حق المرء في أن يترك وشأنه

ت + ت - الحجم الطبيعي

منذ سنوات عدة شاهدت فيلماً سينمائياً قصيراً من الرسوم المتحركة، مما تعرضه دور السينما أحياناً قبل الفيلم الرئيسي. أعود إلى تذكره من حين لآخر، وأعيد التفكير فيه.

قصة الفيلم بسيطة للغاية. رجل يستيقظ من نومه منزعجاً في الصباح الباكر على صوت دخول شيء من تحت عقب الباب، فيذهب لتقصي الأمر فيجد أن شخصاً يحاول إدخال بعض الصحف إلى بيته.

يمنع الرجل دخول الصحف، ويجلب قطعة من الخشب وبعض المسامير ويستخدمها في سد الفراغ الذي يمكن أن تدخل منه الصحف. ولكنه يفاجأ بعد قليل بنفس المحاولة تعود من جديد، ولكن هذه المرة من الشباك، يأتي الرجل بقطعة خشب أخرى ويلقي بالصحف من الشباك ثم يحكم إغلاقه ليتأكد من عدم إمكانية تكرار المحاولة.

لا أذكر كيف انتهى الفيلم، ولكني أظن أن الأمر يتلخص في أن هناك من يحاول أن يفرض على غيره معرفة أخبار لا يريد معرفتها، وقد ينجح في مقاومة هذه المحاولة أو لا ينجح.

إني أفهم قصة الفيلم على أنها ترمز لما تمتلئ به الحياة الحديثة من محاولات لاقتحام حياتنا والاعتداء على خصوصياتنا، ليس فقط بالصحف بل وبمختلف ما يسمى بوسائل الإعلام من تليفزيون إلى بريد إلكتروني إلى الهاتف الثابت والمحمول...إلخ.

إني لا أفتح التليفزيون إلا نادراً، ولكني أعرف كثيرين ممن يطيلون الجلوس أمامه فيتم «غزوهم» على هذا النحو، بإعلانات لم يقصد مشاهدتها، وبرامج أو مسلسلات يلح منتجوها على الناس لمشاهدتها، فيقع كثيرون في الفخ، ولكني لا أستطيع أن أمتنع عن رفع سماعة الهاتف لمعرفة من الذي يريد الاتصال بي، وعن فتح بريدي الإلكتروني، عبر فترات قصيرة، للتحقق مما إذا كانت هناك رسائل جديدة، وهكذا.

لاحظت مع مرور الوقت على متابعتي لما تنشره الصحف وما يأتي في البريد الإلكتروني أن الجزء الأكبر من هذا وذاك لا أهمية له على الإطلاق، وأنني لن أخسر شيئاً مطلقاً لو لم أطلع عليه، وهو ما يجب أن يثير الاستغراب من استمرار حدوثه. فإذا كانت الفائدة محدودة حقاً أو غير موجودة أصلاً فلماذا هذا الإصرار على «عدم ترك المرء وشأنه»؟ وما سر استعدادنا لتعريض أنفسنا لهذا الاعتداء على أذهاننا وخصوصياتنا؟

كتب بعض المعلقين على آثار الحياة الحديثة على الإنسان أن كل ما يصبح ممكناً بعد أن كان مستحيلاً، يصبح أيضاً مرغوباً فيه، فنحن قد نرغب في شيء لمجرد أنه قد أصبح في متناول اليد بعد أن كان ممنوعاً أو غير ممكن التحقق، ومن ثم فهناك فرص كبيرة لأن يتجرأ الناس «ولا يتركوك وشأنك» لمجرد أن هذا الاقتحام لحياتك الخاصة قد أصبح ممكناً تكنولوجياً. فهل نحن حقاً فريسة سهلة إلى هذا الحد؟

جهاز التليفزيون هو الآن من أكثر هذه الوسائل فاعلية في «عدم ترك المرء وشأنه». ولكن البريد الإلكتروني ووسائل التواصل الاجتماعي تزداد أيضاً أهميتها يوماً بعد يوم، ومن ثم فالأمل ضعيف في أن نتمكن من المحافظة على خصوصياتنا مع مرور الوقت.

بل الأرجح أن نفقد هذه القدرة أكثر فأكثر، مع تطور التكنولوجيا الحديثة وانتشارها. إن ما كنا نفعله ونحن نسكن الحارات الضيقة فنتبادل أخبار الناس عبر الشرفات التي يكاد يلامس بعضها بعضاً، أصبحنا نفعله الآن عن طريق وسائل الإعلام.

لا بد أن لهذا الأمر أصلاً نفسياً عميقاً؛ فالحقيقة أن التكنولوجيا الحديثة، مهما بدا لنا وكأنها تمكننا من فعل ما لم نكن نفعله من قبل لا تفعل في معظم الأحيان أكثر من تقديم شيء قديم في ثوب جديد، أو صب شراب قديم في أوانٍ جديدة.

الإنسان بطبعه حيوان اجتماعي لا يستطيع أن يعيش بمفرده وقد قيل بحق إن من أقصى العقوبات عقوبة الحبس الانفرادي. وجزء كبير من العيش مع الآخرين يتكون من متابعة أخبارهم والسماح لهم بمتابعة أخبارنا. نعم، كثيراً ما يعبر المرء عن رغبته في أن يترك وشأنه، ولكن كم تستمر يا ترى هذه الرغبة؟

قرأت مرة ملاحظة لبعض الكتاب هي أن راكب الطائرة عندما يعرف مكان مقعده لدى صعوده للطائرة، ينتابه في البداية خوف أن يرى شخصاً جالساً في المقعد المجاور من أن يضطر إلى مبادلته الحديث خلال الرحلة، وهو لا يرغب إلا في «أن يترك وشأنه». ولكن الذي يحدث هو أنه لا ينقضي وقت طويل على بداية الرحلة حتى ترى الشخصين وقد بدأ بينهما الحديث، أو حتى انهمكا فيه.

لقد عوَّدت الحضارة الحديثة الناس أن يقضوا جزءاً كبيراً من وقتهم وهم مكتفون بأنفسهم، بعكس الأمم التي تعيش حياة أقل تحضراً. ولكن ألم تلاحظ كيف يعبر أحياناً بعض القادمين من دول تعتبر «أكثر تقدماً» عن إعجابهم بنمط العلاقات الاجتماعية لدى شعوب أقل منها تقدماً في مضمار العلاقات الاجتماعية؟ ويتمنوا أن يكون بإمكانهم الظفر بمثل هذه العلاقات في بلادهم؟

من المؤكد إذاً أنه وإن كانت رغبة المرء في أن يترك وشأنه رغبة حقيقية، فإنها كثيراً تختلط بالرغبة العكسية بالضبط.

 

 

Email