأنظمة الديمقراطية لا تتحارب. وأخيراً، إن قيادة الولايات المتحدة للنظام الدولي ليس أمراً مستحباً فحسب، بل ضرورة لا مناص منها.

وبريجينسكي الآتي من خارج المؤسسة الأميركي ومن خلفية اجتماعية مختلقة عن أساطينها، استطاع أن يخترقها وبجدارة. وكما هو معروف فإن بريجينسكي أتى مهاجراً إلى أميركا الشمالية، وقد ولد في بولندا في العام 1928 لأسرة أرستقراطية كاثوليكية. وانتقل مع والديه إلى كندا حيث كان أبوه يخدم كونه دبلوماسياً فيها. وحين سيطر الاتحاد السوفييتي على بولندا في نهاية الحرب العالمية الثانية، قرر والده الاستقرار في كندا بدلاً من الرجوع إلى موطنه بولندا.

وقد درس بريجينسكي في جامعة ميغل الشهيرة في كندا. وكان ينوي إتمام دراسته في بريطانيا إلا أن الحظ لم يحالفه، وذهب إلى جامعة هارفرد للحصول على الدكتوراه في العلاقات الدولية. واكتسبت الدراسات الدولية أهمية حينها بسبب استعار الحرب الباردة بين القوتين العظمتين الولايات المتحدة والاتحاد السوفييتي. واستمر في التدريس في الجامعة بعد تخرجه إلا أنه انتقل إلى جامعة شهيرة أخرى في نيويورك وهي جامعة كولومبيا.

وقد أثر وقوع موطنه بولندا تحت النفوذ السوفييتي على توجه بريجينسكي في السياسة الخارجية. وأصبح بريجينسكي من أكثر المندفعين في الحرب الباردة ضد موسكو وحليفاتها. وقد أدى موقفه هذا إلى تأييد حرب فيتنام حين شغل منصب في الخارجية الأميركية ولكنه سرعان ما استقال حين وسع ليندن جونسون الحرب في الهند الصينية.

وقد ظل بريجينسكي يتنقل من المجال الأكاديمي إلى العمل الحكومي في مجال السياسة الخارجية. وقد أسس في العام 1973 مع ديفيد روكفلر الملياردير الشهير «اللجنة الثلاثية»، وهي منظمة غير حزبية تعمل على تنسيق العلاقات بين أقطاب الاقتصاد والنظام الدولي المتمثلة بالولايات المتحدة وأوروبا واليابان.

وقد شكلت هذه اللجنة مفترق طرق بالنسبة لبريجينسكي، حيث تعرف من خلالها على حاكم ولاية جورجيا، جيمي كارتر، والذي بدا نجمه بالصعود. وقد اختاره الأخير مستشاراً في السياسة الخارجية أثناء حملته الانتخابية الرئاسية والتي تكللت بالنجاح في العام 1976.

وبعد انتخابه رئيساً، عين كارتر بريجينسكي مستشاراً للأمن القومي، ولعب الأخير دوراً بارزاً في صنع السياسة الخارجية الأميركية في إدارة كارتر. وكان توجهاً متشدداً نحو الاتحاد السوفييتي وتعاطفاً مع شرق أوروبا والذي كانت تئن تحت وطأة موسكو. وقد كان لدوره النشط في السياسة الخارجية أن تصادم مع وزير الخارجية حينها سايروس فانس.

ومن أهم الأدوار الذي لعبها بريجينسكي كانت تلك المتعلقة بالثورة الإيرانية والاحتلال السوفييتي لأفغانستان ودعم الجهاد الأفغاني، وتطبيع العلاقات مع الصين واتفاقية كامب ديفيد ومعاهدة الصلح المصري- الإسرائيلي.

ولعل ضيق النظر في معادة الاتحاد السوفييتي الذي كاد أن يكون عداء وجدانياً بسبب رزوح موطنه بولندا تحت النفوذ السوفييتي وبسبب بغضه للنظام الشمولي المناوئ لليبرالية أدت إلى تبنية سياسات قصيرة النظر.

ويؤخذ على بريجينسكي دعمه للمجاهدين الأفغان وان أتت أكلها في ما يتعلق بسقوط الاتحاد السوفييتي إلا أن الدعم في نهاية المطاف أدى إلى بروز الحركات الجهادية، ولا سيما القاعدة. كما يلام في تحمسه للعملية الفاشلة لإنقاذ الرهائن الدبلوماسيين في إيران والتي قد تكون سبباً في فشل إعادة انتخاب كارتر رئيساً لفترة ثانية.

ومهما كان من الأمر فإن سبر أغوار شخصية كبريجينسكي تجعلنا نفهم استراتيجية الولايات المتحدة سابقاً ولاحقاً من خلال فهم توجهات من كان يدير دفة العلاقات الدولية في واشنطن.

 

 

Email